هل يعود سعد الحريري للسياسة من جديد؟

عشية الذكرى التاسعة عشر لاغتيال والده رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، وصل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري إلى بيروت في ظل تكهنات كثيرة مثارة حول عودته للعمل السياسي. وفي وسط بيروت حيث ضريح والده، اجتمع حشد من مناصريه في استعراض شعبي مخطط له مسبقًا. وأمام الضريح، كان الحريري مقلًا من الكلام مقتصرًا على أنَّ “كل شيء بوقته حلو”. ومن داره المسماة “بيت الوسط”، خاطب مناصريه خطابًا عاطفيًّا مقتضبًا دون الإدلاء بما يحسم هذه التكهنات.

في يناير 2022، أعلن سعد الحريري تعليق عمله السياسي وغادر بيروت إلى أبو ظبي ليكرس اهتمامه لمصالحه الاستثمارية فقط. ومنذ ذلك الحين، غاب هو وتياره -تيار المستقبل- عن المشهد السياسي اللبناني، حتى أنَّه لم يشارك في الانتخابات النيابية الأخيرة. وفي فبراير 2023، زار لبنان على استحياء، دون الإدلاء بأي تصريح سياسي أو عقد أي لقاءات، ومكتفيًا بزيارة ضريح والده وسط بيروت ثُمَّ عاد أدراجه إلى أبو ظبي.

لكن زيارة اليوم ليست كسابقتها، حيث استفاقت قواعد تيار المستقبل الشعبية من سباتها مهللة، وعاد نواب التيار السابقون إلى الشاشات للحديث عن احتمالية عودة سعد الحريري للسياسة. وتحدثت مصادر في “المستقبل” للقنوات اللبنانية عن نية الحريري عقد لقاءات مع مناصريه بالدرجة الأولى، وشخصيات لبنانية وسفراء ومسؤولين، في مفارقة واضحة مع زيارة العام الماضي.

ومع وصوله إلى بيروت، تقاطرت الوفود لزيارته، كما زاره مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان مع جمع من مشايخ دار الفتوى، في إشارة لوقوف المرجعية الدينية الرسمية خلفه.

هل رُفع الحظر السعودي؟

لا يمكن للحريري- إن قرر فعلًا استئناف عمله السياسي- أن يخطو خطوة كهذه دون ضوء أخضر سعودي. فالسعودية أحد اللاعبين الرئيسيين في الساحة اللبنانية، ومقر سفيرها في بيروت وليد البخاري مقصد لكثير من الساسة اللبنانيين -السُنّة منهم خصوصًا- الراغبين بإضفاء الشرعية على برامجهم السياسية. كما يقصده مبعوثو الدول الأخرى الفاعلة في المشهد السياسي اللبناني، فقد زاره مثلًا نظيره الإيراني مجتبى أماني في 24 يناير الماضي لبحث الأزمة اللبنانية في ضوء الحرب على غزة والتحديات الإقليمية.

والحريري نفسه سبق أن أعلن استقالته من رئاسة الحكومة عام 2017 من الرياض، واحتُجز هناك لأيام قبل أن تتدخل وساطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حينها لنقله إلى باريس ومنها إلى بيروت مجددًا. وعقب تعليق عمله السياسي في يناير 2022، سلطت الصحف السعودية عليه أقلامها، فوصفته صحيفة “عكاظ” في مقال بـ “التشيع السياسي والتفريط في مصالح الطائفة السنية في لبنان، والتنكر للرياض”.

تشكل الساحة السنية في لبنان البيئة الرئيسية لتيار المستقبل، لكن لا يمكن الخُلوص إليها إلا عبر بوابة الرياض. لا لأنَّ سُنّة لبنان يريدون ذلك، بل لأنَّ المملكة تفرض قيودها عليهم منذ اتفاق الطائف عام 1989. فعبر تبنيها لعشرات الدعاة والخطباء والساسة والناشطين الاجتماعيين، ملكت السعودية زمام الساحة السنية في لبنان، بل إنَّ رفيق الحريري نفسه كان مبعوث المملكة في لبنان خلال الحرب الأهلية، ورجلها الذي دعمته طيلة مسيرته السياسية حتى اغتياله.

وفي هذا السياق، تشير مصادر في تيار المستقبل إلى أنَّ عودة الحريري السياسية -إن حصلت- سترتبط باتفاق إقليمي أوسع يساعده على انتشال لبنان من أزماته الاقتصادية وحلحلة الجمود السياسي الذي يعيشه، ولن يكون هذا بمعزل عن القرار والدعم السعودي على غرار ما فعله والده مطلع تسعينيات القرن الماضي.

تمويل إماراتي محتمل

منذ خرج سعد الحريري من لبنان وتجميده لعمله السياسي، وجد في أبو ظبي مستقرَّه ومستودعه، وحظي بمكانة مرموقة داخل منظومة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد الاقتصادية، إذ كشف موقع “إنتيليجنس أونلاين” في يناير 2023 أنَّ الحريري ارتبط بشكل وثيق بإدارة شركة Nerve الاستثمارية التابعة لمجموعة “رويال غروب” التي يرأسها طحنون بن زايد.

تحاول الإمارات هي أيضًا حجز موقعها في المشهد الإقليمي، سواء على سواحل البحر الأحمر أم الشرق الأوسط أو العمق الإفريقي. وفي ظل الحديث عن تسوية إقليمية لإنهاء الحرب على غزة، لا يمكن استثناء لبنان من خُطة كهذه، حيث تشتعل حدوده الجنوبية مع فلسطين المحتلة منذ 8 أكتوبر. وقد شكلت جبهة جنوب لبنان محور جهود دبلوماسية مكثفة للولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما من الدول الغربية، فيما تطرح بعض المبادرات حلولًا لأزمات لبنان الاقتصادية والسياسية. وأمام هذا الطرح ولحاجة سعد الحريري للزخم المالي المطلوب، تبدو موارد أبو ظبي الضخمة قادرة على تقديم الدعم المالي المطلوب له، فيما لو قرر استئناف العمل السياسي.

عائد على أنقاض ساحة ممزقة.. ولكن

معلوم أنَّ الدور السياسي لسُنّة لبنان اختُزل خلال ثلاثين سنة مضت بـ “الحريرية السياسية”، ما أدى لفراغ ملحوظ في الساحة السنية خلال سنوات غياب سعد الحريري. وهذا الفراغ لا يعود لعدم وجود بدائل، بل لمنع ظهور أي بديل بإمكانه جمع السُنّة على خلاف ما تريده السعودية الممسكة بزمام هذه الساحة. فقد فضلت الرياض خلال السنوات الأخيرة الاعتماد على قائد القوات اللبنانية -الحزب اليميني الماروني- سمير جعجع، وتوجيه المرتبطين بها للتحالف معه على قاعدة التبعية لا الندية.

لكن جعجع لم يستطع أداء الدور المنوط به، إذ لم تنسَ الذاكرة اللبنانية بعد دوره خلال الحرب الأهلية اللبنانية. كما أنَّ هذا الخيار تزامن مع تفجر ما عُرف بـ “ثورة 17 تشرين”، التي دفعت شرائح واسعة من السُنّة بعيدًا عن سائر الوجوه السياسية والمنبرية السنية التي تقربت من جعجع. لكن، ومع فشل “الثورة” في صياغة مشروع بديل أو إبراز وجوه جديدة، تبدو الحاجة لعودة الحريري لملئ هذا الفراغ وتثبيت زعامة سنية مركزية.

هل يعاد تعويم “المستقبل” لمنع صعود التيار الإسلامي؟

ترتكز التسوية الداخلية -فيما لو حصلت- على مبدأ حلحلة الجمود السياسي تمهيدًا لانتخاب رئيس للجمهورية، ويشير الاجتماع الأخير بين السفيرين السعودي والإيراني، وليد البخاري ومجتبى أماني، إلى أجواء إيجابية في هذا الصدد. كما سلكت السعودية مسلك الحياد إزاء التصعيد في البحر الأحمر ولم تنخرط في عملية “حارس الازدهار” التي ترعاها واشنطن، ما قد ينعكس على العلاقة مع حزب الله والملف اللبناني.

ولتعويم سعد الحريري وتياره “المستقبل”، تحركت تنسيقيات التيار لتعبئة الشارع لذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير، كما سارعت شخصيات عديدة من مختلف التيارات والأحزاب اللبنانية للترحيب بعودته.

وقد يُشار إلى هذه الخطوة في سياق قرار خليجي- غربي بالتضييق على التيار الإسلامي أكثر، في المنطقة عمومًا ولبنان خصوصًا. فقد اكتسب الإسلاميون في لبنان زخمًا شعبيًّا على وقع أصداء معركة طوفان الأقصى، ومشاركة “قوات الفجر” -الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان- إلى جانب حركتي حماس والجهاد في المواجهات مع العدو الإسرائيلي جنوب لبنان. كما ظهرت جماعات جديدة كـ “كتائب العز الإسلامية”، التي نفذت عمليات عدة أبرزها في يناير الماضي قرب المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا المحتلة. هذا إلى جانب سقوط شهداء من التيار السلفي في الجنوب، أثناء تواجدهم مع كوادر كتائب القسام في لبنان.

مثَّل تيار المستقبل و”الحريرية السياسية” خط “الاعتدال السني” في لبنان، ونمت شعبية الحريري على أنقاض التيار الإسلامي الذي أضعفته الحملات الأمنية المتتالية التي تعرض لها منذ انتهاء الحرب الأهلية. ولذا، فإنَّ صعود إسلاميي لبنان لا يوقفه إلا تعويم الحريري وتياره من جديد، لملئ الفراغ في الساحة السنية وجمع الشرائح الشعبية حول قيادة مركزية تقدم حلولًا للأزمات المتراكمة.

يبقى أنَّ كل ما قيل حول عودة سعد الحريري لا يزال في مقام الاحتمال، حيث إنَّ تصريحاته خلت من أي إشارة واضحة في هذا الاتجاه. لكن إعادة تفعيل دور تيار المستقبل ستكون خطوة أولية يمكن البناء عليها، كما أظهرت المواقف الشعبية والرسمية تمسك شريحة واسعة من سُنّة لبنان بدعمه والوقوف إلى جانبه. فيما يتواصل الحديث عن تسوية إقليمية تشمل لبنان قد تبصر النور في المرحلة المقبلة، ربما تحمل في طياتها إذن الرياض لعودة الحريري من جديد.

مشاركات الكاتب