السودان، رهانات خاسرة وبيئة مضطربة

اضغط لتحميل الملف

مع مرور قرابة 3 سنوات على الانقلاب على البشير وإقصاء الحركة الإسلامية من المشهد السياسي، شهد السودان العديد من التغيرات الرئيسية على مستوى التحالفات الداخلية والخارجية والفاعلين في المشهد، فضلًا عن اضطراب القرارات السياسية والأمنية للحكام الجدد. إلا أنّه بعد محاولة “إزالة تمكين الإسلاميين من المؤسسات” على مدار عامين ونصف، فقد عاد الإسلاميون من جديد عودًا جزئيًّا واكتسبوا جزءًا من نفوذهم الذي سُلب منهم عام 2019م، في الوقت الذي انقض فيه العسكريون على الشراكة الهشة بينهم وبين المدنيين الممثلين في التحالف الحاكم والذي صيغ عقده في يوليو 2019م.

تمثل عودة جهاز المخابرات العامة للواجهة من جديد أحد أهم التطورات على الساحة السودانية، نظرًا لقدرة الجهاز على ضبط الأوضاع الداخلية وفرض الاستقرار، وكذلك يتيح هامشًا من الحركة للتنظيمات الإسلامية المتواجدة على الساحة. وفي هذه الورقة، نستعرض أبرز ملامح المشهد السوداني الحالي بإيجاز، مع رسم سيناريوهات تطور المشهد في الفترة المقبلة.

أولًا: تحالفات هشة وتغول عسكري

انتهى عام 2021م، بانقضاض العسكريين على الشراكة مع المدنيين نظرًا لحالة الاضطراب المتنامية على كل الأصعدة والتشرذم بين مختلف القوى المدنية. وكان على رأس القضايا المثارة الوضع الاقتصادي المتردي والترتيبات الأمنية واستكمال اتفاق السلام وتعدد مراكز صنع القرار وتضاربها والوضع الأمني والتوترات الاجتماعية خاصة بعد تفاقم أزمة الشرق، وكذلك الانقسامات داخل الكتلة الانتقالية وعدم وجود مركز موحد للقرار وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال، وهو ما استغله المكون العسكري في تبرير موقفه.

هذا التفكك في الائتلاف الحاكم بعد عزل البشير، أسس لمتغيرين رئيسيين هيمنا على الأحداث طيلة الـ 6 أشهر الماضية؛ الأول هو إعادة الاعتبار للإسلاميين من جديد بعيدًا عن اسم المؤتمر الوطني، فعادوا لقيادة جهاز المخابرات وأسسوا تحالفا من 10 مكونات إسلامية على رأسهم الحركة الإسلامية، وظهر علي كرتي أمين عام الحركة في حوار تلفزيوني لأول مرة منذ الانقلاب ليتحدث عن رؤيتهم ودورهم في المشهد.

وعلى الجانب الآخر، أدارت القوى الدولية عبر اللجنة الثلاثية حوارًا بين المدنيين والعسكريين لبحث إعادة الشراكة مرة أخرى، وهو ما انتهى الشهر الماضي بانسحاب العسكريين من هذا الحوار. ولم يقتصر دور الدول الأوروبية والولايات المتحدة على ذلك، بل مارسوا ضغوطًا اقتصادية وسياسية هائلة لإثناء العسكريين عن موقفهم. ويجب الإشارة إلى انحياز روسيا والصين للعسكريين، وردًا للجميل صرح البرهان في ديسمبر 2021م بأن الاتفاق مع موسكو حول إنشاء قاعدة بحرية روسية في ميناء بورتسودان قيد النقاش، وزاد من حدة التوتر الحرب الأوكرانية الروسية وزيارة حميدتي لروسيا عشية الغزو الأوكراني، مما أثار حفيظة الغربيين.

واستخدم العسكريون مناورة لتخفيف الاحتقان الغربي ضدهم، فأبدوا انفتاحًا على الحوار الوطني، إلا أنّ فشل الآلية الثلاثية في استكمال الحوار بين الأطراف المتشاكسة على مدار عام ونصف، صب في صالح المكون العسكري، إذ إنّه يبدي انفتاحه على الحوار فقط لإرسال رسالة للغربيين أنّه ليس ضد الحوار واستكمال الانتقال، ولكن أعاق عمل لجنة الحوار عدم وجود جسم سياسي متماسك يمتلك كتلة كبيرة يمكن التحاور معه، فالكيانات الصغيرة لم تتفق على تصور واحد لحل الأزمة، مما يجعل الجميع يدور في حلقات مفرغة حتى تقر الدول الغربية بالتمكين للعسكريين.

وفجأة أعلن رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان في بيان مقتضب بتاريخ 4 يوليو، أنّ المؤسسة العسكرية قررت الانسحاب من الحوار الذي يرعاه وسطاء دوليون، من أجل إفساح المجال أمام القوى السياسية للاتفاق على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة تتولى إكمال متطلبات المرحلة الانتقالية، وأكد أنّ “القوات المسلحة لن تكون مطية لأي جهة سياسية للوصول إلى حكم البلاد”، وتعهد بحل مجلس السيادة عقب تشكيل الحكومة المدنية مباشرة، والاكتفاء بتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة يضم الجيش والدعم السريع، يتولى القيادة العليا للقوات النظامية ويكون مسؤولًا عن مهام الأمن والدفاع، وما يتعلق بهما من مسؤوليات. وبذلك ألقى العسكريون الكرة في ملعب القوى السياسية وإخراج العسكريين من معادلة البعثات الأممية، لتركز جهودها مع القوى المدنية والتي لن تفضي إلى شيء.

دائمًا ما يناور العسكريون السودانيون في تصريحاتهم القوى الغربية، في حين أنّ تصرفاتهم وتكتيكاتهم تكون عكس ما يُظهرون، فمثلًا يتردد على ألسنتهم دائمًا، أنّهم لا يريدون حكم السودان، وأنّهم مستعدون للخروج من المشهد السياسي متى ما توفر وفاق وطني، وأنّ القوات المسلحة ستكون أول المنصاعين لخيار الانتخابات القادمة، وأنّه لا يحق لأي جهة أنْ تتحدث عن إصلاح أو هيكلة المؤسسة العسكرية إلا إذا كانت جهة منتخبة. وهذا كلام يرفضه الواقع وتاريخ العسكر السودانيين فهو لا يتخطى كونه مناورة تكتيكية لإطالة أمد السيطرة دون ضغوط غربية.

ثانيًا: حميدتي والبرهان، تنافس مكتوم

منذ الانقلاب على البشير عام 2019م، ويتقاسم حميدتي والبرهان الأدوار فيما بينهما، فمثلًا خلال عامين ونصف (قبل تفرد العسكر بالحكم في 25 أكتوبر)، لعب حميدتي دور المتصدي للقوى المدنية ومواجهة معظم النيران الموجهة ضد النظام، وفي الوقت نفسه عمل البرهان على التواصل مع المدنيين والعمل مع رئيس الوزراء وقتها “حمدوك”، وبعد 25 أكتوبر قاما بتبديل الأدوار وتصدر البرهان المشهد بصفته رأس السلطة في حين خفت ذكر حميدتي. ويمكن وصف علاقة الرجلين بالتحالف التكتيكي الهش، حيث لا يستطيع أي منهما التخلي عن الآخر في سبيل ضبط معادلة القوى داخل السودان المضطرب. وفي الوقت نفسه كلاهما لديه طموح رئاسي للتفرد بحكم السودان، فهما متنافسان بحكم الواقع. والأزمة ليست بين البرهان وحميدتي بقدر أنّها بين حميدتي وقادة الجيش الأخرين وعلى رأسهم عضو مجلس السيادة “الكباشي”، بسبب التحفظ الكبير من قيادات الجيش على التعامل مع حميدتي باعتباره عسكريًّا، ويرون أنّه يسعى لتفتيت المؤسسة العسكرية وإضعاف دورها.

فبالرغم من ترأس حميدتي للجنة العسكرية التي تتفاوض مع القوى المدنية وكذلك الحوار الوطني، فإنّه قرر أواخر يونيو قبيل إعلان البرهان الانسحاب من الحوار، والبقاء في دارفور مدة 3 أشهر، لمعالجة كل القضايا والمشكلات القبلية في ولاية غرب دارفور، إلا أنّهم اختلفا حول هذا القرار، ومن الواضح أنّ حميدتي يرغب بإبعاد نفسه عن المعترك السياسي والتفاوض مع القوى المدنية في الخرطوم حتى يحافظ على أسهمه في المشهد، وعدم توتر علاقاته بالحركات المسلحة أو باقي الأطراف العسكرية. وأصدر حميدتي بيانًا تعقيبيًّا على قرارات البرهان الخاصة بالانسحاب من الحوار بعد قرابة 20 يومًا من صدورها، ذكر فيه أنّهم تشاورا قبل الإعلان وأنّه يؤيد ما ورد فيه، ولكن مفردات البيان ترسخ صورة أنّ الدعم السريع كيان مستقل وغير تابع للجيش باستخدامه مصطلحات نحن في الدعم السريع وهم في الجيش.

ثالثًا: جهاز الأمن، وعودة النفوذ

تمثل عودة جهاز المخابرات العامة للواجهة من جديد أحد أهم التطورات على الساحة السودانية، نظرًا لقدرة الجهاز على ضبط الأوضاع الداخلية وفرض الاستقرار، وكذلك تحجيم نشاط المجموعات اليسارية والشيوعية النشطة في مواجهة المكون العسكري، ففي أواخر شهر نوفمبر الماضي، أُعلن عن تولي الفريق أول “أحمد مفضل” قيادة جهاز المخابرات بعدما كان يشغل منصب نائب رئيس الجهاز، و”مفضل” هو أحد كوادر الحركة الإسلامية ومن المحسوبين على نظام البشير وشغل منصب مدير هيئة المخابرات الخارجية في جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وشغل أيضًا منصب والي جنوب كردفان في آخر عهد البشير. وبعد توليه منصب مدير جهاز المخابرات العامة (سابقًا كان يسمى الأمن والمخابرات الوطني) أعلن عن عزم الجهاز تقديم مبادرات وطنية للمساهمة في تجاوز التحديات التي تمر بها البلاد في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية كافة.

ومع تفاقم الاضطراب السياسي والأمني، منحهم البرهان سلطات اعتقال الأشخاص، والتفتيش، والرقابة على الممتلكات والمنشآت، والحجز على الأموال، وحظر أو تنظيم حركة الأشخاص، وبعدها منح عناصر القوات النظامية حصانات ضد المساءلة القانونية إلا بإذن منه خلال تنفيذها أوامر الطوارئ. أعقب ذلك بداية العام الحالي إعلان مجلس الدفاع والأمن السوداني تأسيس قوة خاصة لمكافحة الإرهاب، لمجابهة التهديدات المحتملة دون الإعلان عن تفاصيل حول تعداد هذه القوات والأطراف التي تتشكل منها في ظل وجود إدارة كاملة بجهاز الأمن معنية بمكافحة الإرهاب.

تململ في صفوف العسكريين

منتصف شهر أبريل، أصدر رئيس هيئة أركان الجيش، قرارًا بحظر سفر جميع الضباط الهاربين من الخدمة إلى خارج البلاد ، ويطبق القرار بمجرد الغياب عن العمل مدة 7 أيام متتالية، ويأتي القرار في سياق تفاقم الأوضاع الاقتصادية وضعف وتدني رواتب صغار الضباط بالجيش، في حين ينعم كبار الضباط بامتيازات الشركات العسكرية وغيرها، بالإضافة إلى المرتبات المجزية التي يحصل عليها أفراد الدعم السريع مقارنة بالجيش، وهذا كان أحد دوافع حالة الاحتقان بمعسكر الشجرة في سبتمبر الماضي، أو ما عُرف بمحاولة انقلاب المدرعات.

وبالرغم من ذلك أعلن حميدتي في يونيو الماضي، عن استقطاع أموال من رواتب القوات النظامية “الجيش، والشرطة، والدعم السريع وجهاز المخابرات العامة”، لإنشاء صندوق خيري لدعم إعادة النازحين ومُعالجة الأوضاع الإنسانية بولاية غرب دارفور، قائلًا إنّه أجرى مشاورات مع رئيس مجلس السيادة واتّفقا على استقطاع مبلغ ألفي جنيه من كل ضابط في القوات المسلحة والشرطة، ومبلغ ثلاثة آلاف جنيه من كل ضابط في قوات الدعم السريع، ومبلغ ألف جنيه من كل فرد بالقوات النظامية المختلفة. هذه الإجراءات تزيد من حاجة الضباط من ذوي الرتب العسكرية المتوسطة والصغرى إلى مصادر دخل إضافية مع عدم إمكانية سفرهم إلى الخارج، مما يزيد من حدة الاحتقان داخل المؤسسة العسكرية.

رابعًا: الإسلاميين، هامش للحركة على استحياء

منذ الانقلاب على البشير في أبريل عام 2019م، ضُيق الخناق على الحركة الإسلامية سواء في المجال العام أم في مؤسسات الدولة، فاختفى نشاطهم وأعُتقل أغلب الصف الأول للحركة وفُصل العديد من منسوبيهم من مؤسسات الدولة وصودرت أموال ومقدرات الحركة إلا أنّها عادت من جديد، من خلال الإعلان عن تأسيس “التيار الإسلامي العريض”، لتوحيد التيار الإسلامي تحت مظلة واحدة تمكنهم من العودة للحياة السياسية والمشاركة في الانتخابات المقبلة وضمان عدم تفرق الإسلاميين، الذي ساهم في إسقاط البشير نظرًا لدعم قطاع واسع منهم للتظاهرات عام 2018م، كحركة الإصلاح الآن وغيرها. ويأتي هذا  التشكيل على الأغلب بترتيب من العسكريين أو على الأقل بسماح منهم، ففي 7 أبريل أُطلق سراح رئيس حزب المؤتمر الوطني إبراهيم الغندور، والقيادي البارز بالحركة الإسلامية أنس عمر، وكذلك رئيس حزب دولة القانون والتنمية محمد علي الجزولي، ومعمر موسى، والأمين العام لحركة “الإصلاح الآن” راشد تاج السر.

وأعقب ذلك نشاط إعلامي موسع للمفرج عنهم، وبالأخص قيادات المؤتمر الوطني إذ طالبوا بإطلاق سراح البشير وباقي القيادات، وقال غندور عقب خروجه “بلادنا تحتاج لكل فرد من أفرادها، علينا أن ننسى خلافات ونزاعات الماضي من أجل بلادنا”، وأضاف “نحن نريد أن تكون حاضنة الحكومة الانتقالية كل الشعب السوداني وليس أحزاب بعينها، وبذلك يمضي كل الشعب في الطريق إلى قيام انتخابات يرتضي بحكمها الجميع”.

أعقب ذلك تصريح من هيئة الدفاع عن البشير، بأنّ الأطباء أوصوا بعدم إعادته إلى السجن لأنَّ حالته الصحية لا تسمح بذلك، وتداولت أنباء عن خروجه لمقر إقامة جبرية، وعلى الأغلب جرى نقله لمكان يسمى بيت الضيافة، وظهر بعد ذلك في فيديو بمستشفى علياء التخصصي وهو يزور المرضى ويتفقد أحوالهم.

هذا التحالف هو تحالف تكتيكي مرحلي أكثر منه مستقبلي، بِناءً على ترتيبات سياسية من المتوقع أنْ يشارك فيها الإسلاميون مشاركة رئيسية، إلا أنَّ الاندماج التنظيمي فيما بينهم مستقبلًا  أمر مستبعد إذ إن معظم هذه التيارات منشقة من الحركة الإسلامية بالأساس.

 وجاء الإعلان عن تأسيس التيار في 19 أبريل الماضي  بعد قرابة 10 أيام من إطلاق سراح القيادات السابق ذكرها، مما يشير إلى أنّه ليس نتاج نقاشات مستقلة أفضت إلى تشكله بل بترتيبات وصفقة مع العسكريين. وكذلك جرى فك تجميد بعض الحسابات المصادرة، وكذلك عادت منظمة الدعوة الإسلامية للعمل من جديد بعد حظرها عقب عزل البشير.

أعقب ذلك ظهور الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية “علي كرتي” لأول مرة في حوار تلفزيوني يوم 25 مايو، وقبل الحديث عن تفاصيل الحوار لا بدّ من الإشارة إلى أن كرتي كُلف بأمانة الحركة عقب الانقلاب على البشير واعتقال الأمين العام المنتخب “الزبير أحمد الحسن”، والذي توفي في أبريل 2021م بالمعتقل، وكرتي لم يكن من الصف الأول المتصدر في شئون الحركة؛ لذلك فتكليفه لإدارتها كان محل تساؤلات من أفراد الحركة أنفسهم، وفي الأشهر الأولى من الانقلاب نُظر له على أنّه مقرب من جناح صلاح قوش باعتباره أحد المدبرين لما فعلته اللجنة الأمنية بنظام البشير. الأمر الثاني، أنّه طيلة الثلاث سنوات الماضية وُجِدَ في الخرطوم ومارس مهامة بأريحية وهو ما عزز من فكرة تواطئه مع العسكريين، وبالأخص في ظل أنَّ زوج ابنته هو مدير مكتب البرهان.

وحول تغيبه عن المشهد طيلة الفترة الماضية، قال “توافقنا مع الإخوة في كوبر (يقصد قيادات الحركة المعتقلين) على أنْ نلزم الصمت خلال الفترة الماضية، قائلًا أنَّ السلطة ليست سببًا كافيًا لإدخال البلاد في محرقة ولن نرضى بذلك ونحتاج إلى بلد مستقر مهما جرى لنا. وذكر أنّه اجتمع بنفسه مع قيادات الحركة في السجن، وهنا إشارة لما ذكرناه من حرية تحركه.

وحول مستقبل الحركة في المشهد، قال “للحركة الإسلامية الحق في المشاركة بالانتخابات القادمة، ولن نقبل بالإجراءات غير القانونية التي أبطلت عمل حزب المؤتمر الوطني والأحزاب التي أقصت حزب المؤتمر الوطني غير مسجلة في شئون الأحزاب. ليس هنالك فيتو علينا كإسلاميين، والآلية الثلاثية ليس عليها وفاق ولا أتوقع لمبادرتها إلا مكانًا آمنًا في درج مظلم بالمؤسسات الدولية، وقد أعددنا شبابًا ليقوموا بالقيادة في الفترة القادمة، ونحن أحق بالعيش في هذه البلاد كما يعيش الآخرون”.

وخلال كلمة كرتي، أكد على جزئية أنّه غير منتخب، وأنّه لم يكن ممثلًا في الهيئة العليا في قيادة الحركة، لكن ثقة الزبير به وعلاقتهما القديمة هي التي جعلته يثق به ويسلمه القيادة، وقال أنّه عندما تتهيئ الأجواء ستجري قواعد الحركة انتخابات وسيسلم القيادة للأمين المنتخب. وذكره لهذه النقطة يشير إلى أنّ هذا النقاش حاضر وبقوة في أوساط الحركة وعدم وصوله للمنصب بطريق متعارف عليه، ويعزز من فكرة تصارع التيارات داخل الحركة وسيطرة هذا التيار عليها.

ثُمّ في 26 يونيو عقد مجلس شورى الحركة اجتماعًا موسعًا بمشاركة ممثلين للولايات، واختُير كرتي أمينًا عامًا للحركة بإجماع من مجلس الشورى، وناقش الاجتماع تقارير أداء مؤسسات الحركة الإسلامية والاستراتيجية الجديدة في الفترة القادمة. ولكن يوجد تذبذب وتراجع في دور الحركة في المشهد السوداني عما كان عليه الوضع في الشهور الأخيرة، وذلك في ظل الضغوط الغربية المكثفة والتحفظ الإقليمي على إعادة فاعلية الحركة الإسلامية في المشهد السياسي من جديد. إلا أنّ انتخاب كرتي على رأس الحركة، يعزز من فاعلية دوره وتأثيره لما له من علاقات متينة مع المكونين العسكري والأمني.

خامساً: العلاقات الخارجية “مسك العصا من المنتصف”

يتسم المشهد الخارجي للسودان بالتعقيد وبالأخص في ظل حساسية الفترة الحالية، حيث تحكم معظم التحركات السودانية الخارجية الحاجة الملحة للدعم المالي والمساعدات لكي يتجاوزوا الأزمة الاقتصادية المتفاقمة منذ عزل البشير والتي زاد من حدتها انفراد العسكريين بالمشهد، وقطع المعونات والمساعدات الأوروبية حتى يتراجع الجيش عن موقفه. ومثلت زيارة حميدتي إلى روسيا عشية غزو أوكرانيا، رسالة قطيعة مع الدول الغربية وخاصة أمريكا، حيث ردوا بزيادة الضغط الاقتصادي على السودان، وعلقوا مؤخرًا قرار إعفاء ديون السودان البالغة 64 مليار دولار.

وإذا أردنا إجمال المشهد الخارجي، فالسودان يتعرض لضغوط غربية اقتصادية مع قطيعة يتعامل معها العسكريون بحرص شديد حتى يتجاوزوها بأقل الخسائر، وفي الوقت نفسه هم في أمس الحاجة لحليف دولي قوي يوفر لهم الحماية السياسية في المحافل الدولية، لذلك عززوا من علاقتهم مع الروس التي هي جيدة بطبيعة الأمر نظرًا للتسليح السوداني الروسي خلال سنوات القطيعة مع الأمريكان، ورغبة الروس في التمدد على البحر الأحمر وتوطيد نفوذهم، أبدى السودانيون موافقتهم على إنشاء القاعدة البحرية الروسية على البحر الأحمر. وتدور القوى الإقليمية بين فلكي الاتجاهين؛ فالرياض ترعى الحوار الوطني جنبًا إلى جنب مع واشنطن، والإماراتيون يدفعون إلى تعزيز علاقة حميدتي مع الروس مع بعض التحفظات، ومصر تدعم العسكريين وتظهر ذلك لكنها تتحفظ على بعض الخطوات.

ومع انحسار الدور الأوروبي والأمريكي في رعاية الحوار الوطني والضغط على العسكريين لإعادة الشراكة مع القوى المدنية المحسوبة عليهم، بجانب محاولة تحجيم النفوذ الروسي، برز الدور الإسرائيلي إذ زار الخرطوم في 20 يناير، وفد أمني إسرائيلي لإجراء مباحثات مع البرهان وحميدتي ومدير المخابرات، وناقش الوفد مع المسؤولين السودانيين الأوضاع في البلاد وقضايا أمنية تمثلت في الحد من التهديدات الإيرانية في المنطقة، وقد طلبت ممثلة واشنطن لدى الأمم المتحدة من إسرائيل “التدخل في أزمة السودان، والعودة إلى المرحلة الانتقالية بقيادة مدنية” كما التقت خلال زيارتها للمنطقة وزير دفاع الاحتلال وبحثت معه الأوضاع في السودان.  وهو ما عقب عليه البرهان قائلًا أنّ “التعاون الأمني الاستخباراتي بين السودان وإسرائيل لم يتوقف منذ لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو. ومؤكدًا أنّ سلسلة الاجتماعات بين الطرفين هي جزء من تعاون أمني ومخابراتي، وليست سياسية بطبيعتها، وأضاف أنّ المعلومات المتبادلة مع الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية مكنت السودان من ضبط بعض المجموعات الإرهابية التي سببت مشكلات بالسودان والإقليم”.

السيناريوهات

بعد استعراض آخر المستجدات خلال الشهور الستة الماضية، فإنَّ السودان أمام 3 سيناريوهات رئيسية من الممكن أن تتفرع منهم سيناريوهات أخرى.

السيناريو الأول “مرجح حدوثه“: إمساك العسكريين بزمام الأمور لأطول فترة ممكنة، حتى إجراء انتخابات.

يستند هنا إلى 3 عوامل رئيسية:

الأول: تفتت القوى المدنية من يساريين وشيوعيين وليبراليين وعدم قدرتهم على توحيد مطالبهم ورؤيتهم للمشهد على مدار ثلاث سنوات، بل تزداد انقساماتهم وتشرذمهم ولا توجد أفق لحل هذا التشرذم فلم تجد أي حلول دولية في ذلك.

الثاني: نجاح المكون العسكري في استمالة بعض التيارات من القوى المدنية في صفه، وكذلك استناده على الإسلاميين مؤخرًا، وفتحه المجال لهم، وأيضًا دعم الحركات المسلحة للعسكريين وإبقاءهم على الشراكة معهم بالرغم من التباينات في عدد من القضايا.

الثالث: وجود قوى إقليمية كمصر والإمارات، ودولية كروسيا والصين داعمين للعسكر، ويعزز من ذلك عدم وجود بديل لدى الغربيين سوى العسكريين نظرًا لفشل مراهنتهم على القوى المدنية المتناحرة.

لكن يوجد العديد من المتغيرات ستتحكم في هذا السيناريو سواء إيجابًا أم سلبًا، أهمهم قدرة حميدتي والبرهان على الحفاظ على التحالف الهش بينهما لأطول فترة ممكنة، وكذلك العلاقة بين العسكريين والحركات المسلحة وإبقاء هذه الحركات على الاتفاق المبرم معهم، وكذلك خيارات الحركة الإسلامية وتعاطيها مع المتغيرات الداخلية والخارجية.

السيناريو الثاني “محتمل“: استمرار حالة الاضطراب وتفاقم الأزمة وإحداث تغيير آخر، ودمج الإسلاميون كجزء رئيسي من المشهد.

يستند هذا السيناريو إلى العامل الأول نفسه في السيناريو السابق، بالإضافة إلى عاملين آخرين وهما:

الأول: انهيار التحالف بين العسكريين وبعضهم البعض وكذلك مع الحركات المسلحة.

الثاني: هو أنّ الإسلاميين الفصيل الوحيد الجاهز لاستلام الحكم، وما زالت كوادره في معظم المناصب الحيوية ويستطيع إحياء مشروعه من جديد، فمعه جهاز المخابرات وله وجود كبير في الجيش يُقدر بنحو 30%، بجانب فرصتهم الكبيرة بالفوز في أي انتخابات مقبلة.

السيناريو الثالث “مستبعد“: وهو انفراط عقد الدولة السودانية وتقاسم الأطراف بين الفواعل المجتمعية والحركات المسلحة مع بقاء المركز في يد الجيش.

هذا السيناريو يستند إلى أنَّ أطراف السودان مهمشة وتعاني أزمات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وأنّ قوى مجتمعية وقبلية تسيطر على أجزاء فعليًّا كإقليم الشرق، وبرز ذلك خلال أزمتهم مع العسكريين وإغلاق الطرق وعزل الإقليم، وكذلك سيطرة الحركات المسلحة على أجزاء كبيرة من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. في حين يسيطر العسكريون على إقليم الوسط والمركز. فإذا لم تكن الغلبة للعسكريين واستطاعوا المرور من هذه الفترة سواء بإمساك زمام الحكم فترة طويلة أم بتهيئة المناخ لإجراء الانتخابات والتي على الأغلب ستأتي بالإسلاميين. إذا لم يحدث ذلك فمن المحتمل حدوث هذا السيناريو.

اضغط لتحميل الملف
مشاركات الكاتب