البعد القدري: محطّات مهمّة على طريق طوفان الأقصى

تقوم النّظرة الإسلاميّة للكون والعالَم والأحداث على جملةٍ من الثّوابت الّتي تتعارَض معظم الوقت وتنفصل جذريًا في كثير من التّفاصيل، عن الرؤى الماديَّة المحضة للعالَم والتّاريخ، بما في ذلك الفوضويَّة والخطيَّة والتقدّميَّة منها.

فبينما تشير النّظرة الماديَّة إلى مفاهيم مثل القوّة والسّيادة وتراتب الأعراق – أو الإنسانويّة في بعض التّصوّرات – فإنّ المعجم الإسلامي يحتوي على مفردات مختلفة تجعل الإله، إن جاز القول، في قلب المعادلة، ويجترّ هذا المعجم معه، قيمًا قد يعتبرها المتّأثرون بالثّقافة الغالبة خرافيّة مجافية للزّمن.

من هذه القيم والمفاهيم المركزيّة في النّظرية الإسلاميَّة والّتي لا تنسجم مع التّصوّرات الغربيّة الماديّة، ولا حتّى مع الدّيني منها في قالبه المسيحي، أنّ اللّه لم يخلق هذا الكون هملًا، فمع أنّه، الربّ، منفصلٌ عنه غير حالٍّ فيه، إلّا أنّ تدبيرَه حاضر، وكلّ حدث عنده لحكمة، لن يسبر الآدميّ المخلوق أغوارها، ولكن قد يستأنس من “السّنن” المبثوثة في الوحي والتّاريخ بما يعينه على ترويضها.

بناءً عليه يمكن ملاحظةُ أنّ طوفان 7 من أكتوبر الّذي ثقب ثلّة من المستضعفين المحاصرين الجدار الفاصل أمامه ليغمرَ العدوَّ في غلاف غزَّة، قد سبقه جملة من الأحداث الّتي يمكن تسكينها تحت 3 عناوين فرعيّة هي:

أولًا: انطفاء وهج العالم المتأمرك

بالرّغم ممّا يروَّج في السرديّة السياسيّة الرّسميّة عن القيم المتفرّدة الّتي تهيمن على عالم ما بعد الثّورة الفرنسيّة والحرب العالميّة الثّانية والحرب الباردة الّذي تعدّ الولايات المتحدة ذروة إنتاجه؛ فإنّ السّنوات القليلة الأخيرة أظهرت صراحة عوارَ هذه القيم وعدمَ اتساقها الدَّاخليِّ بل وخطورتها في كثير من الأحيان.

أبرز الأمثلة هنا في هذا الصّدد كان تفاعل العالم المعاصر مع “كورونا” قبل 4 أعوام، ليس في أنّ مخلوقًا بسيطًا لا يرى بالعين المجرَّدة استطاع في غفلةٍ من إنسان اليوم الغربيّ المغترّ بقوّته أن يعطّل التَّكالبَ الدّنيويَّ المحمومَ لوقت معتبر وحسب. وإنّما في استحضار أخلاقيّات العصور الوسطى بالقرصنة على القوافل البحريّة المحمَّلة بالأغراض الطبيَّة، واختلال الأولويّات في توزيع اللّقاحات على الأمّم، وحتّى حرمان كبار السّنّ في بعض الدّول “المتقدّمة” من الرّعاية العاجلة، لاعتبارات “العجز عن الإنتاج” في تطبيق عمليّ لسياسات الانتخاب الصّناعي: البقاء للأصلح إنتاجيًا!

اصطدمَ الجنوب العالمي، بما في ذلك العالم الإسلامي، مرَّة أخرى، ربّما بشكلٍ أفدح، بمآلات القيم الغربيَّة السّائدة مع توسّع دول الشّمال الأوروبّي فاحشة الثّراء والتمدّن، وعلى رأسها السّويد وألمانيا، لا في سياسة دعم التّوجّهات الجنسيَّة المنحرفة وحسب، وإنّما في السّعي بالقوّة الوقحة إلى إجبار غيرهم عليها، بما في ذلك خطف الأطفال المسلمين من أسرهم وإجبارهم قسرًا على العيش في بيئات غير آمنة، وصولًا إلى الاشتباك الثّقافي الَّذي كان العالم العربي شاهد عيان عليه على هامش كأس العالم في قطر 2022.

الأمة وتذويب قيود الجغرافيا

بالتّقاطع تقريبًا مع استجلاء السّقوط الغربي في مضمار القيم والنَّزاهة أمام الجنوب العالميِّ والجغرافيا الإسلاميَّة والأقليَّات العربيَّة في الشَّمال، فقد وقعت عدَّة أحداث كبرى ساهمت تداعياتها في تعظيم الرّابطة الوجدانيّة والرّوحيّة الإسلاميَّة قبل طوفان الأقصى.

على رأس هذه الأحداث كان التآزر الشّعبي في الحواضن الإسلاميَّة على مقاطعة فرنسا اقتصاديًا وثقافيًا، احتجاجًا على التّطاول الرّسمي من الدّولة صاحبة التّاريخ الاستعماريّ الطّويل على الإسلام، ما أدّى تراكميًا إلى إزعاج باريس وإجبارها على التّراجع التّكتيكي في هذا الصَّدد، واستشعار العالم الإسلامي قدرته على التّأثير، دون انتظار الدّول والحكومات.

يدخل في هذا، الآثار الاجتماعيَّة والإيمانيَّة للابتلاءات الإلهيَّة الّتي ضربت الحواضرَ الإسلاميَّة في أوقاتٍ متقاربة من المحيط الأطلسيّ غربًا حتّى آسيا الوسطى، مثل زلازل المغرب وأفغانستان وإعصار ليبيا وفيضانات باكستان، والَّتي ساهمت في تذكير عموم الأمّة بأنَّ يدَ الله هي العليا، وأنّ الدّنيا دار ابتلاء، وأنّ المسلمَ لأخيه، بغضّ النّظر عن الجغرافيا.

بطولات المستضعفين

ممّا يجدر ذكره أيضاً أنّ طوفان الأقصى، من طرفٍ ما، قد يمكنُ قراءته أيضاً كحلقة في سلسلة من المستجَّدات الّتي تحمل أملًا للمستضعفين عالميًا، إذ تمكّنت أذربيجان من تحرير معظم مرتفعات قره باغ من أرمينيا الّتي طالما كانت مدعومة من الغرب والشَّرق، باستخدام أدوات الحرب غير المتكافئة، وعلى رأسها المسيَّرات التركيَّة بعد 30 عامًا من الاحتلال والهندسة الديموغرافيَّة.

كما نجح الأفغان في طرد الاحتلال الأمريكي بعد احتلال دام 20 عامًا تقريبًا في ظلّ حرب غير متكافئة بين النّاتو وبين طالبان ذات المكوِّن الإسلامي القبلي، ليشرعَ الأفغان في إعادة إعمار مجتمعهم والاستفادة من ثرواتهم بالطَّريقة الّتي تناسبهم، كما بدأ النّفوذ الفرنسي المتشعّب في المستعمرات التّاريخيَّة غرب أفريقيا يتداعى كورق الدّومينو.

ثمَّ مهَّدت معركة مايو 2021 الَّتي حملت اسم “سيف القدس، الطريقَ أمام طوفان الأقصى من جهة إعادة دمج غزَّة في الجسم الفلسطيني، وتشكيل قوَّة ضغط شعبيَّة عالميَّة غير مسبوقة من الأجيال الجديدة ضد الاحتلال، وإعادة الثّقة في جدوى النّضال المحلّي المتراكم.

دون أن ننسى العمليَّة الاستثنائيَّة للجندي المصريّ محمد صلاح الّتي كانت “بروفة” عمليَّة للطوفان باعتبارها عمليَّة اقتحام جَسورة لطبقات الحماية الإسرائيلية، ونموذجًا لأثر الشَّجاعة في تذويب الفوارق العدديَّة والتقنيَّة، وبرهانًا صادمًا على فشل جهود النّظام في تسويق التّطبيع والخيانة شعبيًا.

وفي المحصّلة، تصبّ الأمثلة السَّابقة في محاولة استجلاء ما أمكن من دور التّدبير القدري وإعادة الاعتبار لمفاهيم التَّسليم والصَّبر وحسن الظنّ والتماس الأسباب والاستعلاء الإيماني والحضاريّ، تلك القيم الَّتي تقع في صلب التّصور العقيدي للمسلم، الَّذي طمأنه الوحي بأنّ أمره كله، أيًا كان ظاهره، خير.

مشاركات الكاتب