لماذا تهاجم بعض أبواق السلطة المقاطعة؟

يقول علم الاجتماع السياسي المعاصر إنَّ المقاطعة الاقتصادية الواسعة لمنتجات دولة معيَّنة أو عدّة دول احتجاجًا على سلوك سياسيّ تتخذه الدول الراعية لهذه المنتجات، كما هو الحال في مصر وبعض دول العالم العربي التي اتخذّت شعوبها موقفًا مضادًا من بعض العلامات التجاريّة الدّاعمة للاحتلال في عدوانه على الشعب الفلسطيني في غزة، تتقاطع عادةً مع طريقين:

الأول: هو أنَّ إمكان المقاطعة وطرحها كوسيلة ضغط لم يكن يحدث لولا الهيمنة الاقتصاديّة الغربيّة على نمط وطرق التجارة ومساراتها في العالم الّتي ترسّخت بعد الحرب العالميّة الثانيّة، وتزاوج دعائم القوّة الخشنة مع الأدوات التجاريّة والثقافيّة تحت شعارات برّاقة مثل السّوق الحرّة والتّجارة العالميّة.

الثّاني: أنَّها وبالنظر إليها كنمطٍ من “عدم الفعل”، فما يفعله المقاطع تحديدًا هو “عدم الشراء”، فهي منتَج احتجاجي حديث في مضمونه، يتساوق مع طرق الاحتجاج المقبولة نسبيًّا من منظومة القيم العالميَّة، خاصة إذا كان البديل هو التهديد الفوضويّ للمصالح الحيويّة للدول الكبرى.

بلغةٍ أخرى، المقاطعة هي السّلاح الأخير للاحتجاج في عالَم اليوم لدى المجتمعات المقهورة، فما يملكه الفرد الغاضب غير القادر على التأثير الإيجابي بالفعل السياسي، هو ألا يذهب لشراء منتج من علامة تجاريّة لا تعجبه سياساتها، فيكون غضبه قد فُرّغ جزئيًّا، دون الاحتكاك المباشر مع أنماط السلطة، التي لا تملك بدورها إجباره على الشراء.

بالرغم من وداعة المقاطعة ووظيفتها المهمّة في تفريغ الاحتقان دون ضرر، فإنَّه بدا في الآونة الأخيرة أنَّ أصواتًا مقرّبة من السلطة منزعجة من هذا الاختيار، كما لو أنَّها تريد تجريدَ المواطن كليًّا من هذه الوسيلة النّاعمة.

الذعر العام

بالاستعانة بأحد المفاهيم النفسيَّة ذات الفاعليَّة التفسيريَّة، فإنَّ النظام المصريّ الحالي منذ لحظة تشكّله تاريخيًّا في 3 يوليو 2013، وعلى نحو مطّرد، يبدو أنَّه قد نشأ كذاتٍ سياسيّة تعاني القلق العام، القلق من كلّ شيء لا يشرف عليه كليًّا من البداية إلى النهاية حتّى لو كان بسيطًا، فبدلًا من أن تكون “حالة الاستثناء” استثنائيّةً، باتت هي الأصل.

في شهر رمضان المنصرم، منعت قوّات الأمن في اللحظات الأخيرة تدشين الأهالي في حي المطريَّة مائدة إفطار شعبيَّة كبيرة تنظَّم سنويًّا دون مبررات واضحة، فيما فسّره مراقبون بأنَّه خوف من الاعتياد على القدرة على تشبيك العلاقات حتى لو كان احتفاليًّا كليًّا دون رمزيّات سياسيّة. كذلك اعتادت قوات الأمن منذ نهاية 2019 التضييق، لا على حضور الجماهير في المدرّجات وحسب، وإنما على مشاهدة المواطنين للمباريّات المهمّة على المقاهي الكبرى، الّتي إما تغلق أبوابها أو تفتح سرًا أو تمتلئ بالمخبرين.

وعليه يبدو أنَّ بعض دوائر النظام تنظر إلى المقاطعة بعين الريبة، باعتبار أنَّها تحتاج إلى تشبيك، ولو في العالم الافتراضي، كما تتضمن بشكل غير مباشر حمولةً سياسية داعمةً لطرف لا يتّفق معه النّظام، أي حركة حماس في غزّة، ومن ثَمَّ، فإنَّ هناك حاجةً إلى رصد وتتبّع خيوط هذه الدعوات على الأقلّ، إن لم يكن التشنيع عليها وتخوينها.

غضب الحلفاء

في نهاية 2020 يتذكّر الرأي العام الإسلامي ردَّ الفعل الفرنسيّ المتغطرس، والصادر رسميًّا عن مؤسسات حكوميَّة رفيعة في باريس، احتجاجًا على المقاطعة السلميَّة الحضاريَّة الّتي اتفقت عليها المجتمعات الإسلاميَّة، رفضًا لإساءة الرئيس الفرنسي ماكرون للدين الإسلامي. وهو ما يُستنتج منه أنَّ صدى المقاطعة حينها كان مسموعًا ومؤثّرًا، ليس على مستوى الخسائر الاقتصاديّة وحسب، بل على مستوى اختبار فاعليّة القوة النّاعمة والدبلوماسيَّة، فالكيانات السياسيَّة بما في ذلك إسرائيل تنظر إلى المقاطعة كنوعٍ من عدم الاعتراف الّذي يقابله التطبيع، فالمطلوب هو الاعتراف والتطبيع، وما عدا ذلك نوعٌ من الحرب غير التقليديّة.

كما يبدو أيضًا أنَّ هناك قلقًا من امتداد أثر المقاطعة إلى المنتجات الثقافيَّة الإقليميَّة، فقد قامت الدنيا ولم تقعد لرفض فنّان مصري المشاركة في مسرحيّة في موسم الرياض الترفيهيّ أثناء العدوان على الآمنين، ومن اللافت أيضًا في السياق نفسه، أنَّ رئيس هيئة الترفيه نفسه في السعودية يحاول كسر المقاطعة بالتسويق المباشر والغريب لإحدى العلامات التجاريّة المعروفة بدعم إسرائيل، وهو ما جعله موضعَ نقد شديد، حتى بين بعض المدوّنين السعوديين.

انتخابات الرئاسة

بالإضافة إلى ما سبق من النظر إلى المقاطعة من زاوية الأثر الاجتماعي وبالتالي اعتبارها مصدرًا للخطر، إلى جانب تلافي إغضاب الحلفاء الغربيين والإقليميين؛ فإنَّ النظام المصريّ يخشى أن يمتدّ صدى المقاطعة داخليًّا إلى الاستحقاق الانتخابي المرتقب نهاية العام: الانتخابات الرئاسيَّة. فقد فقدت الانتخابات رونقها وجديّتها باستبعاد أحمد الطنطاوي، بل والمضي قدمًا في طريق محاكمته، مع الاكتفاء بشخصيات ديكوريّة لا وزن لها، مما يستدعي في الوجدان الشعبي سيناريوهات الاستحقاقين السابقين الذين انتهيا بفوز كاسحٍ للسيسي.

يتغذّى النظام المصري على “اللقطة”، ويدعو السيسي المواطنين صراحةً في هذه المواسم -حتى معارضيه- للنزول، بغرض تقديم مشهد جيد أمام العالم عن الوضع السياسي في البلاد، على حد قوله. وبِناءً على ما سبق، يمكن إلى حد كبير تفسير سلوك النظام أو بعض أبواقه على الأقل، في النيل من المقاطعة الاقتصادية للعلامات التجاريّة الداعمة للاحتلال، كما يمكن أيضًا للرأي العام المحلي في مصر البناء على هذا التصور فيما يخص مستقبل المقاطعة بعد الحرب، والموقف من المشاركة في الانتخابات القادمة.

مشاركات الكاتب