صفقة التبادل .. أفق الحل أم عقدة المعضلة؟

لعل من المفارقات التي قد يدركها المتابعون أن حاجة نتنياهو والجيش الإسرائيلي لإنهاء الحرب؛ قد تفوق حاجة المقاومة والشعب الفلسطيني رغم تفاوت موازين القوى وحالة التجريف الإنساني غير المسبوقة، وأتحدث هنا عن حاجته لا عن رغبته، وشر ما يصيب الأفراد والكيانات هو التنازع بين الرغبة والحاجة، ذلك أنه وأنهم عالقون في مصيدة ومأزق حقيقي ما بين نزيف الدماء وتدهور الاقتصاد بعجلة متسارعة تؤذن بالانهيار!

بينما تحدوهم رغبة الثأر وإشباع الغريزة بالقتل وسفك الدماء، وعقيدة الاستعلاء الاصطفائية والاستئصالية للخصوم، إذ لا يمكن جرح الضواري مع عدم القدرة على الإجهاز عليها؛ إلا بعواقب وخيمة، خاصة إذا أمنت فزعة ذوي الضحية، وأمدها حبل الله بالإمهال وحبل الناس بالمال والعتاد والرجال.

وتتمثل الأزمة الصهيونية إن جاز لنا التعبير في عدة أمور:

أولاً: عدم القدرة حتى الآن على تحقيق أيا من أهداف الحرب الثلاثة المعلنة وهي؛ تفكيك منظمات المقاومة وعلى رأسها حماس وهو الهدف العسكري، ونزع مقاليد الحكم من يد حماس في غزة كهدف سياسي، وإطلاق الرهائن كهدف داخلي اجتماعي إسرائيلي.

إذ يبدو إيقاف الحرب الآن أو إعلان الانسحاب مع هدنة طويلة الأمد على الأقل نصراً مبيناً لحماس وقوى المقاومة الفلسطينية؛ وهو ما قد يكلف نتنياهو كلفة باهظة ليس أقلها تفكك الائتلاف الحكومي المتطرف وإسقاط حكومته، كما ستتضاعف عدد القضايا التي قد يحاكم بها سواءً الجنائية المؤجلة، أو السياسية العاجلة لمحاسبته عن الإخفاق في حماية دولة الكيان مرة يوم ٧ أكتوبر، وأخرى بسبب إخفاقه في إدارة المعركة.

ثانياً: معضلة إطلاق الأسرى الفلسطينيين لدى إسرائيل إذ تعتبرهم إرهابيين خطرين، قد يمثل إطلاق بعضهم تكراراً لتجربة السنوار والعاروري وغيرهما، وقد صرح بعض قادة العدو أن ٧ أكتوبر قد بدأت بالفعل بعد إطلاق سراح السنوار في صفقة تبادل شاليط ولا يريدون تكرار هذه التجربة المريرة، بل اعتبر نتنياهو أن هذه الصفقة لا ينبغي أن تتكرر، وحدى بهم ذلك إلى تفعيل إجراء هانيبال “اغتيال أسرى جيش العدو بواسطة طائراته” لتخفيض سقف التفاوض في أي صفقة بخصوصهم، فأن يفاوض على جثثهم أمواتاً أقل كلفة من صفقة لإعادتهم أحياءً كصفقة “وفاء الأحرار” مثلاً.

بينما لا يمكن أن تتم أية صفقة من جهة المقاومة الفلسطينية دون إطلاق الأسرى الفلسطينيين وإيقاف المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، أو ما عبرت عنه المقاومة “بالكل مقابل الكل”، وإيقاف العدوان، وإلا فما معنى أية صفقة يطلق فيها سراح الأسرى الإسرائيليين دون مقابل من الأسرى أو إيقاف شلالات الدماء، إلا محض الاستسلام!

وما يفاقم المشكلة ويقف حجر عثرة أمام أي صفقة محتملة لإطلاق أسرى الكيان، هو الثمن الباهظ من دماء الغزيين؛ الذي حرص جيش العدوان وقيادته على كسبه في مقابل ضربة ٧ أكتوبر الخاطفة والمذهلة، وكذلك تزايد أعداد الأسرى الفلسطينيين في الضفة بالمئات وفي غزة بالآلاف.

وقد حرص جيش الكيان الصهيوني على اختطاف الآلاف وضمهم إلى قائمة الأسرى مع أن غالبيتهم العظمى من عامة الفلسطينيين العزل وربما لا علاقة لهم بالمقاومة من قريب أو بعيد، إذ يفضل أغلب المقاومين القتال حتى النصر أو الشهادة، ولذا لا تكاد تجد توثيقاً صهيونياً واحداً يؤكد استسلام أحدهم أو إلقاء القبض عليه في عملية أمنية؛ على الأقل في موقع العمليات والقتال نفسه في قطاع غزة، ولعل اختطاف هذا العدد من الأسرى الجدد ليكونوا جزء من فاتورة التبادل فقط كبديل عن الأسرى القدامى وأغلبهم من فصائل المقاومة.

كما أن الإفراط الدموي اليهودي في إراقة دماء الكنعانيين أو الجبارين هو أمر ذو جذور اعتقادية ذكرها القادة الصهاينة أنفسهم بتصريحهم بضرورة تنفيذ وصايا التوراة وخاصة سفر إشعياء، بقتل الرجال والنساء والأطفال بل والحيوانات، والمجتمع الإسرائيلي في مزاجه العام لا يرتوي إلا بالدماء، وهو ما لا يحتاج إلى كثير استدلال فمازالت دماء شهدائنا لم تجف في دير ياسين وبحر البقر وصبرا وشاتيلا، وآلاف الأسرى المصريين في ٦٧، وعشرات المذابح غيرها، ولعل ما يحدث في غزة اليوم ليس آخرها، وإن كان مختلفاً جداً إذ جاء نتيجة فعل هجومي كاسح لأول مرة من نوعه منذ يوم كيبور أو السادس من أكتوبر ١٩٧٣م المجيد.

ثالثاً: من أقوى إشكالات نتنياهو وحكومته وأكثرها عصياناً؛ هو إصرار الجمهور الإسرائيلي خاصة أهالي الأسرى على إعادتهم بأي ثمن ولو كان إنهاء الحرب على غزة فوراً ولو بإطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين كذلك، وهو ما بدأ يتبناه كثير من الجمهور وبعض السياسيين، إضافة إلى فشل المعارك في غزة وأهدافها، مما جعل هذه الكرة تتدحرج حتى بات الكثيرون يطالبون بإقالة حكومة نتنياهو لفشلها على كل الأصعدة حتى الآن.

كما تؤدي بسالة المقاومة إلى رفع ضريبة الدماء في صفوف الجنود والضباط الإسرائيليين، وكذلك أعداد المصابين، وهي الأخبار التي لم تعد تفلح كل محاولات الرقيب العسكري في حجبها أو التخفيف من وقعها على المجتمع الإسرائيلي رغم كل محاولات التقليل والحجب للأعداد الحقيقية كما أجبرت هآرتس منذ حوالي الشهر تقريباً على تخفيض عدد الجرحى من ٥٠٠٠ إجمالاً إلى ٢٠٠٠ فقط في أحد أخبارها على موقعها الرسمي!

ويمثل استدعاء مئات الآلاف من الاحتياط ضغطاً اقتصادياً هائلاً على هؤلاء الجنود والضباط وعائلاتهم وعلى دولة الكيان نفسها، مما يعني أن طول أمد هذه المعركة يمس بأخطر النقاط العصبية للمجتمع الإسرائيلي “المال والدماء”، وهما العاملان الأكثر إيلاماً وإيجاعاً للعدو على مر التاريخ، واتضح جلياً في الموازنة التي طرحتها حكومة نتنياهو والتي يشنع عليها لبيد في سعيه المحموم لإقصاء نتنياهو والجلوس محله على كرسي رئاسة الوزراء.

ومن أهم أسباب الفشل الإسرائيلي من وجهة نظري هو عدم امتلاك خطة فعلية ولا رؤية حقيقية واقعية لما بعد الحرب، وهو ما عبرت عنه أمريكا منذ البداية “باليوم التالي للحرب” وهو ما يرفض الجميع في دولة الكيان الإجابة عنه، وتوضح في هذه النقطة الخبرة الأمريكية في معاركها السابقة في العراق وأفغانستان، كما بين بايدن نفسه لنتنياهو في اجتماعهما الأول بتل أبيب في بدء معركة طوفان الأقصى.

وآخر معضلات هذه الأزمة الصهيونية التي قد تعيق أي هدنة أو عملية تفاوض؛ هي الضغوط الأمريكية المتزايدة بسبب تعجل بايدن ومأزق ضرورة اتخاذ القرارات الحاسمة سريعاً قبل أن تغطي ورطة الانتخابات الرئاسية على ما عداها، وساعتها سيبقى ما قبلها كله سجلاً لفشل إدارته أو على الأقل عدم قدرتها على التعامل مع الأزمات. فلابد أن يظهر في هيئة الرئيس القوي، ويثبت للعالم والمجتمع الأمريكي قدرته على الحسم في الصراع الفلسطيني الصهيوني، وسيطرته على جيوب المقاومة التابعة لإيران في اليمن والعراق وسوريا؛ فيرد بشكل حاسم على الاستفزازات والمناوشات الحوثية في بحر العرب والبحر الأحمر والقصف الموجه في كل من العراق وسوريا.

كما حاولت إدارة بايدن مؤخراً التخفف من وطأة وعبء الفاتورة الإنسانية الباهظة التي أرهقت ظهر الإدارة الأمريكية وأرهقت قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي نفسه والتي لا يريد أن يدفع ثمنها يوماً كما حدث من قبل في مطلع الألفية.

وأخيراَ فإنه من الواضح أن كلا طرفي الصراع في غزة الآن يراهنان على الوقت؛ فالمقاومة دفعت ومن أمامها الشعب الفلسطيني كله أفدح الأثمان وأبهظها في سبيل مقدساتها ووطنها وحريتها وكرامتها، فلا يملك هذا الشعب الباسل اليوم غير الصبر مع الألم؛ الصبر حتى يخضع العدو المتغطرس فهم يعلمون أنه أقصر نفساً منهم كما قال إسماعيل هنية في أحد خطاباته، وكما صار واضحاً للجميع اليوم وخاصة من يتابع وسائل الإعلام العبرية، والصياح غير المسبوق اجتماعياً واقتصادياً وإنسانياٍ، فيما يحتاج نتنياهو وحكومته للوقت عله ينال صيداً ثميناً -كأحد قيادات المقاومة في غزة- يقدمه للمجتمع الإسرائيلي المتعطش للثأر، والمهم له أن يبقى في السلطة ويتجنب سقوط حكومته ومحاكمته المنتظرة؛ وما يترتب عليه من إجهاض مستقبله السياسي.

الخلاصة:

يبدو من المعطيات السابقة أن هدف دولة الاحتلال في مفاوضات باريس الأخيرة بالشراكة مع مصر وقطر والولايات المتحدة؛ لم يكن خوض مفاوضات حقيقية لتحرير أسراه لدى المقاومة، وإنما كسب الوقت لتنفيذ المرحلة الأخيرة -أو المحاولة الأخيرة- لتحقيق إنجاز عسكري كبير. ودليل ذلك هو لاءات نتنياهو الثلاثة، لا لإيقاف العدوان، لا لتحرير أسرى ذوي وزن كبير، لا لعودة النازحين والمهجرين قسراً للشمال.

كما يؤكد هذا المعنى التهديد ببدء توسيع الحملة العسكرية لتشمل منطقة رفح، بكل ما يحمله هذا التحرك من خطورة، إذ هي الملجأ الأخير للنازحين بمئات الألوف، كما أنه يعني تهديد حدود مصر وربما تنفيذ السيطرة على محور فلادلفيا، وقد صرح رئيس الأركان في جيش الاحتلال أنه وافق على خطط لاجتياح رفح!

كما صارت الأنباء عن قتل الأسرى الإسرائيليين بقصف إسرائيلي متكررة باعتراف المتحدث باسم جيش الاحتلال، ومن خلال بيانات المقاومة.

كل هذا لا يعني من وجهة نظري -وكما ذهب بعض المحللين- أن دولة الكيان تريد كسب أوراق إضافية أو ميزات تفاوضية بانتهاج سياسة كسر العظم، وإنما تعني أن الهدف الأول لنتنياهو وحكومته كان هو كسب الوقت منذ البداية للحصول على كل شيء بإخضاع المقاومة بعد إنهاكها لفترة طويلة في معارك تؤدي لتعجيزها عن الفعل، فأولوية تحرير الرهائن كانت الأخيرة وليست الأولى، وإنما كان التفاوض نوعاً من الخداع ومحاولة لتهدئة أهالي الأسرى والمتضامنين معهم.

ويبقى دور مصر والأردن في هذا الصراع هو الأكثر غرابة، إذ يضر ما يجري مصالحهما الاستراتيجية بصورة غير مسبوقة سياسياً واقتصادياً، فضلاً عن كونه شراكة فعلية في العدوان وقتل من تبقى من سكان قطاع غزة!

مشاركات الكاتب