تداعيات سيطرة المكون العسكري على الحكم في السودان

بعد مضي قرابة عامين ونصف على الشراكة بين المكونين العسكري والمدني لإدارة السودان لفترة انتقالية، قام المكون العسكري بتنحية المكون المدني واعتقال رموزه في 25 أكتوبر 2021، والاستحواذ منفردًا على السلطة، مبررًا ذلك بحالة الاضطراب الكبيرة على كل الأصعدة والتشرذم بين مختلف القوى المدنية. ومستندًا على دعم فريق من القوى المدنية والحركات المسلحة لإجراءاته الجديدة. التي تأتي في ظل إثارة العديد من القضايا مثل الوضع الاقتصادي المتردي والترتيبات الأمنية واستكمال اتفاق السلام وتعدد مراكز القرار وتضاربها والوضع الأمني والتوترات الاجتماعية خاصة بعد تفاقم أزمة الشرق وكذلك الانقسامات داخل الكتلة الانتقالية وعدم وجود مركز موحد للقرار وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال، وهو ما استغله المكون العسكري في تبرير موقفه.

خلفيات الأزمة

تصاعدت الخلافات إلى حد غير مسبوق بين المكونين العسكري والمدني إلى أن وصلت ذروتها بعد الحديث عن محاولة انقلاب من قبل وحدات في الجيش في سبتمبر الماضي، ومع تفاقم وتردي الأوضاع انقسمت قوى الحرية والتغيير إلى فريقين، فريق الميثاق الوطني الذي يرى أن الوزراء الحاليين لا يمثلون أطياف قوى الحرية والتغيير، ويذهب إلى وجوب تشكيل حكومة جديدة تمثل المكونات المختلفة. وقد اعتصم أنصار هذا الفريق أمام القصر الجمهوري للمطالبة بتنفيذ أهدافهم، وحظوا بدعم من حركة العدل والمساواة بقيادة وزير المالية في حكومة حمدوك المنحلة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة والي دارفور مني أركو مناوي، والفريق الآخر هو المجلس المركزي الداعم للحكومة ، والذي دائمًا ما يصعد ضد العسكريين مطالبًا بتسليم السلطة بشكل كامل للمدنيين.

ومع تنامي الخلافات طلب البرهان من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك حل الحكومة أو استبدال بعض الوزراء فيها وهو ما رفضه، فالأزمة لم تكن مع حمدوك ولكن تعنته وعدم استجابته لمطالب العسكريين هو ما جعل الأمر يتطور بهذا الشكل، وبعد لقاء البرهان بالمبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي، والذي قدم عدة مقترحات للخروج من الأزمة، وعد رئيس مجلس السيادة (وقتها) بدراستها مع رئيس مجلس الوزراء (وقتها)، وبعدها بساعات قامت القوات الأمنية المشتركة (الجيش- الدعم السريع- جهاز الأمن والمخابرات- الحركات المسلحة) باعتقال أعضاء من الحكومة من المدنيين واعتقال مجموعة من رؤساء الأحزاب، ووضع رئيس الوزراء تحت الإقامة الجبرية “قبل أن يتم اقتياده إلى جهة غير معلومة بعد رفضه إصدار بيان مؤيد للانقلاب”، وتم تطويق مطار الخرطوم وإغلاق الطرق المؤدية إلى مقر القيادة العامة لقوات الجيش وبعض من الطرق والجسور كما تم فصل المناطق الرئيسية في الخرطوم عن بعضها البعض، وانتشر الجيش في محيط مقر الإذاعة والتلفزيون، وسط حديث عن انتشار مكثف لقوات “الدعم السريع” في شوارع العاصمة.

لاحقا أعلن قائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان حل مجلسي السيادة والوزراء وإعفاء الولاة ووكلاء الوزارات مع الالتزام الكامل بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية الموقعة من قبل الحكومة، وإعلان حالة الطوارئ، وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين حتى تتم مراجعة منهج عملها وتشكيلها على أن تكون قراراتها نافذة. كما استثنى اتفاق السلام من هذه القرارات، وطمأن أهل شرق السودان مؤكدًا على وجود مظالم تاريخية لهم، ومعلنًا العمل للوصول لحلول تعالج جذور المشاكل، وهو ما رد عليه مجلس نظارات البجا بقيادة “الأمين ترك” بإعلانه تأييد بيان البرهان. وتضمنت قرارات “البرهان” تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة يراعى في تشكيلها التمثيل العادل لكل أطياف السودان، وتعليق العمل بكافة مواد الوثيقة الدستورية التي تحكم عمل هياكل السلطة في المرحلة الانتقالية في محاولةٍ منه لإطلاق يده لوضع الهياكل التي تناسبه في إدارة أمور البلاد دون توضيح لدور الأحزاب والقوى المدنية في تلك المرحلة.

تداعيات سيطرة العسكر على الحكم

أدانت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي استحواذ العسكر على السلطة وأعربوا عن قلقهم إزاء “محاولات تقويض عملية الانتقال السياسي”، ووصفوا ما حدث بأنه (استيلاء الجيش على الحكومة الانتقالية) ولم يسموه انقلابا نظرًا لما يترتب على ذلك من إجراءات لابد أن تتخذها الإدارة الأمريكية، وكذلك لعدم حسم القرار بالنسبة لهم في التعاطي مع السلطة الجديدة. وصرح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية عن تعليق مساعدات بقيمة 700 مليون دولار كانت مقدمة لمساعدة السودان في عملية التحول الديمقراطي، ودعا إلى إطلاق سراح وضمان سلامة جميع السجناء الذين تم اعتقالهم وعودة الحكومة المدنية.

الاتحاد الأوروبي هو الآخر أعلن أنه يتابع ببالغ القلق الأحداث في السودان، ودعا الأطراف السودانية إلى “العودة لمسار العملية الانتقالية”، بينما أيدت روسيا والصين الإجراءات بشكل ضمني، إذ حثت الصين “جميع الأطراف السودانية على حل خلافاتها من خلال الحوار من أجل الحفاظ على السلام والاستقرار في البلاد”، مؤكدة في الوقت نفسه أنها ستواصل متابعة الاضطرابات عن كثب وستتخذ “الإجراءات اللازمة لضمان سلامة المؤسسات والموظفين الصينيين هناك”.

تمثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الداعم الأكبر للقوى المدنية في المشهد السوداني وخاصة رئيس وزراء الحكومة المنحلة عبدالله حمدوك، إذ  راهنوا على قدرة المكون المدني على ترسيخ الحضور الغربي في السودان مقابل انحياز المكون العسكري بشكل أكبر للروس والصينيين، لذا تأتي ردود الفعل القوية من قبل الغربيين في محاولة لإرجاع المكون المدني للمشهد مرة أخرى مع عدم القطيعة مع العسكريين لإدراكهم الشديد لأهمية مد جسور التواصل معهم والحفاظ على المكتسبات التي حققتها هذه القوى في السودان في الفترة الماضية.

ومن جهة العسكريين في السودان، فكان خطابهم متزنًا فهم ليسوا دخلاء على الحكم بل كان البرهان خلال الفترة الماضية بمثابة رئيس السودان بحكم توليه لرئاسة مجلس السيادة، وكان معلومًا ردة الفعل من القوى الغربية التي عرقلت خطوة الانقلاب مرات عديدة، ولكن بالنسبة للسودانيين فالأمريكان والأوروبيون دخلاء على المشهد السوداني، وقطع المعونات وخلافه من إجراءات اتخذوها هي تحصيل حاصل، فالسودان منذ قرابة 25 عامًا مفروض عليه عقوبات أمريكية وموضوع على قوائم الإرهاب وتم رفعه منها مؤخرًا، ولم يغير هذا في مجريات الأحداث على الساحة طيلة هذه الفترة حيث سد الروس والصينيون هذه الفجوة، لذا لابد من وضع التنديدات الغربية في سياقها الأوسع والأشمل.

إقليميًّا، مثلت ردود الفعل من الدول الإقليمية موافقة ضمنية على الإجراءات التي اتخذها البرهان، إذ صدرت عدة بيانات تدعو إلى ضبط النفس والانحياز لخيارات الشعب السوداني دون توضيح ماهي هذه الخيارات التي انحاز لها الشعب. والفترة الماضية شهدت تقاربًا كبيرًا بين مصر والجيش السوداني  تمثل في مناورات عسكرية على مستوى رفيع، والتوافق حول الموقف من قضية سد النهضة، والاتفاق على العديد من المشروعات المهمة المتمثلة في خط السكة الحديد والربط الكهربائي، وكذلك الدعم الفني على كل المستويات، والتدريب االأمني لعناصر من القوات الشرطية، وكذلك نقل الخبرات المصرية في عملية مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

كما شهدت علاقات السودان مع دول الخليج تطورًا خلال الفترة الماضية، وهو ما يبرر موقفها الداعم لإجراءات البرهان،فبجانب العلاقات المترسخة مع المكون العسكري والدعم الكامل له مابعد انقلابه على البشير من قبل المحور الإماراتي المصري السعودي، فقد وقع السودان والإمارات شراكة استراتيجية للمساعدة في ملف التحديث الحكومي في الخرطوم، وهناك تفاهمات تمت مع شركة أرامكو السعودية لإمداد السودان بالمشتقات النفطية، وتخصيص ستة قطاعات لاستثمارات السعودية تشمل الطاقة والكهرباء والتعدين والنقل والاتصالات والثروة السمكية والسكك الحديدية، وكذلك عودة الحميمية في العلاقات مع دولة قطر آخرها في زيارة لرئيس أركان الجيش السوداني للدوحة تم خلالها الاتفاق على تدريبات عسكرية مشتركة في المستقبل القريب، كما تم توجيه دعوة للدوحة لزيارة الخرطوم وحضور التدريبات المشتركة، وبعد أقل من أسبوعين سجل رئيس الأركان السوداني زيارة مماثلة إلى الدوحة تفقد خلالها عدد من مقرات الوحدات العسكرية القطرية.

إجمالًا فإن علاقات المكون العسكري تسير على منحى جيد مما دفعه للإقدام على تلك الإجراءات التي تأخرت بسبب التحفظ الأمريكي والأوروبي.

خاتمة

تمثل سيطرة المكون العسكري على الحكم فرصة كبيرة لرد الاعتبار للإسلاميين بعيدًا عن لافتة المؤتمر الوطني، فسوف تتوقف الملاحقة ويمكن الإفراج عن بعض قادتهم وإشراكهم بنسبة في الحكم من جديد،  ويعتبر الجيش السوداني هو الفاعل الرئيسي والأقوى على الساحة السودانية منذ الاستقلال عام 1956، كما أن جميع المراحل الانتقالية التي حدثت في السودان لم تنجح ولم تحدث خلالها توافقات إنما عادة ما يستفرد الجيش بالحكم دون أن ياتي دائمًا بانقلاب، وماحدث مؤخرًا يندرج تحت استلام الجيش للحكم وليس انقلابًا لأن الانقلاب تم بالفعل في أبريل 2019، والجيش ومعه باقي المكونات العسكرية على رأس الحكم من وقتها.

المكونات المدنية التي كانت ممثلة في الحكم لا تحظى بدعم شعبي عريض تستطيع تحريكه، والمكون المدني ليس جسما واحدا، فهو يتكون من عدد من الكيانات المتشرذمة مما ساهم في إضعاف دورهم في المرحلة الانتقالية بجانب الضعف البنيوي لهذه الكيانات، والأزمة لم تكن مع شخص رئيس وزراء الحكومة المنحلة عبد الله حمدوك بل هو مرشح لرئاسة الحكومة الجديدة، إنما كانت مع عدد من الوزراء والقيادات في المكون المدني.

مشاركات الكاتب