أمريكا وإدارة الصراع في السودان

مع اندلاع القتال منتصف إبريل الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، سارعت الإدارة الأمريكية على لسان وزير الخارجية بلينكن لمطالبة الطرفين بوقف إطلاق النار مع التأكيد على التزامها بدعم التحول الديموقراطي في السودان، ثُمَّ أعلن الرئيس الأمريكي بايدن أنَّ (الوضع بالسودان بما في ذلك استيلاء الجيش على السلطة في 2021 واندلاع القتال الحالي يهدد أمن أمريكا القومي)، ثُمَّ أصدر أمرًا تنفيذيًّا يسمح بفرض عقوبات على ما وصفه بشخصيات تزعزع الاستقرار في السودان.

يشير التوجه الأمريكي بتصوير الصراع كخلاف بين جهتين رسميتين معتبرتين، وليس كصراع بين جيش قومي وقوات متمردة، إلا أنَّ واشنطن قررت أن تلعبَ لعبتها المفضلة في إدارة الأزمة بدلًا من حلها، وتوظيف الصراع لخدمة أهدافها الإستراتيجية الكبرى بالمنطقة. فهذا النهج أشار إليه وليام بيرنز -مدير الاستخبارات الأمريكية CIA- ونائب وزير الخارجية السابق في مذكراته التي نشرها باللغة الإنجليزية في كتاب عام 2019 بعنوان “القناة الخلفية”، حيث قال إنَّه تعلم من هيدلي بول مشرفه الأكاديمي على رسالته للدكتوراه أنَّ الدبلوماسية تتعلق عادة بإدارة المشكلات أكثر من حلها. أما روبرت جيتس مدير CIA في عهد بوش الأب ووزير الدفاع الأمريكي في عهد بوش الابن وأوباما، فيشرح مثالًا عمليًّا لتلك القاعدة في مذكراته الصادرة بعنوان “الواجب” حيث يتناول الدور الأمريكي في حرب العراق وإيران قائلًا (لم نكن نريد أن يحقق أي من الطرفين نصرًا كاملًا، وبين الحين والآخر كنا نؤمّن دعمًا سريًّا متواضعًا لكليهما).

فواشنطن غير معنية بحل الصراعات بقدر حرصها على توظيف تلك الصراعات، ولذا يقول جورج فريدمان -مؤسس موقع ستراتفو- في كتابه “الأعوام المائة القادمة” (لا تحتاج الولايات المتحدة إلى الانتصار في الحروب، ما تحتاجه بكل بساطة هو إغراق الآخرين في الفوضى، بحيث لا يمكن لهم إنتاج ما يكفي من القوة لتحدي هيمنتها).

ما الذي تريده واشنطن والغرب من السودان؟

يقع السودان في قلب القارة الإفريقية؛ حيث تمر عبره عدة خطوط صدع ومن أبرزها خط الصدع التاريخي بين مناطق النفوذ العربية والإسلامية ومناطق النفوذ الإفريقية الوثنية والمسيحية، وهو الذي أدى إلى حرب أهلية انتهت بانفصال جنوب السودان. وخط صدع ثان بين مناطق السهول ذات الغالبية العربية المسلمة ومناطق النفوذ الإثيوبية المسيحية في مرتفعات الحبشة، وهو ما أدى إلى تكرار النزاعات الحدودية بين البلدين. وخط صدع ثالث بين القبائل العربية والإفريقية المسلمة في غرب السودان، وهو ما قاد إلى أزمة دارفور. ومن ثَمَّ فإنَّ تنشيط خطوط الصدع المذكورة يصب في صالح استنزاف العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يعضده حديث روبرت جيتس مدير CIA ووزير الدفاع الأمريكي السابق في مذكراته عن مجريات لقاء جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في عام 2011، حيث قال له باراك (الأخبار الجيدة هي أنَّ الأزمة في المنطقة لا تتعلق بإسرائيل أو أمريكا، بل بالمشكلات الداخلية في البلاد العربية، وعلينا العمل لإبقاء التركيز منصبًّا على ذلك).

إنَّ إضعاف السودان يسهل التلاعب بقادته، ويدفع كل منهم للتسابق على التطبيع مع إسرائيل لكسب حلفاء أكثر إلى صفه ضد غرمائه الآخرين. فالسودان يحمل رمزية مهمة عبَّرَ عنها جاريد كوشنر كبير مستشاري ترامب قائلًا (إنَّ التطبيع مع السودان يحمل قيمة رمزية؛ لأنَّ جامعة الدول العربية عقدت اجتماعًا في الخرطوم بعد حرب 1967، وأعلنت اللاءات الثلاثة: لا سلام ولا اعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل).

كذلك فإنَّ الصراع في السودان، يساعد واشنطن في الضغط على طرفي الصراع للابتعاد عن موسكو، التي تطمع في تأسيس قاعدة عسكرية بحرية في بورتسودان على البحر الأحمر، فضلًا عن انخراط فاغنر في تجارة الذهب مع قوات الدعم السريع وسعيها إلى تعميق نفوذها في قلب القارة الإفريقية بعد أن تواجدت في ليبيا ومالي وإفريقيا الوسطى. ومن ثَمَّ يمكن لواشنطن تقويض نفوذ فاغنر عبر المراوحة بين استخدام العصا والجزرة في التعامل مع قادة الجيش السوداني والدعم السريع، وهو ما يبرز في تلويح بايدن بفرض عقوبات على الشخصيات التي تزعزع الاستقرار في السودان.

إنَّ السودان يعاني منذ رفع الحصار الأمريكي في أكتوبر 2017 تدهورًا اقتصاديًّا مريعًا، إذ ارتفع سعر الدولار من 22 جنيهات في أكتوبر 2018 إلى نحو 600 جنيه قبل اندلاع القتال الأخير، وواكب ذلك موجة تضخم هائلة تضاعفت خلالها الأسعار تضاعفًا جعل توفير أساسيات الحياة أمرًا صعبًا للغاية مع حدوث أزمات وقود وطحين حادة ومتكررة. ثُمَّ جاء القتال الأخير ليدمر البنية التحتية بالأخص في الخرطوم، وليهدد بالدخول في أتُّون فوضى يلتف فيها الناس حول هوياتهم القبلية والجهوية، وهو ما يجعل قلب القارة الإفريقية أشبه ببلقان جديد قد يشعل صراعًا يمتد إلى تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب ليبيا ومصر وإثيوبيا وأريتريا.

الاستعداد للتداعيات

اللافت أنَّه رغم إدراك جيران السودان مثل مصر لخطورة ما يحدث على وحدة السودان وتماسكه، فإنَّها لم تقم بجهد فاعل ومؤثر لاحتواء الصراع. وقد سبق لوزير الخارجية المصري السابق وأمين عام الجامعة العربية الحالي أحمد أبو الغيط أن تطرق في مذكراته المعنونة ب “شهادتي” إلى لقاء جمعه بالرئيس السوداني السابق عمر البشير حيث قال أبو الغيط له (إنَّ الغرب يرغب في تفسيخ السودان وإنَّ بريطانيا تستشعر أنَّها أخطأت عندما تركت السودان كدولة موحدة في عام ١٩٥٦، كما أنَّ هناك مصالح مسيحية لدى دوائر غربية وأوروبية ذات تأثير تبغي إقامة دولة في الجنوب السوداني، كما أنَّ هناك مصالح استثمارية قوية تأمل في أن تتمكن من الاستفادة بموارد السودان بعيدًا عن حكم مركزي قوي).

إنَّ الأحداث الحاليَّة في السودان تتطلب من الزعامات القبلية والدينية وأصحاب الرأي والتأثير الاستعداد لمواجهة محاولات تقسيم البلاد وتفتيتها أو توظيف الصراع لتسليم البلاد لأطراف تمثل مصالح الخارج بدلًا من مصالح السودان وأهله، فتكرار نموذج التفتيت بدعم خارجي مثلما حدث في اليمن وليبيا، سيدفع ثمنه أهل السودان فضلًا عن العالمين العربي والإسلامي.

مشاركات الكاتب