صعود الحرب الباردة الجديدة التطورات والآفاق

اضغط لتحميل الملف

مقدمة

تعكس التطورات الجارية على المسرح الدولي حالة حرب باردة جديدة في طريقها إلى التصاعد، لها أبعادها الاستراتيجية بعيدة المدى، كما أنّ لها تعبيراتها الواضحة. حرب باردة مختلفة تمامًا عن الحرب الباردة الأولى (بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي). وهي أيضًا على وشك أن تصبح عالمية. إذ يتجه الناتو حاليًّا نحو التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما انضمت اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا إلى ساحة الصراع، وهكذا تُرسم خطوط معركة جديدة يمكن أن تستمر لأجيال.

وعلى النقيض من المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي التي استمرت 40 عامًا، التي دارت بين قوتين عظميين معزولتين تمامًا عن بعضهما البعض في مجالين منفصلين، يتميز الصراع الحالي بعلاقات متعددة الأبعاد حيث تتاجر الصين والغرب ويستثمران مع بعضهما البعض. كما اعتمدت دول أوروبا اعتمادًا كبيرًا على الغاز الروسي (إلى ما قبل الحرب الروسية ومحاولات البحث عن بدائل).

أما عن سبب الحرب؛ فنجد أنَّ سياسة الولايات المتحدة تحولت من دمج الصين في النظام الليبرالي الدولي وجعلها جزءًا عاملًا ونشطًا فيه، إلى اعتبارها الخطر الأول والأكبر الذي يهدد استمرارية الهيمنة الأمريكية، ومن ثَمّ عملت على مواجهتها بضراوة. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، عملت واشنطن على سحب أوروبا -التي تمتعت بعلاقات اقتصادية جيدة مع الصين- إلى هذه الحرب.

تعمل واشنطن على إنشاء شبكة من التحالفات لتطويق الصين واحتوائها عالميًّا، فضمت اليابان والهند إلى جانب أستراليا في منتدى استراتيجي سُمي بالحوار الأمني الرباعي (Quad)، للعمل في المحيطين الهادي والهندي. كما أسست تحالف في المنطقة نفسها مع المملكة المتحدة وأستراليا عرف باسم (AUKUS). وكذلك قام بايدن بجولتين الاولى في آسيا والأخرى في الشرق الاوسط لمحاولة تكتيل دول المنطقتين خلف الولايات المتحدة في مواجهة الصين.

وفي مواجهة بكين أيضًا وبطريقة تذكرنا بالحرب الباردة القديمة، استجابت إدارة بايدن للمشاركة العسكرية الجديدة للصين في جزر سليمان بإطلاق مبادرة “شركاء في المحيط الأزرق”، حيث قالت واشنطن إنَّ الهدف من ذلك هو تشكيل مجموعة غير رسمية تتكون من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا واليابان ونيوزيلندا تهدف إلى تنشيط العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع دول جزر المحيط الهادئ.

ومن الواضح كذلك أنَّ القوى الغربية الكبرى تعمل الآن على بناء ستار جديد يمتد من ماريوبول في أوكرانيا على البحر الأسود إلى تايبيه عند مضيق تايوان وربما على طول الطريق إلى هونيارا في جزر سليمان في جنوب المحيط الهادئ لتطويق الصين وروسيا وتحجيمهما.

وبدورها أطلقت بكين مؤخرًا مبادرة الأمن العالمي (GSI) لمعارضة الحوار الأمني الرباعي، وهو التجمع الذي نظمته واشنطن بين الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا. إذ قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إنَّ مبادرة GSI “ستعارض الاستخدام المتهور للعقوبات الأحادية الجانب”، وكذلك “الهيمنة وسياسة القوة والمواجهة بين الكتلة”.

وفي هذا الإطار تناقش هذه الورقة قضية التحول في النظام الدولي وأثره على اشتعال حرب باردة جديدة عالمية، مع التركيز على منطقة الاندو- باسيفيك باعتباره الإقليم الذي يمثل مركز التنافس الدولي الحالي. وذلك بالاعتماد على مقولات النظرية الواقعية البنيوية في العلاقات الدولية. إذ وَفقًا لهذا المنهج تعمد الدول التي لا تستطيع وحدها حماية أمنها ضد التهديدات الخارجية، على أن تدخل في تحالفات مع قوى دولية كبرى من أجل الاعتماد عليها في توفير تلك الحماية. ومن ناحية أخرى يرى الشق المعروف بالواقعية الهجومية ورائده جون ميرشايمر، أنَّ الدول تسعى للحصول على ما أمكنها من القوة، وإن سنحت لها الظروف فستسعى إلى الهيمنة، إذ إنَّ القوة هي أفضل طريقة تضمن بها الدولة بقاءها، وفي النهاية يتفق الطرفان على أنَّ هدف الدول النهائي هو استمرارية البقاء بالسعي إلى الحفاظ على الوضع الراهن أو بامتلاك القوة([1]).

أولًا: ملامح التحول في النظام الدولي

هناك قدر من الاتفاق بين الباحثين في السياسة الدولية على أنَّ النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية وشهد مراحل متعددة من القطبية الثنائية الأمريكية الغربية في مواجهة الاتحاد السوفيتي، ثم انهيار الأخير في عام 1990، وما لحقه من هيمنة أمريكية منفردة على قمة النظام الدولي، يشهد الآن تحولًا تصحبه تحولات كبرى سياسية واستراتيجية في علاقات القوى الرئيسية المتحكمة في حالة الأمن والسلام الدوليين.

يرى البعض أنَّ التطورات الجارية على المسرح الدولي تعكس حالة حرب باردة في طريقها إلى التصاعد، لها أبعادها الاستراتيجية بعيدة المدى، كما أنَّ لها تعبيراتها الواضحة. حرب باردة مختلفة تمامًا عن الحرب الباردة الأولى (بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي). وهي أيضًا على وشك أن تصبح عالمية. إذ يتجه الناتو الآن نحو التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما انضمت اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا إلى  ساحة الصراع الجديدة لأول مرة، وهكذا تُرسم خطوط معركة جديدة يمكن أن تستمر لأجيال.

ذلك أنّ الواقع يشهد الآن بأنَّ هناك تحولات لا يمكن إغفالها، إذ تستدعي حالة الصعود الصيني- اقتصاديًّا وعسكريَّا وتكنولوجيَّا- طرح التساؤلات حول تأثير هذا الصعود على توازن القوى مع الولايات المتحدة (القوة القائمة)، ومدى رضاء الصين (القوة الصاعدة) عن القواعد والأطر القائمة في النظام الدولي الراهن، باعتبارهما العوامل الأكثر تأثيرًا على شكل النظام الدولي وتحولاته.

 وتأتي تلك التساؤلات في ظل التغيرات الجوهرية التي شهدها النظام الدولي في الأعوام الأخيرة، ومنها تراجع المعسكر الغربي، وتراجع نفوذ الولايات المتحدة وقدرتها على تشكيل الأحداث الدولية أو التعامل مع الأزمات الدولية مثل أزمة وباء كورونا، والتي أثرت كثيرًا في سمعة الولايات المتحدة. وذلك في الوقت الذي صعدت فيه الصين إلى مكانة القوة العظمى في النظام الدولي الرافضة للهيمنة الأمريكية، والساعية إلى توسيع نفوذها من خلال استغلال أزمات النظام الدولي لإظهار تفوق النموذج الصيني ونشر مفاهيم دولية جديدة مثل “مجتمع المصير المشترك”، و”المنفعة المتبادلة”[2].

وفي هذا الإطار تحددت الاستراتيجية الصينية الموجهة لتفاعلاتها في النظام الدولي، فقسمت الصين العالم إلى ثلاث مناطق: دول جوارها في جنوب شرق آسيا (دول المحيط) والدول الكبرى والمتقدمة ثُمّ العالم النامي بتفريعاته المختلفة.

وفي أثناء إدارة هو جينتاو (2003 – 2012) تبنت الصين مبدأ السياسة الخارجية “شاملة الاتجاهات” التي لا تفرق نظريًّا بين المناطق الجغرافية أو البلدان، وترى أنَّ “القوى العظمى هي المفتاح، ومحيط الصين هو الأولوية، والبلدان النامية هي الأساس والمنصات متعددة الأطراف هي المسرح”. وتقسيم “المفتاح والأولوية والقاعدة” لا يعني بالضرورة -وَفق منطق صناع القرار في الصين- الأهمية والاستمرارية، ولكنه يعكس ترتيبًا معينًا في سُلم أولويات صناع السياسات.

وإذا كانت العلاقات مع العالم النامي هي الأساس ومحور التركيز طويل الأمد، فماذا عن أولويات الصين الحالية: دول المحيط، والدول الكبرى؟ ففيما يخص دول المحيط، للصين نظرةٌ تاريخية خاصة لهذه المنطقة مفادها أنَّ الصين هي محورها، وأنّها دائمًا ما كانت سيدة آسيا التي يطوف بها كل من حولها. وعليه، يمثل هدف منع سيطرة قوة أجنبية أخرى على آسيا والمحيط الهادئ أحد ثوابت السياسة الصينية. أما عن الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ فترفض الصين صور وممارسات الهيمنة وسياسات القوة كافة، وتسعى في كل حركة إلى مناوئة الهيمنة الأمريكية، وتؤكد على أنَّ الصين قد استخلصت دروس وعبر التاريخ عن مصير القوى الكبرى، وأهمية سلوك طريق التنمية السلمية. ولذلك، فهي لن تسعى أبدًا للهيمنة على غيرها من الدول، وتشدد على أنَّ سوء الفَهم والتحيز المعرفي هما ما قادا من أطلقوا نظرية “التهديد الصيني” نحو صياغتها، وترى على العكس من ذلك أنَّ صعودها فرصة لدول العالم أجمع[3].

وقد شهدت الصين في عصر الرئيس الحالي شي جين بينغ استراتيجية جديدة تحمل تصورًا جديدًا لدور الصين العالمي، عُرفت بـ”دبلوماسية القوى الكبرى” في “العصر الجديد”. تعبر هذه الاستراتيجية عن هُوية الصين الجديدة، فهي بجانب كونها دولة نامية، فهي قوة كبرى. والعصر الجديد هو عصر تنافس استراتيجي، كما أنَّ التنافس الدولي أضحى حقيقةً إقليمية وعالمية، وأنَّ عقلية الحرب الباردة بدت في الظهور على سلوك الفاعلين.

وبدورها تدرك الإدارة الأمريكية أنَّ الصين أخطر منافس للولايات المتحدة؛ نظرًا لسعيها نحو تغيير القواعد الليبرالية التي يقوم عليها النظام الدولي، بالإضافة إلى تنامي النفوذ الصيني المتزايد في العديد من الملفات، وقد انعكس ذلك الإدراك على السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث أكدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي نُشرت في أكتوبر 2022 على أنَّ تركيز الإدارة الأمريكية على المدى الطويل سينصب على منافسة الصين. وفي ضوء الإدراك الأمريكي لتلك التطورات التي تعصف بتوازنات القوى داخل النظام الدولي، والساعية لإزاحة الانفراد الأمريكي بقيادة العالم، تسعى الولايات المتحدة الآن إلى استعادة هذا النظام الذي ترسخ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، فضلًا عن  استعادة مكانتها الدولية التي تراجعت بشدة بسبب سياسات الرئيس السابق “دونالد ترامب” الأحادية القائمة على إعلاء المصالح الوطنية وَفقًا لمبدأ “أمريكا أولاً”[4].

وفي مواجهة بكين، تتبع الولايات المتحدة استراتيجية تسعى لمحاصرة الصين تجمع بين العقوبات الاقتصادية، وتعزيز قوتها العسكرية وقوتها الناعمة عن طريق دعم النموذج القيمي الأمريكي وجذب المجتمع الدولي إلى القيم الليبرالية الأمريكية مقابل القيم الصينية. كما تعمل الولايات المتحدة على تعزيز التعاون مع الدول الشريكة في القيم وتوحيد الديمقراطيات في سبيل تحقيق الأمن الجماعي؛ حيث ترى الولايات المتحدة أنّه من خلال الهيمنة الليبرالية الأمريكية يمكن للمجتمع الدولي أن يحقق السلام والاستقرار.

لقراءة الدراسة كاملة، الرجاء الاطلاع على ملف الـPDF


اضغط لتحميل الملف
مشاركات الكاتب