العلاقات الإيرانية الباكستانية: منحنيات الصعود والهبوط

اضغط لتحميل الملف

وسط ضجيج الحرب على غزة وتداعياتها الإقليمية، برز القصف الصاروخي الإيراني الباكستاني المتبادل ليثير المخاوف من فتح جبهة جديدة في المنطقة الملتهبة، لكنها هذه المرة بين دولتين كبيرتين من حيث حجم السكان والقدرات العسكرية، وتملك إحداهما أسلحة نووية.

ففي 16 يناير 2024 قصف الجيش الإيراني بصواريخ بالستية وطائرات مسيرة ما قال إنَّها قواعد ومعسكرات لجيش العدل البلوشي داخل باكستان، مما أسفر عن مقتل طفلين وإصابة ثلاثة آخرين بحسب السلطات الباكستانية، وبعد يومين رد الجيش الباكستاني بقصف عدة مواقع لجيش تحرير بلوشستان قرب مدينة سراوان داخل إيران، مما أسفر عن مقتل 9 باكستانيين بينهم سبعة نساء وأطفال بحسب السلطات الإيرانية. وإثر ذلك أعلنت إسلام أباد تجميد القرارات الأحادية التي سبق أن أخذتها بعد القصف الإيراني، التي شملت استدعاء سفيرها من طهران، وتعليق اللقاءات الثنائية بين المسؤولين، كما أشارت إلى الاتفاق مع طهران على خفض التصعيد واحترام سيادة كل دولة لأراضي الدولة الأخرى. 

إنَّ هذا التصعيد القصير ليس الأول من نوعه، ويسلط الضوء على العلاقات الباكستانية الإيرانية، التي تمر بمنحنيات من الصعود والهبوط منذ تأسيس باكستان في عام 1947 عقب تقسيم الهند إلى بلدين.

مساحات التعاون

يوجد ارتباط تاريخي بين باكستان وإيران، حيث خضعت بعض أجزاء باكستان المعاصرة لبلاد فارس الاسم القديم لإيران، وكانت جزءًا منها. وعقب إعلان استقلال باكستان في عام 1947 كان الشاه رضا بهلوي أول رئيس دولة يزور باكستان في مارس 1950، ووقع البلدان في ذات العام معاهدة صداقة.

نظرًا لعلاقتهما الوثيقة مع لندن آنذاك، انخرطت إيران وباكستان مع العراق وتركيا وبريطانيا في “حلف بغداد” الذي تأسس عام 1955 لتطويق الاتحاد السوفيتي، وهو الحلف الذي استمر حتى عام 1979 حين انسحبت إيران منه بعد اندلاع الثورة.

في حقبة حكم الشاه، رأت طهران في إسلام أباد حليفًا إسلاميًّا غير عربي ضد موسكو، كما أرادت تسكين حدودها الشرقية مع باكستان في ظل التخوف من الجار السوفيتي في الشمال، ووجود توترات مع العراق في الحدود الغربية، وفي الخليج. ومن جهتها، كانت باكستان بحاجة إلى قوة موازنة للهند التي تمتعت بعلاقة جيدة مع روسيا وحكومة أفغانستان الشيوعية آنذاك، وهو ما وفر لكل من إيران وباكستان عمقًا استراتيجيًّا مهمًا. 

خلال حقبة الحرب الباردة، انحازت إيران علنًا إلى باكستان في حروبها مع الهند، وقدمت لها مساعدات اقتصادية وعسكرية. كما قدم الجيش الإيراني في عهد الشاه دعمًا عسكريًّا وصل ذروته بتوفير 30 مروحية عسكرية بأطقمها لاستخدمها في قمع تمرد البلوش داخل باكستان، وهو التمرد الذي أخذ شكل دورات من القتال العنيف منذ عام 1948 حتى الآن للمطالبة بحكم ذاتي يراعي حقوق البلوش، ويوفر لهم حصة من عوائد الغاز والثروات الموجودة في أراضيهم التي تحصل عليها الحكومة المركزية في إسلام أباد، وقد دعمت طهران آنذاك إسلام أباد لمنع امتداد التمرد إلى صفوف بلوش إيران.

تغير المشهد مع اندلاع الثورة الإيرانية التي أطاحت بحكم الشاه العلماني الحليف لباكستان في عام 1979، ووصول التيار الديني الشيعي إلى مقاعد الحكم، وتبنيه لتصدير الثورة، وهو ما حدث بعد سنتين من استيلاء ضياء الحق على السلطة في باكستان بانقلاب عسكري، واقترب بشكل كبير من الرياض. وفي تلك الآونة حُل حلف “بغداد”، لكن أدى الغزو السوفيتي لأفغانستان إلى بروز مخاوف مشتركة من توسيع نفوذ موسكو على حساب إيران وباكستان، فتعاون الخميني وضياء الحق في دعم المعارضة الأفغانية، كما قدمت باكستان دعمًا عسكريًّا خافتًا لإيران بالسلاح والذخيرة في حربها مع العراق نظرًا لتبنيها الحياد رسميًّا مراعاة للضغوط السعودية عليها، كما فتحت باكستان موانيها البحرية لإيران خلال الحرب. ثُمَّ مثلت السفارة الباكستانية في واشنطن رسميًّا المصالح الإيرانية نظرًا لإغلاق السفارة الإيرانية في الولايات المتحدة.

كذلك ساعد العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان طهران في برنامجها النووي عبر توفير التكنولوجيا النووية ومكونات أجهزة الطرد المركزي. ومؤخرًا مع تبني طهران لسياسة التوجه شرقًا، فقد احتاجت إلى باكستان في توسيع تعاونها مع الصين، فجميع خطوط السكك الحديدية والطرق السريعة التي تربط إيران بالصين تمر عبر الأراضي الباكستانية.

مسارات الافتراق

 رغم مسارات التقارب، فقد برزت ملفات شائكة من أبرزها اعتماد باكستان ماليًا على الدعم المالي السعودي في إدامة اقتصادها مما يمثل قيدًا على تطوير علاقاتها مع إيران، فيما لعب الجيش الباكستاني دور الضامن للأمن السعودي، حيث قصف طياروه اليمن بطائرات سعودية في عام 1969، كما تمركز نحو 15000 جندي باكستاني في السعودية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بينما ترأس قائد الجيش الباكستاني السابق التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي شكلته السعودية في عام 2015.

 لقد انعكس التوتر الطائفي السني الشيعي على الداخل الباكستاني الذي يعيش فيه نحو 40 مليون شيعي، حيث شهدت باكستان حوادث عنف متبادلة بين السنة والشيعة قُتل فيها بضعة آلاف من المواطنين أغلبهم من الشيعة، وصولًا لاغتيال الدبلوماسي الإيراني صادق جانجي في مدينة لاهور الباكستانية على خلفية طائفية في عام 1991.

كذلك أدى صعود حركة طالبان في أفغانستان منتصف تسعينيات القرن العشرين إلى حدوث خلافات بين إسلام أباد وطهران، حيث دعمت باكستان طالبان، فيما دعمت إيران تحالف الشمال المعارض لطالبان، وكادت أن تنخرط طهران في حرب مع طالبان عقب مقتل 6 من موظفي القنصلية الإيرانية في مدينة مزار الشريف على يد طالبان في عام 1998. ولحل التوترات المتزايدة تشكلت في نوفمبر 2001 اللجنة الوزارية الباكستانية الإيرانية الأمنية المشتركة لبحث ملفات تهريب المخدرات ومكافحة الإرهاب والعنف الطائفي.

خلال العقد الأخير انزعجت إسلام أباد من تجنيد إيران لعدد من المواطنين الباكستانيين الشيعة ضمن لواء زينبيون، وإرسالهم للقتال في سوريا بجوار نظام بشار الأسد. وبجوار ما سبق، ترى باكستان في ميناء تشابهار الإيراني الواقع على بعد 72 كيلومترًا من ميناء جوادار الباكستاني منافسًا في العمل كبوابة بحرية لدول آسيا الوسطى، كما ترى ممر الشمال-الجنوب الذي تسعى من خلاله طهران وموسكو ونيودلهي لنقل البضائع من روسيا إلى إيران وصولًا للهند، تهديدًا للممر الاقتصادي الذي أطلقته مع الصين في عام 2015، ويضم مجموعة من المشروعات في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية للربط بين ميناء جوادار الباكستاني على بحر العرب في بلوشستان وصولًا إلى كاشغار في تركستان الشرقية التي تسيطر عليها الصين. ونظرًا لتعقد ملف بلوشستان الذي أدى إلى التصعيد الأخير، فسأتناوله في محور منفصل.

أزمة بلوشستان

تتمتع بلوشستان بموقع استراتيجي حيث تطل على بحر العرب الواقع على طرق المواصلات البحرية بين مضيق هرمز وشرق آسيا، كما تربط جنوب غرب آسيا مع آسيا الوسطى. وأثناء حقبة الاحتلال البريطاني للهند فرض البريطانيون سيطرتهم على بلوشستان ثُمَّ جزؤوها فأعطوا إيران جزءًا كبيرًا من بلوشستان الغربية في عام 1871، ثُمَّ منحوا جزءًا من شمال بلوشستان لأفغانستان في عام 1893 عقب تقسيمهم الحدود بينها وبين الهند وفق خط ديوراند، فيما أصبح الجزء المتبقي ضمن باكستان عقب تقسيم الهند إلى باكستان والهند في عام 1947. ويعيش حاليًّا نحو 9 مليون بلوشي في باكستان، و2 مليون بلوشي في إيران، و400 ألف بلوشي في أفغانستان بحسب تقديرات “كتاب الحقائق” الذي تصدره وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

أولًا: أزمة البلوش في باكستان

اصطدم البلوش الذين حكموا مناطقهم ذاتيًّا عبر قرون بالحكومة الباكستانية الجديدة المركزية، واتهموها بمحاباة سكان إقليم البنجاب على حسابهم، عبر ترقية ضباط البنجاب للمناصب العليا في الجيش وأجهزة الأمن، وتحويل عوائد الغاز إلى إسلام أباد مع إهمال تنمية بلوشستان التي تغطي 43% من مساحة باكستان بينما يعيش فيها 6% فقط من إجمالي سكان باكستان.

 اندلع أول تمرد للبلوش في باكستان نهاية أربعينيات القرن العشرين، وبرزت التوجهات اليسارية لدى أبناء القبائل البلوشية، وحدثت عدة موجات أخرى من التمرد بلغت ذروتها في الفترة من 1973 إلى 1977، ونشر خلالها الجيش الباكستاني نحو 80 ألف جندي في الإقليم لفرض سيطرته عليه، فيما قُتل نحو 5 آلاف بلوشي و3 آلاف جندي باكستاني. وفي مواجهة انتشار الأفكار اليسارية في بلوشستان، لجأت إسلام أباد لدعم الأحزاب الإسلامية البشتونية في بلوشستان، حيث يمثل البشتون العرقية الثانية في الإقليم بنسبة 29% فيما يمثل البلوش 54.7% من سكان الإقليم الذي تُعدُّ مدينة كويتا عاصمته.

بحلول عام 1992، قررت حكومة نواز شريف بناء ميناء بحري عميق في جوادر على ساحل مكران في بلوشستان بحجة تنمية المنطقة وبناء مشروعات صناعية للتصدير للخارج، وتوفير بوابة بحرية لتصدير البضائع الصينية، فضلًا عن تعزيز الأمن القومي الباكستاني عبر بناء بديل لميناء كراتشي الذي سبق للبحرية الهندية حصاره خلال الحروب مع باكستان.

 لكن البلوش يتهمون الحكومة الباكستانية باستخدام الميناء لتغيير التركيبة السكانية للإقليم عبر توظيف عمال من خارج بلوشستان، وحرمان الصيادين من العمل في المنطقة رغم أنَّ الصيد يمثل مهنة نحو 80% من سكان الإقليم، ومصادرة آلاف الأفدنة من الأراضي ومنحها لكبار قادة الجيش والأمن قرب الميناء الجديد.

برز من بين بقايا تمرد البلوش في سبعينيات القرن العشرين، مجموعة من زعماء قبائل المري وبوجتي الذين أسسوا “جيش تحرير بلوشستان”، وبدأوا في شن هجمات مسلحة ضد المنشآت الحكومية وخطوط الغاز وعمال البناء في المشروعات الحكومية فضلًا عن أفراد الجيش وقوات الأمن، والموظفين والعمال الصينيين في مشروعات الممر الاقتصادي، ولذا صنفته الحكومة الباكستانية منذ عام 2006 كتنظيم إرهابي، كما اتهمت باكستان الهند بدعم المسلحين البلوش بالسلاح والأموال عبر الحدود الأفغانية، مع التركيز على ميناء جوادر لمنع الصين وباكستان من استخدامه كقاعدة عسكرية بحرية. كذلك تنظر إسلام أباد للقنصلية الهندية في مدينة زاهدان ببلوشستان في إيران كمركز لأنشطة المخابرات الهندية الداعمة لتمرد البلوش. فيما تذهب مجموعة الأزمات الدولية إلى أنَّ تمويل المسلحين البلوش يعتمد بالدرجة الأولى على عائدات التجارة في المخدرات والأسلحة عبر الحدود مع أفغانستان وإيران، وتبرعات البلوش المهاجرين في الخليج العربي.

وفي يناير 2022 قتل مسلحون بلوش 10 جنود باكستانيين ثُمَّ فروا إلى داخل إيران. ولذا استهدف القصف الباكستاني الأخير قواعد ومقرات تابعة لجيش تحرير بلوشستان في إيران، والذي لا يمثل إزعاجًا لطهران نظرًا لتركيزه على مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية داخل باكستان، وعدم تقاطعه مع الجماعات البلوشية المسلحة الإيرانية، التي تتبنى توجهات سلفية دينية مضادة للأفكار اليسارية.

ثانيًا: أزمة البلوش في إيران

في ظل انتماء البلوش للمذهب السني، وتشكيلهم لقرابة 85% من سكان محافظة سيستان بلوشستان الواقعة جنوب شرق إيران، على طول خليج عمان بالقرب من الحدود مع باكستان وأفغانستان، وتحدثهم بلغتهم البلوشية، وامتلاك أراضيهم لثروات طبيعية، وإطلالها على منافذ بحرية وسواحل هامة، فقد طالبوا بمراعاة حقوقهم الدينية والعرقية، وخاضوا صراعًا مع طهران مطلع القرن العشرين انتهى بإعدام الزعيم البلوشي داست محمد خان في عام 1929.

عانى البلوش بُعد مسافة إقليمهم عن طهران، وغياب الرعاية والتنمية الحكومية، وهو ما يتواكب مع قلة هطول الأمطار ببلوشستان، مما انعكس على النقص الحاد في الأراضي الزراعية حيث تمتد الصحراء في شمال بلوشستان بينما توجد الجبال في جنوبها، ويعاني السكان شح المياه، فيما يقبع 70% منهم تحت خط الفقر بالتزامن مع عزوف الحكومة والمستثمرين عن ضخ استثمارات في منطقة نائية وقاحلة، ولذا تنتشر في المنطقة أعمال تهريب البضائع والمخدرات والأسلحة، مما جعلهم يشغلون نسبة 20% من عمليات الإعدام في إيران رغم أنَّهم يمثلون نحو 2% من السكان، وأسفرت هذه العوامل مجتمعة عن وجود فجوة جغرافية ودينية وعرقية وسياسية بينهم وبين بقية الإيرانيين لحساب ما يجمعهم مع بقية البلوش في باكستان وأفغانستان.

في حقبة الجمهورية الإسلامية في إيران، تزايدت الحساسية الدينية للبلوش تجاه السلطات في طهران، وتأسس في 2002 تنظيم “جند الله” بقيادة عبد الملك ريجي، ليطالب بحقوق أهل السنة في إيران. وبدأ في شن هجمات تنوعت ما بين الاغتيالات لقادة الحرس الثوري والأجهزة الأمنية في محافظة بلوشستان، وهو ما وصل ذروته بقتل الجنرال نور علي شوشتري نائب قائد القوات البرية في الحرس الثوري رفقة 28 آخرين من بينهم الجنرال محمد زاده قائد الحرس الثوري في بلوشستان في تفجير حدث عام 2009 بمدينة بيشين قرب الحدود مع باكستان.

اتهمت طهران إسلام أباد بفقدان السيطرة على المناطق الحدودية، وهو ما دفعها للبدء في بناء جدار حدودي مزود بخنادق وأسلاك شائكة وأبراج مراقبة في عام 2007 لعرقلة حركة التنقل على الحدود، ونقلت الإشراف على الأمن في محافظة سيستان بلوشستان منذ عام 2009 إلى الحرس الثوري، الذي عزز تواجده بمدرعات ومروحيات وأسلحة ثقيلة، فضلًا عن تنفيذ توغلات عسكرية على الحدود، كما اتهمت طهران باكستان بإيواء عبد الملك ريجي زعيم تنظيم “جند الله”، وذلك قبل إلقاء القبض عليه في عام 2010 إثر اعتراض طائرة حربية إيرانية لطائرة مدنية سافر على متنها من الإمارات إلى قيرغيزستان، وهو ما قال محمد عباسي السفير الباكستاني في إيران آنذاك، أنَّه تم بمساعدة من باكستان.

تفكك تنظيم” جند الله” بعد إعدام زعيمه، وتلقيه عدة ضربات أمنية، وانبثق من بين بقاياه “جيش العدل”، الذي نفذ أولى هجماته في أكتوبر 2013، عبر قتل 14 من حرس الحدود الإيرانيين، وأعلن أنَّ الهجوم رد على جرائم الحرس الثوري في سوريا واضطهاد أهل السنة في إيران، ثُمَّ نفذ هجومًا آخر في عام 2014 اختطف خلاله 5 جنود إيرانيين إلى داخل باكستان، قبل أن يفرج عنهم بوساطة قبلية فيما قُتل الخامس، وهو الحادث الذي دفع الجيش الإيراني للتهديد بشن عملية عسكرية داخل باكستان للإفراج عنهم.

يقتصر نطاق عمل المسلحين البلوش في إيران على منطقتهم العرقية، فلم ينفذوا هجمات خارجها في بقية أنحاء إيران، كذلك لم يتقاطعوا مع الجماعات الكردية المسلحة في غرب إيران أو الجماعات المسلحة العربية في خوزستان التي تقاتل الحكومة الإيرانية، وذلك لبعد المسافة جغرافيًّا بين هذه المناطق، واختلاف الدوافع والأهداف رغم وحدة الخصم.

تتهم السلطات الإيرانية الجماعات البلوشية المسلحة بامتلاك قواعد خلفية في باكستان، تستخدمها للتدريب والتخطيط لتنفيذ هجمات داخل إيران مستغلة الحدود الطويلة بين البلدين، والبالغة 972 كيلو مترًا للتسلل وتنفيذ هجمات داخل إيران من آخرها اقتحام مقر شرطة مدينة راسك في منتصف ديسمبر 2023، وقتل 12 شرطيًا من أفراده ومن عناصر قوات التدخل السريع التي قدمت للنجدة، وهو الهجوم الذي قاد للتصعيد الأخير بين إيران وباكستان.

إنَّ حوادث الإعدام المتكررة لعناصر جيش العدل بتهمة الإفساد في الأرض، فضلًا عن إعدام وسجن العديد من أبناء بلوشستان بتهم الإتجار بالمخدرات والتهريب، بالإضافة إلى الانتهاكات الواسعة بحق السكان، كما في مجزرة زاهدان التي شهدت مقتل 93 متظاهرًا إثر احتجاجات عقب صلاة الجمعة 30 سبتمبر 2022 ضد اغتصاب فتاة بلوشية على يد شرطي إيراني، أدت إلى زيادة وتيرة العنف في بلوشستان.

ترى السلطات الإيرانية في بلوشستان منطقة رخوة يوظفها الخصوم الخارجيون لاستنزاف قدراتها، بداية من العراق في عهد صدام، وصولًا إلى السعودية وإسرائيل في الوقت الحالي عبر تقديم الدعم للمسلحين البلوش، وهو ما أدى إلى مقتل نحو 5000 من عناصر الأمن الإيرانيين منذ عام 1979 حتى الآن، بينما يتهم البلوش إيران باضطهادهم دينيًّا لأنَّهم سنة، وعرقيًّا لاختلافهم عن الفرس، وحرمان مناطقهم من الخدمات، وإفقارها بشكل متعمد. 

في ضوء ما سبق، تتكرر الاحتكاكات بين قوات حرس الحدود الإيرانية والباكستانية، وهو ما أدى في عام 2014 إلى مقتل جندي باكستاني وإصابة 3 آخرين فضلًا عن سيطرة حرس الحدود الإيراني على بلدة نوكوندي الحدودية الباكستانية المتاخمة لإيران واحتجاز سكانها للتحقيق معهم مدة ست ساعات، وذلك بعد مقتل اثنين من حرس الحدود الإيرانيين في اشتباك مع جيش العدل.

تتهم إسلام أباد طهران بتصدير مشكلاتها الداخلية إليها، فيما لا يعطي الجيش الباكستاني الأولوية للعمل ضد الجماعات المعادية لإيران في ظل عدم إضرارها بالمصالح الوطنية الباكستانية وتجنبها الانخراط في التمرد البلوشي داخل باكستان، ويكتفي بالعمل وفق نهج “الحد من الضرر”.

 الآفاق المستقبلية

تنظر باكستان إلى الهند كتهديد وجودي، حيث تحتل إقليم كشمير، وتسببت في انفصال بنجلاديش، ولذا تخصص إسلام أباد الجزء الأكبر من مواردها العسكرية للحدود مع الهند. كذلك تواجه باكستان مشكلات عميقة في المنطقة القبلية الحدودية مع أفغانستان، وفي مواجهة التمرد الذي تقوده حركة طالبان باكستان. وهو ما يضاف إلى أزمة اقتصادية حادة، وخلافات سياسية داخلية متكررة، آخرها بين الجيش ورئيس الوزراء السابق عمران خان. ولذا فإنَّ إسلام أباد لا ترغب في إشعال أزمة مع إيران ستضيف عدوًا آخر لثلاثة أعداء آخرين في ثلاث من دول الجوار الأربعة.

أما طهران، فقد عجزت حلولها الأمنية والعسكرية في القضاء على تمرد البلوش، فبعد أن فككت تنظيم “جند الله” ظهر “جيش العدل”، ولم تقدم حلولًا سياسية لبلوشستان التي لديها خصوصية دينية وعرقية وجغرافية، فيما تتخوف من أنَّ تلبية بعض المطالب البلوشية قد تدفع لرفع سقف المطالب في مناطق أخرى تشهد تمردات مسلحة كما هو الحال في مناطق الأكراد والعرب والبلوش والأذر في محافظات إيران الحدودية، وهو ما قد يقوض وحدة أراضي إيران في شكلها الحالي. ولذا يمثل إلقاء المسؤولية على دول أجنبية مبررًا للتخفف من المسؤولية الذاتية عن الأوضاع في بلوشستان.

إنَّ القصف الصاروخي الإيراني داخل باكستان يهدف للضغط على إسلام أباد لاتخاذ إجراءات أكثر حزمًا تجاه الجماعات البلوشية الإيرانية على أراضيها، ولتعزيز الثقة في الجيش والحرس الثوري أمام الشعب الإيراني عبر قصف متزامن لأهداف في ثلاث دول ردًّا على هجمات متتالية تعرض لها الداخل الإيراني والمستشارين الإيرانيين في سوريا، لكن الرد الباكستاني يضبط المعادلة، ويرسل لطهران رسالة جازمة بأنَّ أي انتهاك للسيادة الباكستانية سيواجه برد مثيل، وبالتالي سيعيد المطالب الإيرانية لطاولة النقاش بدلًا من إرسالها عبر الأجواء بواسطة الصواريخ.

المصادر:

International Crisis Group:

China-Pakistan Economic Corridor: Opportunities and Risks, China-Pakistan Economic Corridor: Opportunities and Risks.

Pakistan: The Forgotten Conflict in Balochistan, 22 October 2007.

PAKISTAN: THE WORSENING CONFLICT IN BALOCHISTAN, Asia Report N°119, 14 September 2006.

Robert Czulda, 2023. Iran’s Approach Towards Pakistan – Between Expectations and Reality, Asian Affairs, vol 54:1, 44-66.

Robert Czulda, Iran’s Problems with Territorial Non-state Actors: A Case Study of Sistan and Balochistan, in “Unrecognized States and Secession in the 21st Century”, Springer: 2017.

Saira Basit, 2018. Explaining the impact of militancy on Iran–Pakistan relations, Small Wars & Insurgencies, vol 29:5-6, 1040-1064.

Sumita Kumar, 2008. Pakistan–Iran Relations: The US Factor, Strategic Analysis, vol 32:5, 773-789.

Zahid Shahab Ahmed & Shahram Akbarzadeh, 2020. Pakistan caught between Iran and Saudi Arabia, Contemporary South Asia, vol 28:3, 336-350.

اضغط لتحميل الملف
مشاركات الكاتب