لماذا يصفق المصريون لكل موهبة تنجو من جحيم الداخل؟

لعقودٍ طويلة كانت أخبار سفر المواهب المهنيَّة والرياضيَّة المصريَّة إلى الخارج تقابَل بالأسى الملحميِّ من جميع الأطراف، فالموهبة الفذَّة تغادر البلادَ مؤقتًا من أجل تحسين الحياة على أمل العودة القريبة، وعموم المواطنين يتحسَّرون على حرمان الوطن من هذه الكوادر المتميِّزة، من الطبّ والهندسة والتعليم إلى الرياضة.

أمَّا النظام الحاكم، فكان يتعامل عادةً مع هذه الظَّاهرة من منظورٍ عقلانيّ؛ فالموهبة المغادرة يحقّ لها أن تبحثَ عن فرصةٍ أفضل، خاصة في الدول العربيَّة الغنيَّة المجاورة ليستفيدَ الجميع؛ مع انتظار المواهب ولو بعد حين لكي يقدموا خبراتهم إلى الوطن دونما ابتزازٍ أو اتّهامٍ بالخيانة.

ولكنَّ الملاحظ أنَّ “الجمهوريَّة الجديدة” التي تأسست بعد انقلاب يوليو 2013، قد أرست علاقات ومشاعر ومفاهيم جديدة عن الوطنيَّة والوطن، بما أثَّر في الأخير على سلوك وتصوُّرات المواطن العاديِّ، فلم تعد العلاقة الّتي تربطه بالثيمات القوميَّة قائمة على الحنين والرومانسيَّة والبراءة، وإنما باتت قائمة على الوعي واليقظة ورفض الابتزاز بخطاب الوطنيَّة المزيَّف.

شواهد مثيرة

عندما هرب الرياضي الشاب أحمد بغدودة من معسكر المنتخب الخارجي في تونس عبر مخادعة الكوادر الإداريَّة لكي يصل إلى فرنسا، فإنَّ عموم المصريين على منصَّات الإعلام البديل (غير الرسميَّة) أبدوا تعاطفًا ملحوظًا مع الشابّ وأسرته، إلى درجة التصدّي للهجوم الإعلامي الرسميّ المنظَّم الذي تعرَّض له بغدودة.

مرة أخرى، عندما قرر لاعب الإسكواش مروان الشوربجي في نهاية يوليو 2023 أن يحذو حذو أخيه محمد الشوربجي، بالعدول عن تمثيل العلم المصريّ لصالح اسم إنجلترا في المحافل الدوليَّة، فما كان من معظم المصريين إلّا تأييد قرار اللاعب والثناء عليه، وهو ما لفت انتباه واستغرابَ الإعلامي عمرو أديب، الذي قال إنَّ 90% من التعليقات التي رصدها تصفق للاعب.

وقائع مشابهة

احتفى المصريُّون أيضاً على نحو شديد الوضوح، بنجاح ابنتي رجل الأعمال المصريِّ محمد فريد خميس قطب صناعة المنسوجات، بإعادة هيكلة علاقتهم الاستثماريَّة داخل البلاد، حيث تكون أقرب إلى المستثمر الأجنبي ومزاياه في الحماية ونقل الأرباح إلى الخارج منها إلى المستثمر الوطنيّ.

كما أبدى قطاعٌ غير بسيط من الشعب المصريّ ارتياحًا لتطوّرات غريبة، قد يصعب فَهمُ شعور الارتياح معها، مثل إخفاق فريق كرة القدم الأول في بطولة إفريقيا التي انعقدت في مصر 2019 والفشل في التّأهل لكأس العالم 2022.. فهل بات المصريون يكرهون بلدهم؟ أم أنّ أسبابًا أخرى قد تفسر هذه التحولات الخطيرة؟

على مدار عقد جنحت سياسات النظام المصري الحاكم في علاقته بالوطن والمصريين إلى نمط مطرد يقوم على الاستباحة والقابليَّة للتسليع ورفع القداسة عن الثيمات الراسخة في الوطنيَّة المصريَّة بمفهومها الحديث، من قبيل صيانة الملكيَّة الفرديَّة والتراث الوطنيِّ والأرض والمكان.

فلأول مرَّة وباسم الوطنيَّة الزائفة نجد تبريرًا وجرأةً وتبجحًا خلال التفريط في أجزاء إستراتيجيَّة ارتوت بدماء آباء وأجداد الجيل الحالي (تيران وصنافير 2016) مقابل حفنةٍ من المال الخليجيِّ الذي جرى تبديده سريعًا.

كما تقلَّص هامشُ “المقدس الوطنيّ” الذي طالما تعارف عليه المصريون، لكي يقتصر حصرًا على ذات الرئيس وحاشيته ومصالحه؛ فالجنسيَّة المصريَّة والعقار المصري والشركات الوطنيَّة وشرف الجنديَّة الإلزاميَّة والأراضي التاريخيَّة كلها أمور صارت معروضة للبيع بأثمان بخسة.

أمَّا المصريُّ في الخارج، فلم يعد مواطنًا له الحماية والتسهيلات في نظر الدولة، وإنما صار زبونًا ومصدرًا للدولار فقط، نحاول قصقصة ريشه بالابتزاز بالوطنيَّة تارة وبالابتزاز الخشن بالإجراءات التعسفيَّة البيروقراطية تارةً أخرى.

وبالتبعيَّة فقد سرى على الرياضة ما جرى على باقي القطاعات؛ فقد تراجع دورها الشعبي والجماهيري والترفيهي للمواطن العاديّ، لتمسي في نظر النظام، حصرًا موضوعًا أمنيًا وموردًا للربح أو أداةً للحشد السياسيّ والتعبئة الجماعيَّة.

لم يكره المصري وطنه؛ لكنه بات أقل حماسةً للانخراط في بروباجندا الدولة، وأبعد ما يكون عن الخضوع للابتزاز بالوطنيَّة أو كما كتب مدوّنون إنَّ النظام يريد بغدودة رياضيًّا ناجحًا دون أن ينفق عليه، لكي يستغل إنجازات اللاعب في أغراض سياسيَّة، وإنَّ الإخفاق في التأهل لكأس العالم قد نجّانا من لحظة فرح وطنيَّة مزيفة على الشاشات يظهرها أزلام النظام.

مع واقعيَّة هذه المواقف الشعبيَّة الجديدة، فإنَّها تثبت أنّ النظام السياسي الحاليَّ قد نجح -بقصد- في فكّ ارتباط المصريين بكثير مما كان يجمعهم وحوَّلهم إلى أفراد أكثر انكفاءً على ذواتهم، فلا يشغل بال المصريَّ العاديَّ إلا الهروب من جحيم الداخل، وهو ما يتحمله النظام وحده.

مشاركات الكاتب