غزو غزة سيكون بمثابة كارثة لإسرائيل

اضغط لتحميل الملف

مارك لينش

أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، فورين أفيرز

في الصباح الباكر من يوم 13 أكتوبر أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرًا إلى 1.2 مليون فلسطيني في شمال غزة، بأنَّه يجب عليهم إخلاء المنطقة خلال 24 ساعة قبل أي غزو بري محتمل. إنَّ مثل هذا الهجوم الإسرائيلي له هدف معلن وهو القضاء على حركة حماس ردًّا على هجومها المفاجئ الصادم في 7 أكتوبر على جنوب إسرائيل، حيث قتلت أكثر من 1000 إسرائيلي واحتجزت أكثر من مائة رهينة.

لقد بدت الحملة البرية الإسرائيلية أمرًا حتميًّا منذ اللحظة التي اخترقت فيها حماس الجدار الأمني على حدود قطاع غزة، وقد دعمت واشنطن الخُطط الإسرائيلية بالكامل وامتنعت بشكل خاص عن الحث على ضبط النفس، وفي بيئة سياسية محمومة كانت أعلى الأصوات في الولايات المتحدة هي تلك التي تحث على اتخاذ إجراءات متطرفة ضد حماس، وفي بعض الحالات دعا المعلقون إلى القيام بعمل عسكري ضد إيران بسبب رعايتها المزعومة لهجوم حماس.

لكن هذا هو بالضبط الوقت الذي يجب أن تكونَ فيه واشنطن أكثر هدوءًا كي تنقذ إسرائيل من نفسها، حيث إنَّ الغزو الوشيك لغزة سوف يشكل كارثة إنسانية وأخلاقية وإستراتيجية، فهو لن يضر بشدة أمن إسرائيل على المدى الطويل ويسبب تكاليف بشرية لا يمكن تصورها للفلسطينيين فحسب؛ بل سيهدد أيضًا المصالح الأمريكية الرئيسية في الشرق الأوسط وفي أوكرانيا وفي منافستها مع الصين على القيادة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

 فإدارة بايدن فقط -التي توجه النفوذ الفريد للولايات المتحدة وتقدم دعمًا وثيقًا للأمن الإسرائيلي- يمكنها الآن منع إسرائيل من ارتكاب خطأ كارثي، فبعد أن أظهرت تعاطفها مع إسرائيل يجب على واشنطن أن تركز على مطالبة حليفتها بالامتثال الكامل لقوانين الحرب. ويتعين عليها أن تصر على أن تجد إسرائيل سبلًا لتركيز القتال على حماس وَفق نحو لا يؤدي إلى تهجير وقتل جماعي للمدنيين الفلسطينيين الأبرياء.

وضع غير مستقر

لقد قلب هجوم حماس رأسًا على عقب مجموعة الافتراضات التي حددت الوضع الراهن بين إسرائيل وغزة لما يقرب من عقدين من الزمن، ففي عام 2005 انسحبت إسرائيل من جانب واحد من قطاع غزة لكنها لم تنه احتلالها الفعلي، فقد احتفظت بسيطرتها الكاملة على حدود غزة ومجالها الجوي وواصلت ممارسة رقابة مشددة بالتعاون الوثيق مع مصر على حركة سكان غزة والبضائع والكهرباء والأموال.

لقد تولت حماس السلطة في عام 2006 بعد فوزها في الانتخابات التشريعية وعزَّزت قبضتها على قطاع غزة في عام 2007 بعد فشل الجهود التي دعمتها الولايات المتحدة لاستبدال حماس بالسلطة الفلسطينية.

منذ عام 2007 حافظت إسرائيل وحماس على ترتيبات قلقة إذ تُواصل إسرائيل حصارها الخانق على غزة، الذي يقيد بشدة اقتصاد القطاع ويفرض تكاليف بشرية باهظة، بينما يعمل أيضًا على تمكين حماس من خلال تحويل كل النشاط الاقتصادي إلى الأنفاق والأسواق السوداء التي تسيطر عليها.

 خلال اندلاع الصراع بشكل عرضي –في عام 2008 و2014، ومرة أخرى في عام 2021– قصفت إسرائيل قصفًا مكثفًا المراكز الحضرية المكتظة بالسكان في غزة، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية وقتل الآلاف من المدنيين، بينما أضعفت قدرات حماس العسكرية وحددت الثمن الذي يجب دفعه مقابل الاستفزازات، لكن كل هذا لم يفعل شيئًا يذكر لتخفيف قبضة حماس على السلطة في غزة.

لقد اعتقد القادة الإسرائيليون أنَّ هذا التوازن يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى وتوهموا أنَّ حماس تعلمت الدروس من مغامرات الماضي على خلفية ردود الفعل العسكرية الإسرائيلية القاسية على نطاق واسع، وأنَّ حماس أصبحت الآن راضية بالحفاظ على حكمها في غزة حتى لو كان ذلك يعني السيطرة على استفزازات الفصائل المسلحة الأصغر حجمًا، مثل حركة الجهاد الإسلامي.

إنَّ الصعوبات التي واجهها الجيش الإسرائيلي أثناء شنه هجومًا بريًّا قصيرًا في عام 2014 قللت من طموحاته لمحاولة فعل المزيد وتجاهل المسؤولون الإسرائيليون الشكاوى الدائمة حول الآثار الإنسانية للحصار، وبدلًا من ذلك رضيت إسرائيل بإبقاء غزة في مرتبة متأخرة من الأولويات بالتزامن مع تسريع خُطواتها الاستفزازية على نحو متزايد لتوسيع مستوطناتها والسيطرة على الضفة الغربية.

لكن كانت لحماس أفكار أخرى، فعلى الرغم من أنَّ العديد من المحللين أرجعوا إستراتيجيتها المتغيرة إلى النفوذ الإيراني، فإنَّ حماس لديها أسبابها الخاصة لتغيير سلوكها ومهاجمة إسرائيل، فقد انتهت مناورتها عام 2018 لتحدي الحصار من خلال التعبئة الجماهيرية السلمية -المعروفة باسم “مسيرة العودة الكبرى”- بإراقة دماء هائلة عندما فتح الجنود الإسرائيليون النار على المتظاهرين، وعلى النقيض من ذلك في عام 2021 اعتقد قادة حماس أنَّهم حققوا مكاسب سياسية كبيرة مع الجمهور الفلسطيني الأوسع من خلال إطلاق الصواريخ على إسرائيل خلال اشتباكات عنيفة في القدس بسبب مصادرة إسرائيل لمنازل الفلسطينيين واستفزازات القادة الإسرائيليين في المسجد الأقصى -أقدس المواقع الإسلامية- الذي يريد بعض المتطرفين الإسرائيليين هدمه لبناء معبد يهودي.

وفي الآونة الأخيرة أدى التصعيد المستمر عبر الاستيلاء الإسرائيلي على أراضي الفلسطينيين وهجمات المستوطنين المدعومة عسكريًّا على الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى خلق جمهور غاضب ومعبأ، وهو ما بدت الولايات المتحدة -والسلطة الفلسطينية المدعومة من إسرائيل- غير قادرة وغير راغبة في معالجته. وربما بدت التحركات الأمريكية العلنية للغاية للتوسط في اتفاق تطبيع إسرائيلي سعودي بمثابة نافذة مغلقة لفرصة حماس للتصرف بشكل حاسم، قبل أن تتحولَ الظروف الإقليمية ضدها بلا هوادة، ولعل الانتفاضة الإسرائيلية ضد الإصلاحات القضائية التي أقرها رئيس الوزراء نتنياهو دفعت حماس إلى توقع وجود خصم منقسم ومشتت الانتباه.

ولا يزال من غير الواضح إلى أي مدى حفزت إيران توقيت أو طبيعة الهجوم المفاجئ، ومن المؤكد أنَّ إيران زادت من دعمها لحماس في السنوات الأخيرة، وسعت إلى تنسيق الأنشطة عبر “محور المقاومة” المكون من الميليشيات الشيعية وغيرها من الجهات الفاعلة المعارضة للنظام الإقليمي الذي تدعمه الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن سيكون من الخطأ الفادح أن نتجاهل السياق السياسي المحلي الأوسع الذي قامت حماس من خلاله بخطوتها.

نقطة تحول

في البداية ردت إسرائيل على هجوم حماس بحملة قصف مكثفة أكثر من المعتاد، إلى جانب حصار أكثر شدة، حيث قطعت الغذاء والماء والكهرباء عن غزة وحشدت إسرائيل احتياطها العسكري وأرسلت نحو 300 ألف جندي إلى الحدود واستعدت لحملة برية وشيكة ودعت إسرائيل المدنيين في غزة إلى مغادرة شمال القطاع خلال 24 ساعة، وهذا مطلب مستحيل فليس لدى سكان غزة مكانًا يذهبون إليه، فلقد دمرت الطرق السريعة والبنية التحتية ولم يتبق سوى القليل من الكهرباء والمستشفيات ومرافق الإغاثة القليلة كلها تقع في المنطقة الشمالية المستهدفة، وحتى لو أراد سكان غزة مغادرة القطاع، فقد قصفت إسرائيل معبر رفح الواصل إلى مصر ولم يُظهر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سوى القليل من الإشارات على استضافة اللاجئين الفلسطينيين وديًّا.

يدرك سكان غزة هذه الحقائق وهم لا يعتبرون الدعوة للإخلاء بمثابة لفتة إنسانية، إنَّما يعتقدون أنَّ نية إسرائيل هي تنفيذ نكبة أخرى كما حدث في التهجير القسري للفلسطينيين خلال حرب عام 1948، ولا يعتقدون –ولا ينبغي لهم أن يصدقوا– أنَّه سيُسمح لهم بالعودة إلى غزة بعد القتال، ولهذا السبب فإنَّ سعي إدارة بايدن لإنشاء ممر إنساني للسماح للمدنيين في غزة بالفرار من القتال يُعدُّ فكرة سيئة للغاية وبقدر ما يمكن للممر الإنساني أن يحقق أي شيء، فإنَّه سيكون بمثابة تسريع لعملية إخلاء غزة من السكان وخلق موجة جديدة من اللاجئين الدائمين، ومن الواضح أيضًا أنَّ ذلك سيقدم للمتطرفين اليمينيين في حكومة نتنياهو خريطة طريق واضحة لفعل الشيء نفسه في القدس والضفة الغربية.

إنَّ الرد الإسرائيلي على الهجوم الذي شنته حماس يأتي نتيجة للغضب الشعبي، وقد أدى حتى الآن إلى استحسان سياسي من جانب الزعماء الإسرائيليين في الداخل وفي مختلف أنحاء العالم، لكن هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى أنَّ أيًا من هؤلاء الساسة قد فكر جديًّا في العواقب المحتملة للحرب في غزة أو في الضفة الغربية أو في المنطقة كلها. والأهم من ذلك كله هو أنَّه لا يوجد أي مؤشر على التفكير في العواقب الأخلاقية والقانونية المترتبة على العقاب الجماعي للمدنيين في غزة والدمار الإنساني الحتمي الذي سيحدث في المستقبل.

إنَّ غزو غزة نفسه سوف يكون مليئًا بالشكوك، ومن المؤكد أنَّ حماس توقعت مثل هذا الرد الإسرائيلي، وهي مستعدة جيدًا لمحاربة تمرد حضري طويل الأمد ضد القوات الإسرائيلية المهاجمة. ومن المحتمل أن تأمل في إلحاق خسائر كبيرة بالجيش الإسرائيلي الذي لم يشارك في مثل هذا القتال منذ سنوات عديدة؛ إذ تقتصر تجارب إسرائيل العسكرية الأخيرة على عمليات أحادية الجانب، مثل العملية العسكرية التي نفذتها في يوليو بمخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية، وقد أشارت حماس فعلًا إلى خُطط قاسية لاستخدام الرهائن لديها كرادع ضد التصرفات الإسرائيلية.

يمكن لإسرائيل أن تحققَ نصرًا سريعًا، لكن هذا يبدو غير مرجح؛ إنَّ التحركات التي قد تؤدي إلى تسريع الحملة العسكرية، مثل قصف المدن وتسويتها بالأرض وإخلاء الشمال من السكان، ستأتي بتكاليف كبيرة على السمعة، وكلما طال أمد الحرب أُمطر العالم بصور القتلى والجرحى من الإسرائيليين والفلسطينيين، فتتزايد الفرص لوقوع أحداث تخريبية غير متوقعة.

ليس لدى سكان غزة مكانًا يذهبون إليه

وإذا نجحت إسرائيل في الإطاحة بحماس فإنَّها سوف تواجه التحدي المتمثل في حكم الأراضي التي تخلت عنها في عام 2005 ثُمَّ حاصرتها وقصفتها بلا رحمة في السنوات اللاحقة، فلن يرحبَ سكان غزة الشباب بالجيش الإسرائيلي كمحررين ولن تكون هناك زهور وحلويات توزع على الجنود. إنَّ أفضل السيناريوهات بالنسبة لإسرائيل هو شن حملة طويلة الأمد لمكافحة التمرد في بيئة معادية بشكل فريد، وهو نمط لديه تاريخ من الفشل بالأخص في بيئة لم يعد لدى الناس فيها ما يخسرونه.

وفي أسوأ السيناريوهات لن يبقى الصراع محصورًا في غزة، ولسوء الحظ فإنَّ مثل هذا التوسع محتمل إن الغزو المطول لغزة سيولد زلزالًا من شأنه أن يولد ضغوطًا هائلة في الضفة الغربية، التي قد لا تتمكن -وربما لا ترغب- السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس في احتوائها.

فعلى مدار العام الماضي كان العدوان الإسرائيلي المستمر على أراضي الضفة الغربية والاستفزازات العنيفة من جانب المستوطنين، سببًا في دفع الغضب والإحباط الفلسطيني إلى الغليان، وقد يدفع غزو غزة الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى حافة الهاوية.

على الرغم من الغضب الإسرائيلي الساحق تجاه نتنياهو بسبب الفشل الإستراتيجي غير المسبوق لحكومته، فقد ساعد زعيم المعارضة بيني غانتس في حل مشكلات نتنياهو السياسية الرئيسية دون أي مقابل واضح من خلال الانضمام إلى حكومة وحدة وطنية للحرب، وذلك دون عزل المتطرفين اليمينيين إيتمار بن جفير وبتسلئيل سموتريش، وهذا القرار مهم لأنَّه يشير إلى أنَّ الاستفزازات في الضفة الغربية والقدس التي قادها ابن جفير وسموتريش العام الماضي، سوف تستمر فقط في هذه البيئة غير المستقرة، وفي الواقع يمكن أن تتسارع، حيث يسعى المستوطنون إلى استغلال اللحظة لمحاولة ضم بعض أو كل الضفة الغربية وتهجير سكانها الفلسطينيين ولا شيء يمكن أن يكون أكثر خطورة من ذلك.

إنَّ الصراع الخطير في الضفة الغربية -سواء على شكل انتفاضة جديدة أم استيلاء إسرائيل على أراضي الفلسطينيين- إلى جانب الدمار الذي لحق بغزة، ستكون له تداعيات هائلة، ومن شأنه أن يكشفَ الحقيقة القاتمة المتمثلة في واقع الدولة الواحدة في إسرائيل إلى درجة لا يستطيع حتى آخر المتعصبين إنكارها، وقد يؤدي الصراع إلى نزوح جماعي قسري آخر للفلسطينيين أو موجة جديدة من اللاجئين إلى الأردن ولبنان المثقلين فعلًا بأعباء خطيرة أو احتوائهم بالقوة من مصر في جيوب تُخصص لهم بشبه جزيرة سيناء.

موقف الرؤساء العرب

إنَّ الزعماء العرب واقعيون بطبيعتهم ومنشغلون ببقائهم ومصالحهم الوطنية لا أحد يتوقع منهم التضحية من أجل فلسطين، وهو الافتراض الذي دفع السياسة الأمريكية والإسرائيلية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والرئيس الأمريكي جو بايدن، لكن هناك حدود لقدرتهم على الوقوف في وجه جماهير محتشدة بغضب خاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين. ربَّما تطبع السعودية العلاقات مع إسرائيل ضمن الهوس الغريب لإدارة بايدن بالتطبيع، لكن عندما تكون هناك تكاليف سياسية قليلة للقيام بذلك. ومن غير المرجح أن يحدثَ التطبيع عندما يتعرض الجمهور العربي لسيل من الصور الشنيعة القادمة من فلسطين.

في السنوات الماضية سمح القادة العرب بشكل روتيني بالاحتجاجات المناهضة لإسرائيل وسيلةً للتنفيس عن الغضب وتحويل الغضب الشعبي نحو عدو خارجي لتجنب انتقاد سياساتهم الكئيبة، ومن المرجح أن يفعلوا ذلك مرة أخرى مما يدفع المتشائمين إلى التغاضي عن المسيرات الحاشدة ومقالات الرأي الغاضبة. لكن الانتفاضات العربية في عام 2011 أثبتت بشكل قاطع مدى سهولة وسرعة تحول الاحتجاجات من شيء محلي يمكن احتوائه إلى موجة إقليمية قادرة على الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية التي حكمت فترة طويلة. ولن يحتاج الزعماء العرب إلى تذكيرهم بأنَّ السماح للمواطنين بالنزول إلى الشوارع بأعداد هائلة يهدد قوتهم ولن يرغبوا في أن يظهروا وهم يقفون إلى جانب إسرائيل.

إنَّ إحجامهم في هذا المناخ عن التقرب من إسرائيل ليس مجرد مسألة بقاء للنظام، فالأنظمة العربية تسعى إلى تحقيق مصالحها عبر ملاعب متعددة إقليميًّا وعالميًّا وكذلك في الداخل.

 إنَّ الزعماء الطموحين الذين يسعون إلى توسيع نفوذهم والمطالبة بقيادة العالم العربي يستطيعون قراءة اتجاه الرياح السائدة، ولقد كشفت السنوات القليلة الماضية فعلًا عن مدى استعداد القوى الإقليمية مثل السعودية وتركيا لتحدي الولايات المتحدة بشأن قضاياها الأكثر أهمية: التحوط في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا والحفاظ على أسعار النفط مرتفعة وبناء علاقات أقوى مع الصين. وتشير هذه القرارات إلى أنَّه لا ينبغي لواشنطن أن تعتبرَ استمرار ولائهم أمرًا مفروغًا منه، خاصة إذا كان يُنظر إلى المسؤولين الأمريكيين على أنَّهم يدعمون بشكل لا لبس فيه الأعمال الإسرائيلية المتطرفة في فلسطين.

إنَّ الابتعاد العربي ليس التحول الإقليمي الوحيد الذي تخاطر به الولايات المتحدة إذا استمرت في هذا المسار، وهو ليس بالأمر الأكثر إثارة للخوف على الإطلاق: فمن الممكن أيضًا أن ينجرَ حزب الله بسهولة إلى الحرب، وحتى الآن ضبط الحزب رده بعناية لتجنب الاستفزاز، لكن غزو غزة قد يشكل خطًا أحمر من شأنه أن يجبر حزب الله على التحرك.

ومن المؤكد غالبًا أنَّ التصعيد في الضفة الغربية والقدس سيحدث وقد سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى ردع حزب الله عن الدخول في القتال، لكن مثل هذه التهديدات لن تصل إلى أبعد من ذلك إذا واصل الجيش الإسرائيلي التصعيد باستمرار.

 وإذا دخل حزب الله المعركة بترسانته الهائلة من الصواريخ، فإنَّ إسرائيل سوف تواجه أول حرب على جبهتين منذ نصف قرن من الزمان ومثل هذا الوضع سيكون سيئًا ليس فقط بالنسبة لإسرائيل، فليس من الواضح مدى قدرة لبنان الذي تدهورت أوضاعه فعلًا بسبب انفجار ميناء بيروت والانهيار الاقتصادي على النجاة من حملة قصف انتقامية إسرائيلية أخرى.

ويبدو أنَّ بعض الساسة والنقاد الأمريكيين والإسرائيليين يرحبون بحرب أوسع نطاقًا وقد دعوا على وجه الخصوص إلى شن هجوم على إيران، وعلى الرغم من أنَّ معظم أولئك الذين يدافعون عن قصف إيران اتخذوا هذا الموقف لسنوات، فإنَّ الادعاءات بوجود دور إيراني في هجوم حماس يمكن أن توسع تحالف أولئك المستعدين لبدء صراع مع طهران.

لكن توسيع الحرب لتشمل إيران من شأنه أن يفرض مخاطر هائلة ليس فقط في شكل انتقام إيراني ضد إسرائيل، بل وأيضًا في شكل هجمات ضد شحنات النفط في الخليج وتصعيد محتمل عبر العراق واليمن والجبهات الأخرى التي يسيطر عليها حلفاء إيران، وقد أدى الاعتراف بهذه المخاطر حتى الآن إلى كبح جماح حتى أكثر الصقور حماسًا بشأن إيران، كما حدث عندما اختار ترامب عدم الانتقام من الهجوم على مصافي بقيق السعودية في عام 2019، وحتى اليوم يشير التدفق المستمر من التسريبات القادمة من المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين الذين يقللون من دور إيران إلى وجود مصلحة في تجنب التصعيد، لكن على الرغم من هذه الجهود فإنَّ ديناميكيات الحرب الطويلة الأمد لا يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير ونادرًا ما كان العالم أقرب إلى الكارثة.

الجرائم هي جرائم

إنَّ أولئك الذين يحثون إسرائيل على غزو غزة لتحقيق أهداف متطرفة يدفعون حليفهم إلى كارثة إستراتيجية وسياسية والتكاليف المحتملة مرتفعة إلى حد غير عادي، سواء بحسبة الوفيات بين الإسرائيليين والفلسطينيين أم احتمالات الدخول في مستنقع طويل الأمد أو التهجير الجماعي للفلسطينيين، كما أنَّ خطر انتشار الصراع كبير بما يثير القلق خاصة في الضفة الغربية ولبنان، لكن من المحتمل أن يصبح على نطاق أوسع بكثير والمكاسب المحتملة -بخلاف تلبية المطالب بالانتقام- منخفضة انخفاضًا ملحوظًا، فمنذ الغزو الأمريكي للعراق لم يكن هناك مثل هذا الوضوح المسبق حول الفشل الذريع المقبل.

لم تكن القضايا الأخلاقية واضحة إلى هذا الحد، فليس هناك شك في أنَّ حماس ارتكبت انتهاكات حرب خطيرة في هجماتها القاسية على المواطنين الإسرائيليين وينبغي محاسبتها، لكن لا يوجد شك أيضًا في أنَّ العقاب الجماعي المفروض على غزة من خلال الحصار والقصف والتهجير القسري لسكانها يمثل جرائم حرب خطيرة، وهنا أيضًا لا بُدَّ أن تكون هناك مساءلة – أو الأفضل من ذلك احترام القانون الدولي.

وعلى الرغم من أنَّ هذه القواعد قد لا تزعج القادة الإسرائيليين، فإنَّها تشكل تحديًّا إستراتيجيًّا كبيرًا للولايات المتحدة فيما يتعلق بأولوياتها الرئيسية الأخرى، ومن الصعب التوفيق بين ترويج الولايات المتحدة للمعايير الدولية وقوانين الحرب دفاعًا عن أوكرانيا ضد الغزو الروسي الوحشي وتجاهلها المتعجرف للمعايير نفسها في غزة، وسوف تلاحظ ذلك دول وشعوب الجنوب العالمي خارج منطقة الشرق الأوسط.

لقد أوضحت إدارة بايدن بشدة أنَّها تدعم إسرائيل في ردها على هجوم حماس، لكن الآن هو الوقت المناسب لاستخدام قوة تلك العَلاقة لمنع إسرائيل من خلق كارثة كبيرة. يتمثل النهج الحالي الذي تتبعه واشنطن في تشجيع إسرائيل على شن حرب غير مشروعة إلى حد كبير ووعدها بالحماية من عواقبها من خلال ردع الآخرين عن دخول المعركة وعرقلة أي جهود لفرض المساءلة من خلال القانون الدولي، لكن الولايات المتحدة تفعل ذلك على حساب مكانتها العالمية ومصالحها الإقليمية وإذا اتخذ الغزو الإسرائيلي لغزة مساره الأرجح بكل ما ينطوي عليه من مذابح وتصعيد، فسوف تندم إدارة بايدن على خياراتها.

اضغط لتحميل الملف
مشاركات الكاتب