قراءة لسياسات المقاومة خلال عملية طوفان الأقصى

لا تقل المعركة السياسية التي تقودها فصائل المقاومة ضراوةً عن المعركة العسكرية ضد الاحتلال، وتؤسس لمرحلة جديدة من المواجهة بين الفصائل الفلسطينية في غزة وإسرائيل، لم تعُد فيها إسرائيل الدولة صاحبة الجيش الذي لا يُقهر، فبعد أيامٍ من طوفان الأقصى، بدأت المقاومة تتعامل مع قضية الأسرى من منظورٍ سياسي وإنساني، رُغم الكُلفة العسكرية للحفاظ على الأسرى سالمين وسط القصف الهمجي، وهو بُعد مهم لأنَّ هذا الملف يضغط حكومة الاحتلال داخليًّا وخارجيًّا. 

دخلت حركة حماس المُعترك السياسي عام 2006، بعدما فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ورغم الضغوط المالية والتدخلات العسكرية التي تعرضت لها الحركة، فإنَّها نجحت في فرضِ نفسها كأحد الفواعل الجيو-إستراتيجية التي يتعين على الدول الأخرى التعاطي معها، باعتبارها تُسيطر سيطرة فعلية على قطاع غزة.

تحولت حماس بعد إطلاقها وثيقة المبادئ والسياسات العامة عام 2017، من حركة أيديولوجية دينية، تعترف بكونها تابعة لجماعة الإخوان المسلمين إلى حركة تحرّر وطني، تستند إلى مرجعية إسلامية في منطلقاتها، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، وقد أسقطت الحركة أي إشارة لصلتها بجماعة الإخوان. 

طوفان الأقصى والتحول في مسار الصراع 

مثَّلت عملية طوفان الأقصى نقطة تحول في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، نجحت من خلالها حماس في دفع جميع الأطراف لإعادة حساباتها، ووضع القضية الفلسطينية ضمن دائرة الضوء الدولية، على وقع تنامي زخم الدعوات للتوصّل إلى حلٍّ سياسي عادل، كما أنَّها نجحت في تعطيل قطار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، فقبل الأحداث كان الحديث عن التطبيع والتهدئة مُسيطرًا على النقاشات بشأن سياسات الإقليم.

في الساعات الأولى من صباح يوم السابع من أكتوبر 2023، حدد رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، وقائد كتائب القسام محمد الضيف، دوافع العملية بأنَّها كانت ردًا على نداءات المستوطنين باجتياح باحات المسجد الأقصى، وظهر بشكلٍ جلي أنَّ أحد أهداف العملية ربط ما يحدث في القدس بقطاع غزة، كما أنَّ اختيار تاريخ العملية يحمل دلالات مهمة، إذ تزامنت مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973، التي يَنظر إليها العرب بأهمية كبيرة كونها مثّلت أول انتصارٍ عربي على الاحتلال الإسرائيلي، وشكلت نهايتها بداية مرحلة جديد في العلاقات العربية الإسرائيلية، نتج عنها توقيع اتفاقيات السلام.

الحرب النفسية كأداة فاعلة في الصراع مع الكيان المحتل

مارست حماس خداعًا إستراتيجيًّا في الفترة التي سبقت عملية “طوفان الأقصى”، فخلال السنوات الأخيرة، امتنعت حماس عن الانضمام إلى حركة الجهاد خلال مواجهاتها مع الاحتلال، وأرسلت عبر الوسطاء إلى مكتب نتنياهو خلال الأشهر الأخيرة، بأنَّها على استعداد للتفاوض والتوصل لاتفاق من أجل الأسرى الإٍسرائيليين لديها، وتحدث السنوار عن حُلمه بتحويل القطاع المُحاصر إلى دبي وسنغافورة.

حاولت المقاومة فرض سيطرة معنوية على قوات الاحتلال من خلال سلاح الحرب النفسية، عبر استخدام أساليب متعددة لتحطيم العدو وشعبه نفسيًّا بالترهيب والتهديد، خاصةً وأنَّها تُدرك أنَّ موازين القوى ليست في صالحها، فالفيديوهات التي تنشرها بين الفينة والأخرى، مُحملة برسائل سياسية مباشرة وغير مباشرة، تضغط على حكومة نتنياهو للعمل على تحرير الأسرى، وتشير إلى أنَّ القصف العنيف على قطاع غزة يودي بحياة العشرات من الأسرى، ما دعا “نتنياهو” لوصفها بالدعاية النفسية القاسية، وما تبعها من فشل الاحتلال في الترويج لرواية نجاحه في تحرير مجندة كانت مُحتجزة في قطاع غزة.

رغم الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها حماس، فإنَّها نجحت في إدارة حرب نفسية فعّالة ضد إسرائيل منذ بداية العدوان، وتحاول المقاومة استغلال قضية الأسرى من أجل الضغط على الرأي العام الإسرائيلي والدولي، فهي تُدرك أنَّه كلما زادت تهديداتها وإصرارها على مطالبها، زاد الضغط الشعبي والسياسي في إسرائيل على صناع القرار، للقبول بعقد صفقة تبادل جديدة، وهو ما يعني انتكاسة سياسية كبيرة لرئيس الحكومة نتنياهو وقد يستدعي رحيله من المشهد نهائيَّا، وهو ما يفسر العنف المفرط تجاه المدنيين.

حماس وعلاقاتها مع المجتمع الدولي

على الصعيد الدولي، نجحت حركة حماس في إقامة علاقة مع النظام الروسي، تكللت بزيارة وفد من قيادات المكتب السياسي للحركة إلى موسكو خلال عملية طوفان الأقصى، خلافًا للولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، لم تدرج موسكو حماس على لائحة الإرهاب، حتى أنَّها حافظت على قنوات اتصال ثابتة معها، تحاول من خلالها لعب أدوار للوساطة ومحاولة تقريب وجهات النظر إزاء القضايا المختلفة، ما يعني تقويض محاولات عزلها، وهو ما ظهر جليًّا في نشاط روسيا في مجلس الأمن بدعوتها لوقف إطلاق النار، بالإضافة إلى استخدام الفيتو ضد مقترح أمريكي دعا لإدانة حماس.

تحرص حماس على الموازنة في علاقتها مع اللاعبين الإقليميين الفاعلين في المشهد، ويبرز هنا مصر وقطر، فلم تعد مصر اللاعب الوحيد الذي باستطاعته الدخول في وساطات بين فصائل المقاومة وإسرائيل، يُحسب للمقاومة كذلك نجاحها في مواجهة الضغوط السياسية التي تتعرض لها من الوسطاء، أو حتى من الاحتلال الذي يُحاول المماطلة، وهو أمر له دلالات عدة؛ لعل أهمها أنَّ المقاومة لا تزال تَملكُ قرارها وأنَّها من يُحدد التوقيت وتفرض شروطها على طاولة التفاوض.

تسعى حماس إلى مراكمة إنجازها العسكري الذي تحقق يوم السابع من أكتوبر، بحصاد سياسي يتمثل في قيادة المشروع الفلسطيني، بعدما أظهرت السلطة الفلسطينية عجزًا جليًّا خلال أيام الحرب على غزة، واكتفت بتوجيه نداءات سياسية ودبلوماسية لم تكبح جماح العدوان، وتواجه السلطة أزمة شرعية وانخفاضًا كبيرًا في مستوى التأييد الشعبي، حيثُ ينظر لها كسلاح بيد إسرائيل تستخدمه في قمع المقاومة.

رغم محاولات الدول العربية تهميش القضية الفلسطينية من أجل جني المكاسب من إسرائيل وواشنطن، فإنَّ الشعوب العربية أثبتت منذ اليوم الأول أنَّها لم تنسَ أبدًا الفلسطينيين، ما دفع بعض الحكومات لتغيير توجّهها والسماح ببعض مظاهر الدعم لما يحدث في قطاع غزة، لكن وَفق الخطوط الحمراء التي ترسمها الدولة.

ما يصدر من تصريحات من المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين، عن خُطتهم للقضاء على حركة حماس، ما هي إلا تصريحات غير مدروسة وتعبر عن جهل واشنطن بالحركات الإسلامية، حتى لو ألحقت إسرائيل هزيمة عسكرية بحماس، فلن يمكنها ذلك من القضاء عليها بالكامل، لأنَّها فكرة متجذّرة في عمق النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وستظل تحظى بدعم في أوساط المجتمع الفلسطيني، وأي تسوية أو حلول مستقبلية للصراع لا بُدَّ من أن تشملها.

مشاركات الكاتب