القوة الناعمة و تطبيقاتها

اضغط لتحميل الملف

القوة

مدخل مفاهيمي

تسعى الدول إلى امتلاك القوة لحماية نفسها، أو التوسع إقليميا والتأثير على الغير وفرض سياساتها، وتتنوع أهداف كل دولة في السعي لامتلاك القوة حسب قدراتها وموقعها الجغرافي. فالقوة في العلوم السياسية هي القدرة على التأثير على الآخرين لتحقيق النتائج المرجوة، أو حمل الأخرين على التصرف بالطريقة التي تخدم مالك القوة وتزيد من رصيد مصالحه. ويمكن لكل دولة أو طرف فاعل، سواء كان حزبا أو جماعة أو قبيلة، أن يؤثر على سلوك الآخرين، ويكون ذلك عبر ثلاث طرق رئيسية هي:

  • ممارسة التهديد والإكراه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “العصا”.
  • ممارسة الإغراءات والعطاءات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “الجزرة”.
  • اجتذاب الآخرين إليك، لتجعل إرادتهم موافقة لإرادتك، وتجعل مسعاهم موافقا لهدفك الذي تسعى إليه.

وغالبا ما يستهدف صناع القرار وقادة الرأي الجهات الفاعلة والمؤثرة؛ كمؤسسات الدولة، والقطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية، والمجتمع بوجه عام، أو قطاعات داخل المجتمع، أو حتى الأفراد، ويُسخرّون في سبيل ذلك كل المؤثرات الممكنة؛ بما في ذلك الاجتماعات، والزيارات الرسمية، والرياضة، والفنون، والتجارة، والإعلام، والمساعدات الإنسانية، والمؤتمرات الأكاديمية، والسياحة والثقافة، وغيرها من الملفات التي تعزز دور الدولة وفاعليتها وحضورها على الساحة الدولية أو الإقليمية.

تنقسم القوة بوجه عام إلى نوعين رئيسيين؛ هما القوة الصلبة، والقوة الناعمة، وقد قدم جوزيف ناي Joseph S. Nye مفهوم “القوة الناعمة “من خلال كتابه Bound to Lead[1]، والذي يعتبر من أهم المراجع في تعريف علم القوة الناعمة.

 قد تحقق الدولة النتائج المرجوة لها في السياسة العالمية، بسبب رغبة الدول الأخرى في متابعتها، والإعجاب بقيمها، ومحاكاة نموذجها. كما هو حادث مع بعض الدول التي اتخذت من دول الاتحاد الأوروبي نموذجا تسعى لتطبيقه والوصول إلى نفس نتائجه.

تضع الدول الكبرى جدول الأعمال، وتجذب الآخرين إلى حيز تنفيذ سياساتها الإقليمية والدولية، فلا ينصب مسعى تلك الدول على إجبار غيرها على التغيير من خلال التهديد العسكري، لما له من تكلفة مادية وبشرية باهظة حال استخدامه، وهذا ما يدفع الدول الكبرى – وحتى الصغرى – إلى استخدام القوة الناعمة وتطبيقاتها من أجل تحقيق مكاسبها، وفرض سياساتها دون استخدام القوة الصلبة.

وتعتمد القوة الناعمة لأي بلد على ثلاثة موارد أساسية؛ ثقافتها، وقيمها السياسية، وسياساتها الخارجية. أما القوة الصلبة فهي التي تعتمد على استخدام القوة الفعلية بشكل رئيسي في ساحات السلم والحرب.

لقد عمل جوزيف على تعريف القوة الناعمة، وتطوير المفاهيم المرتبطة بها خلال العقود الثلاثة الماضية، وقام بتقديم مفهوم لنوع ثالث من القوة؛ وهو القوة الذكية “Smart Power”، وقد عرف القوة الذكية بأنها: القدرة على الجمع بين القوتين الصلبة والناعمة في استراتيجية ناجحة، أو بمعنى آخر؛ هي امتداد للقوة الصلبة والناعمة، فعلى سبيل المثال؛ تعد العلامة التجارية (Brand) عند كل دولة أحد أنواع القوة الناعمة التي تستخدمها في اجتذاب الجماهير المستهدفة، وصناعة صورة ذهنية لديهم، وعبر مستوى إقليمي ودولي وكذلك المحلي.

ويُسعى من خلال ذلك إلى استهداف الجماهير بالمقام الأول، ثم صناع القرار، فعلى سبيل المثال؛ يقوم الاتحاد الأوروبي بصناعة صورة ذهنية لدى الجماهير في العالم مروجا لنفسه على أنه يتبنى قيم حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات الشاملة، فيما تروج قطر لنفسها على أنها دولة راعية للمصالحات وفض النزاعات، وتقدم اليابان نفسها كدولة متقدمة في مجال التكنولوجيا والحاسوب وصناعة الرجل الآلي، فيما تروج السعودية لنفسها على أنها الممثل الشرعي للمسلمين باحتضانها المقدسات، وغير ذلك من الأمثلة. وقد تقوم كل دولة بالترويج لنفسها في أكثر من مجال أو قيمة من القيم التي تتبناها في سياساتها الخارجية أو ضمن استراتيجياتها.

ويوضح الجدول التالي المساحات والمسافات بين القوة الصلبة والقوة الناعمة تطبيقيا، وكيف يمكن للدول أن تشكل استراتيجية أو أكثر في عدة مستويات، سواء إقليمية، أو دولية، أو حتى محددة ضمن نطاق جغرافي أو مجتمعي أو غيره، وكيف يمكن للدول أن تبني القوة الناعمة والذكية استنادا على مواردها وقدراتها وإمكاناتها.

هناك ست مستويات لمساحات التأثير وأنوع الأفعال والممارسات التي يمكن أن تقوم بها الدول لتحقق مكتسبات أو تدافع عن مكتسبات محققة فعليا. وهي تختلف من دولة إلى أخرى حسب مواردها وإمكاناتها، وهذه المستويات تبدأ ببرامج المساعدات؛ كالتي يقوم بها الاتحاد الأوروبي مع الدول الأفريقية، والمساعدات التي تُرسل إلى سوريا. وتمتلك بعض الدول منظمات محلية حكومية وغير حكومية توظفها في إطار سياساتها الخارجية أو حتى كمسار شعبوي بعيدا عن أجهزة الدولة، كمنظمة الهلال الأحمر والصليب الأحمر ومؤسسة IHH في تركيا. وتختلف كل مؤسسة عن الأخرى من حيث طبيعة الدور الذي تقوم به؛ سواء البرامج الإغاثية من زاوية تصميم البرنامج والانتشار الجغرافي، أو غيرها. ويمثل البعد الديني عاملا مهما في توجيه هذه القدرات والإمكانات.

أما المستويان الثاني والثالث فيعتمدان على مقومات الدولة والمجتمع ومؤسساتهما وخبراتهما التي تمتلكانها؛ بداية من اللغة، إلى النظام التعليمي، والصحي، والمهارات الحرفية التي تمتلكها القوى العمالية، وحجم التجارة، وغيرها من المجالات.

أما المستويان الرابع والخامس فهما مستويا شراكة ومشاريع في إطار عملي تنفيذي، كالاتفاقيات التجارية والسياحية. ويندرج تحت ذلك أيضا نظام التأشيرات بين الدول، وهو مستوى يتسم بالجدية، وكذلك تعتبر المناورات العسكرية أحد أعلى المشاريع المعبرة عن القوى الناعمة باستخدام القوة الصلبة دون عنف أو حرب، وكذلك اتفاقيات الدفاع المشترك، وشراء الأسلحة.

سنعرض خلال المقالات القادمة مجموعة من المواضيع المتعلقة بالقوة الناعمة وتطبيقاتها في دول الشرق الأوسط والربيع العربي، ونتعرض للكيفية التي تقوم القوى العالمية والغربية من خلالها بتطبيق سياساتها في المنطقة عبر استخدام القوة الناعمة.


[1] https://www.goodreads.com/book/show/342075.Bound_to_Lead

اضغط لتحميل الملف
مشاركات الكاتب