الطوفان إذ يضعنا على أعتاب التغيير

25 يوما مضت منذ أن أوقفت كتائب القسام عجلة التاريخ، في عمل عسكري نوعي هو الأول من نوعه في تاريخ المواجهات المسلحة مع الكيان الصهيوني، إن المقاومة الفلسطينية في عمليتها العسكرية التي أطلقت عليها “طوفان الأقصى” تأكيدا منها على مبدأ الردع ونصرة الأقصى ووحدة الساحات لم تنجح في اختراق جدار المليار دولار العازل والحصار المفروض على غزة فحسب، بل نجحت في اختراق الحصار السياسي المفروض على القضية الفلسطينية والوعي العام بها، لقد اجتاحت المقاومة بعمليتها هذه ما هو أبعد من مستوطنات غلاف غزة وأراضي الـ48، فقد اجتاحت الهيبة الإسرائيلية العسكرية والأمنية ومعادلة الردع والحسابات الإقليمية والدولية ومشروع التطبيع الجديد والترتيبات الأمريكية المعدة للمنطقة.

 أوسلو، نقطة التحول

عند الحديث عن الترتيبات والحسابات الإقليمية والدولية فلابد من الإشارة إلى محطة تاريخية مهمة مهدت لواقع القضية الفلسطينية المعاصر، وهي اتفاق أوسلو، إذ أشير إلى أوسلو دون غيره من محطات تاريخية محورية نظرا للظروف الجيوسياسية العالمية التي أحاطت به، فاتفاق أوسلو الموقع في سبتمبر 1993 لم يمثل نقطة تحول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فقط، ولكن مثل بداية حقبة جديدة في تاريخ المنطقة والعالم، حيث جاء عقب حرب الخليج الثانية (1991) وما صاحبها من تمدد للنفوذ الأمريكي في المنطقة وسقوط الاتحاد السوفييتي وإعلان بداية نظام عالمي أحادي القطب تستفرد فيه الولايات المتحدة بالزعامة والهيمنة.

منح أوسلو عبر مراحله الأساسية (1993، 1995) واتفاقياته التفصيلية (1994، 1995، 1998، 1999) “إسرائيل” حق الوجود على 77% من أرض فلسطين باعتراف فلسطيني رسمي من منظمة التحرير الفلسطينية وجرَّم المقاومة والعمل المسلح دون حتى أن يكون هناك اعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة، وتضمن الاتفاق –الذي يعمل خارج حيز القانون الدولي- كثيرا من الغموض والتناقض، ما جعل تفسيره حكرا على الطرف الأقوى، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لدولة الاحتلال لتجاوز كل بنوده، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة والإمعان في التمدد الاستيطاني، ومحاصرة غزة عقب الانسحاب منها في 2005 والتمادي في مشروع تهويد القدس وتفتيت الضفة و”مخطط الضم” تحت الرعاية الأمريكية.

وصفت “هيلدا هنريكسن” المؤرخة بجامعة أوسلو الاتفاق ب“غير المتكافئ” وقالت “إن النرويج –راعية الاتفاق- كانت مدركة أن المفاوضات ستسير بالضرورة لصالح إسرائيل وإلا لما تحققت الاتفاقية”، وقد مثل اتفاق أوسلو نكسة كبرى في تاريخ القضية الفلسطينية، وصنع واقعا حصر القضية في زاوية مساومات جزئية ضيقة، وحوّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى أداة في يد الكيان الصهيوني حيث التزمت قيادة المنظمة بقمع المقاومة الفلسطينية وملاحقتها.

وكما مثل أوسلو انتصارا أمريكيا-إسرائيليا وقفزة كبيرة في مشروع تصفية القضية الفلسطينية، فإنه في المقابل كان بمثابة إعلان عن بداية حقبة جديدة في عمر المقاومة الفلسطينية الإسلامية، حقبة كان عنوانها “إنه لجهاد، نصر أو استشهاد”

صناعة الطوفان

انتعش العمل المقاوم عقب أوسلو وشهد عام الاتفاق أكثر من 130 عملية عسكرية نفذتها “كتائب الشهيد عز الدين القسام” وحدها، أدت إلى قتل وجرح مئات من الإسرائيليين.

عززت حالة القتال المستمرة من قدرات حركات المقاومة الإسلامية العسكرية والأمنية وقوضت مشروعية اتفاق أوسلو عمليا، وهو ما دفع الولايات المتحدة لدعم دولة الاحتلال وأجهزة الأمن الفلسطينية في عمليات استهداف المقاومة في الضفة والقطاع عبر الدعم اللوجستي والاستخباراتي وملاحقتها في الخارج وتصنيفها كجماعة إرهابية، وقد تعرضت المقاومة لضربات موجعة خلال حقبة التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، أدت في المحصلة إلى اشتداد عودها وتطوير أفكارها وإمكانياتها الأمنية والعسكرية والسياسية.

بدأ القرن الجديد بانتفاضة الأقصى (2000-2005) التي أوقدت جذوة العمل الجهادي وحس التضامن والتكافل الإسلامي عبر العالم وحالة العداء للمشروع الصهيوني وداعمه الأكبر: الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أدت العمليات العسكرية التي استهدفت المستوطنين وجنود الاحتلال خلال السنوات الخمس إلى أكثر من 1500 قتيل وضعفهم من الجرحى.

وقد أسهم اكتساح “حماس” للانتخابات البلدية والتشريعية في الضفة الغربية وقطاع غزة (2006) إلى بناء ظهير شعبي صلب وإعطاء العمل المقاوم عمقا ميدانيا وزخما شعبيا، كما قادت سيطرة الحركة على القطاع وطرد قوات السلطة الفلسطينية المتعاونة مع قوات الاحتلال (2007) –التي أدت إلى بدء الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 16 عاما- إلى تأمين ظهر المقاومة وتطوير قدراتها النارية وبنيتها التحتية الأمنية والعسكرية وتعزيز ترسانتها العسكرية عبر عمليات التهريب والتصنيع الحربي، ما صنع واقعا جديدا وضعت فيه المقاومة أكثر من مليون مستوطن تحت طائلة نيرانها، وهو ما عد اختراقا إستراتيجيا لمعادلة الأمن والردع القائمة.

على أعتاب عالم جديد

منذ نشأتها (1987) وعلى مر تاريخها طورت حركة المقاومة الإسلامية من أدائها العسكري وقدرتها على ضرب العدو، لتبلغ ذروتها في عملية “طوفان الأقصى” التي وصفها جنرالات العدو ب”الاختراق الأعجوبة” وتعد العملية الاختراق الأمني والعسكري الأكبر والأعمق في تاريخ دولة الاحتلال، حيث تمكن أكثر من 1500 مقاتل من كتائب القسام من اقتحام أكثر من 30 نقطة عسكرية على طول الحدود برا وجوا وبحرا، منها أربع قواعد عسكرية مركزية، وفرض سيطرتهم على عمق 45 كيلومتراً داخل الأراضي المحتلة في محيط غزة.

أسقط جنود المقاومة خلال ساعات معدودة نحو 1400 قتيل إسرائيلي وأسروا نحو 250 أسيرا بينهم جنود وضباط برتب رفيعة، كما نجحوا في تدمير “فرقة غزة” المكونة من لواءين ووحدتين عسكريتين والتي كانت تتولى مهام إدارة عمليات الاغتيال وتدمير الأنفاق ومراقبة الحدود، وهو ما يعد خسارة كبرى ستصعب مهمة جيش الاحتلال في عملياته العسكرية في قطاع غزة، وقد استمرت قوات القسام في شن عمليات عسكرية خلف خطوط العدو حتى الأسبوع الثاني من انطلاق العملية!

وتضمنت “طوفان الأقصى” عمليات هجوم سيبراني استهدفت أجهزة المراقبة على الجدار العازل وضرب اتصالات العدو، كما تضمنت عمليات استخبارتية لجمع المعلومات، وعمليات خداع وتضليل إستراتيجي للعدو دامت لأكثر من سنة، وهو ما علق عليه “بروس هوفمان” الخبير الأميركي في دراسات الإرهاب ومكافحة بقوله”إن حماس امتلكت القدرة على إخفاء استعداداتها عن إسرائيل التي تمتلك أحد أكثر أجهزة الاستخبارات تطورا في العالم، وقد استغلت عنصر المفاجأة بشكل مذهل”، في حين عبر المحلل الأمني الإسرائيلي “ميرون رابوبورت” عن فداحة الخسارة قائلا “إنه فشل استخباراتي كبير، لا شك أن إسرائيل ستحتاج إلى وقت طويل لتتعافى منه من حيث ثقتها بنفسها”.

انطلقت عملية الطوفان في مناخ سياسي خانق، فبين مسار التطبيع الجديد الذي استهدف تجاوز القضية الفلسطينية عبر بناء شراكة إستراتيجية بين حلفاء واشنطن في المنطقة وبين دولة الاحتلال، وبين ممارسات حكومة اليمين الصهيوني الاستيطانية واقتحامات الأقصى المتكررة ومشروع تهويد القدس والحصار الخانق على القطاع وتردي الحالة المعيشية فيه، شهدت القضية الفلسطينية عزلة غير مسبوقة وخيم اليأس على الشارع الإسلامي والعربي في ظل توجه الأوضاع السياسية نحو تصفية القضية.

جرّف الطوفان فور انطلاقه الترتيبات الأمريكية-الإسرائيلية، وخلط المواقف والتفاهمات الإقليمية، وأحيا مشروع المقاومة وأعاد ملف القضية الفلسطينية والاحتلال على رأس الأجندة الدولية، فبعد أن كانت المنطقة تتجه نحو تهدئة شاملة صارت اليوم على أعتاب حرب إقليمية، أما النتيجة الأهم والأعظم فهي كشف دولة الاحتلال أمنيا وسياسيا وضرب فكرة أمن إسرائيل وتفوقها العسكري والاستخباري وضرب استقرارها الداخلي والبنيوي في مقتل، وهو ما عبر عنه رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي السابق ريتشارد هاس قائلا “إن ما حدث هو فشل ذريع للاستخبارات الإسرائيلية، وفشل ذريع للجيش، لقد انهار الردع”

ويؤكد المحلل الأمني الإسرائيلي “وعام أمير” أن “إسرائيل تحولت في يوم 7 أكتوبر من قوة استخباراتية كبرى في العالم إلى قوة لا توجد لديها أي استخبارات فعالة، ويضيف “أمير تيبون” الصحفي المقيم في كيبوتس ناحال عوز “إن العقد بيننا وبين الدولة: نحن نسكن الحدود ونحميها بوجودنا، والدولة تحمينا، إن الطريقة التي تطورت بها أحداث ذلك اليوم هي أسوأ فشل في تاريخ إسرائيل.”

ضرب “إسرائيل” بها الشكل المهين وتكبدها خسائر تاريخية فادحة، واعتراض المخطط الأمريكي، والكشف عن إمكانيات عسكرية غير عادية للمقاومة، وتحفيز المحيط الإسلامي والعربي، كل ذلك دفع واشنطن لاتخاذ إجراءات عسكرية غير مسبوقة، فسارعت بإرسال حاملة الطائرات جيرالد فورد للتمركز شرق المتوسط ثم أتبعتها بحاملة “دوايت أيزنهاور”، وأرسلت 2000 جندي لتل أبيب لدعم العمليات البرية، كما قررت إرسال 12 بطارية من أنظمة الدفاع الجوي THAAD لقواعدها في المنطقة لتعزيز قدرات الاعتراض الجوي، وسياسيا توجه وزير خارجيتها بلينكن لتل أبيب بعد 4 أيام فقط من الهجوم (11 أكتوبر)، ليتبعه بايدن يوم 18 أكتوبر عقب مجزرة مستشفى المعمداني الذي قتلت فيه طائرات جيش الاحتلال أكثر من 500 فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، في تأكيد واضح وصريح على تأييد الإدارة الأمريكية المطلق لجرائم دولة الاحتلال.

تبعت واشنطن العواصم الغربية الأخرى، فأبدت الواحدة تلو الأخرى تأييدها ودعمها المطلق لإسرائيل، وسخرت آلتها الإعلامية بما تحويه من مؤسسات صحفية وقنوات ومواقع ومشاهير السينما والغناء لترويج الرواية الصهيونية، في انحياز سافر وغير مسبوق، وأعلنت عواصم الديمقراطية الغربية عن تجريم المظاهرات الداعمة لفلسطين، واتخذت إجراءات صارمة بدءا من السجن وانتهاء بالترحيل لكل من يبدي تعاطفه وتأييده، لكن حجم التأييد والزخم الشعبي ضرب كل هذه الإجراءات الاحتياطية فخرجت في لندن وباريس وبرلين إحدى أكبر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، في المقابل فشلت العواصم الغربية في أن تدفع أنصار الكيان الصهيوني ليخرجوا للشوارع، لتصبح بذلك الحالة الصهيونية حالة مؤسساتية منظمة تعبر عن الموقف الرسمي للنظام الغربي، في مواجهة الحالة الفلسطينية التي أصبحت تعبر عن حالة شعبية عفوية.

لقد أسس الطوفان لمعادلة جديدة لا تملك فيها واشنطن وتل أبيب اليد العليا، فرغم التفوق العسكري والتقني الهائل وما يقابله من حصار وضعف إمكانيات المقاومة وتواطؤ دول الجوار العربي، رغم هذا التباين الهائل فإن الطوفان حقق هدفه الإستراتيجي الأعظم منذ لحظاته الأولى بتقويضه للركائز الأمنية والسياسية التي يقوم عليها الوجود اليهودي في فلسطين وبإفساد الترتيبات الأمريكية المعدة للمنطقة، فواشنطن التي رعت مشروع التطبيع الجديد ضمن سياق إستراتيجيتها لتعزيز الشراكات بين حلفائها وتأسيس توازنات قوى جديدة في المنطقة، وتخفيف التوترات مع إيران عبر الحوافز الاقتصادية وتخفيف العقوبات، حتى تتمكن من تقليص وجودها دون أن يؤدي إلى تراجع نفوذها لصالح بكين وموسكو، باتت اليوم مضطرة لإعادة حساباتها وربما إعادة تقييم منطلقاتها الإستراتيجية.

أما على الصعيد الحربي، فقد أدخلت العملية الصراع مرحلة صفرية لن يكون مستقبلها كماضيها، فحجم الهجوم وفداحة أثره وتداعياته الأمنية العميقة، اضطر واشنطن للتدخل المباشر في المعركة، ووضعها وتل أبيب أمام خيارات صعبة، فإما أن تكتفي بتنفيذ عمليات عسكرية انتقامية تستهدف تدمير البنية التحتية للقطاع وحماس وضرب حلفائها ورفع التكلفة البشرية للمعركة -التي تجاوزت حتى هذه اللحظة 8500 شهيد معظمهم من النساء والأطفال- دون إستراتيجية حاسمة وحلول جذرية لمعضلة المقاومة، وهو ما سيكون بمثابة إعلان انهيار معادلة الردع القائمة وبداية النهاية للمشروع الصهيوني، وإما أن تشن تل أبيب وواشنطن هجوما بريا موسعا يستهدف استئصال المقاومة واحتلال القطاع وهو ما سيفتح الباب لاحتمالية وقوع حرب إقليمية أكبر مع إيران ووكلائها ما سيكلف دولة الاحتلال ومن ورائها واشنطن الكثير على كافة الأصعدة، وكما كان طوفان الأقصى بيانا واضحا في حتمية المقاومة وتهديد الوجود الصهيوني فإن محاولة القضاء على المقاومة واحتلال القطاع سيكون بمثابة الخطوة الأولى نحو حرب أوسع تستهدف وجود أعداء تل أبيب في المنطقة.

مشاركات الكاتب