تشهد السودان منذ صباح 15 أبريل اقتتالًا عنيفًا بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، استخدمت فيه قوات الدعم السريع كل إمكاناتها لتركيز الاقتتال في الخرطوم، مما خلف دمارًا كبيرًا في العاصمة وحرق عددًا من الأماكن الحيوية كمبنى القيادة العامة للجيش وغيره. ليعلن الجيش قوات الدعم السريع مجموعات متمردة على قيادتها العسكرية، ويطلب من جميع ضباط الجيش والأمن المنتدبين فيها الالتحاق بوحداتهم الأولى والسيطرة على مجموعات الدعم السريع التي تليهم؛ ويلغي انتداب جميع الضباط في الدعم.
ونظرًاً لحاجة الجيش إلى تحييد أكبر قدر من قوات الدعم السريع بالخرطوم استخدم الطيران الحربي لتدمير معظم المعسكرات الرئيسية للدعم السريع بالعاصمة، أبرزها قصف مقر الدعم السريع قرب القيادة العام (مقر مستشارية الأمن سابقًا)، ومقر هيئة العمليات سابقًا في كافوري. وواجهت قوات الدعم ذلك باستخدام مضادات للطيران، غير أنَّ طول أمد القتال حتى كتابة هذا التقرير رفع من الكلفة العسكرية والسياسية والأنسانية.
سبق الاقتتال في الخرطوم بيومين تحريك حميدتي قوات تابعة له إلى منطقة مروي، وكذلك إعادة انتشار قواته بالمناطق المهمة بالخرطوم، ووجه له الجيش تحذيرات بضرورة سحب قواته ولكنه لم يستجب، وتدخلت وساطات للحل دون جدوى ليبدأ الجيش صباح الخميس بمهاجمة مقر للدعم السريع في سوبا بالخرطوم وفي الوقت نفسه تحركت قوات حميدتي مباشرة على منطقة القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش وتوسعت المواجهة.
تحركات حميدتي التي سبقت بدء المواجهة، هدفت إلى السيطرة على القواعد الجوية الرئيسية للجيش لضمان عدم مشاركتها وهو ما حدث بالفعل فسيطر على قاعدة مروي وجبل أولياء ومطار الخرطوم، وكذلك تحركه المبكر لقاعدة مروي جاء أيضاً لتحييد القوات المصرية الموجودة وإيصال رسالة فيها إهانة للمصريين وهو ما حدث بنشر فيديوهات أسر الكتيبة المصرية بشكل مهين، ليتم التفاوض عليهم بعد انتهاء القتال.
تكمن خطورة المشهد الحالي، في أنَّ الاقتتال يتركز في العاصمة التي حشد بها حميدتي خلال الشهرين الماضيين قرابة 30 ألف جندي إضافي، وهو مستجد له ما بعده على السودان كله، لكونه أول مرة يتم الاقتتال بهذا الحجم والتوسع في قلب العاصمة دون خطوط حمراء، في حين أنَّ التمردات السابقة جميعها كانت في الأطراف، والسياسة السودانية مبينة على فكرة الحفاظ على المركز “العواصم الثلاث بالخرطوم” وحتى لو تدمرت كل الأطراف، ولكن حميدتي نقل معركته في قلب المركز، مما فاقم من تبعات هذا الاقتتال.
خلفيات الأزمة
إرهاصات هذا الاقتتال بدأت مع توقيع الاتفاق الإطاري بالسودان بداية ديسمبر الماضي، والذي تضمن بند دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة وَفق جداول زمنية محددة، غير أنَّ ذات الاتفاق حدد القوات النظامية في الجيش والشرطة والمخابرات العامة والدعم السريع رغم أنَّها قانونًا تابعة للجيش وهو ما أثار حفيظة العسكريين. وخلال الثلاثة أشهر الماضية تفاقمت الخلافات بين الجيش والدعم السريع على خلفية هذه القضية واعتبرها قادة الجيش أمنًا قوميًّا للسودان، ومع تفاقم حدة الأزمة أواخر فبراير الماضي حشد حميدتي قرابة 30 ألف مقاتل إضافي إلى قواته بالخرطوم تحسبًا لأي تحركات من الجيش، غير أنَّ وساطات جمعت حميدتي بالبرهان بداية مارس للتهدئة بينهم، لتطلب قيادات الجيش من حميدتي إعادة قواته إلى أماكنهم خارج الخرطوم دون استجابة منه، بل استمر تعزيز انتشار قواته في الأماكن الحيوية وهو ما اعتبره قادة الجيش تحدّيًا لهم لا يمكن السكوت عنه، وأنَّه حانت اللحظة لتقليم أظافر حميدتي وفرصة لإنهاء الازدواجية العسكرية والقضاء على الدعم السريع.
وتلاقت رغبة عدد من الأطراف الداخلية والخارجية بضرورة تحجيم نفوذ حميدتي في المشهد خاصة بعد توقيع الاتفاق الإطاري والذي نص على اختيار مجلس سيادي مدني يعتبر رأسًا للدولة ويتبعه الدعم السريع، وهو يعني ضمنًا تعزيز دوره كقوة عسكرية مستقلة، مما يتيح لها الاستقلالية بشكل كامل وبإمكانها إبرام صفقات تسليح والتوسع في التجنيد، مما يجعلها مكافِئة للجيش، وهو ما لا تقبله المؤسسة العسكرية؛ ومع سعي حميدتي الحثيث خلال الفترة الأخيرة لامتلاك طائرات مسيرة وأسلحة ثقيلة رأت قيادة الجيش أنَّ أي تأني في حسم قضية الدعم السريع ليس في صالحهم. لذا تمسكت قيادات الجيش بمطلب الدمج وتكوين جيش سوداني موحد خلال الفترة الانتقالية المقررة عامين بحسب الاتفاق الإطاري، في حين أصر حميدتي على أنَّ الدمج يكون خلال عشْر سنوات.
كما تلعب الحركة الإسلامية وتنظيمها العسكري داخل الجيش دورًا مهمًا في تعزيز التوجه نحو تحييد حميدتي منذ فترة، باعتباره المعرقل الأساسي لعودة الإسلاميين إلى المشهد من جديد وعداءه الشديد لهم، لذا البيانات التي تصدرها قوات الدعم السريع منذ بدء المواجهة وتصريحات حميدتي الإعلامية تتحدث على أنَّ قيادات الحركة الإسلامية وقيادات نظام البشير هم المحرك لأحداث.
خارجيًّا، أثار تحالف حميدتي مع قوات فاغنر وتحركاته الأخيرة في إفريقيا الوسطى ومحاولات التدخل في تشاد، حفيظة الأمريكان والأوربيين هذا بخلاف زيارته إلى موسكو عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، فأعطوا الضوء الأخضر للبرهان بتحجيم نفوذه؛ لما يمثله من تهديد على مصالحهم في دول الجوار المضطربة بالأساس، أضف إلى ذلك القلق المصري المتزايد من تصدر حميدتي للمشهد، ويرى المصريون أنَّ الجيش السوداني هو صمام الأمان بالنسبة لمصر كقوة نظامية تضمن لهم الاستقرار الحدودي ويستطيعوا التنسيق والتعامل معها.
غير أنَّ حميدتي يستند استنادًا رئيسيًّا على الدعم الإماراتي والعلاقات الوطيدة مع الروس، فمع تفاقم حدة الأزمة بينه وبين البرهان في فبراير الماضي زار الإمارات لمدة أسبوع لبحث تطورات الوضع ومآلاته، وقبل بدء الاقتتال بيومين زار الرئيس الإماراتي محمد بن زايد القاهرة للقاء السيسي وهو ما يشير ضمنًا إلى ترتيبات إماراتية تتعلق بالأحداث الجارية.
آفاق الاقتتال الحالي
قرار المواجهة اتخذته قيادات الجيش منذ مارس الماضي على أقل تقدير وانعكس فعلًا في التحركات على الأرض، وحميدتي أيضًا حشد قواته بالخرطوم استعدادًا للمعركة، بعد تيقن قادة الجيش من عدم جدوى الاستمرار في مفاوضات الدمج، والمكتسبات الكبيرة التي حققها حميدتي على المستوى الشخصي ولقواته منذ عزل البشير لن يتخلى عنها لرغبة بعض الأطراف بتحييده، فهو يرى بحسب تعبيره “أنَّ وصوله للسلطة أمرٌ لا بُد منه، وإلا فستضيع البلاد”.
وبالعودة إلى الاقتتال الدائر حاليًّا، فمن الصعب استمرار قدرة الدعم السريع على القتال في مواجهة الجيش؛ وليس من المرجح أن ينتهي الاقتتال سريعًا، ولكن نتيجته محسومة لصالح الجيش وتعزز من أسهمه بالمشهد. إذ إنَّه لا سبيل أمام الجيش السوداني سوى القضاء النهائي على قوات الدعم، حتى لا تتجرأ باقي الحركات المسلحة الأخرى المنخرطة في ترتيبات اتفاق السلام على الوقوف أمامه، فجميعهم لديهم معسكرات بالخرطوم في الوقت الراهن.
أما التهديد الأبرز حاليًّا، هو تلاشي فكرة دمج القوات شبه العسكرية بما فيها الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش؛ ما يعني العودة إلى مربع المليشيات المتمردة بالأقاليم مما يهدد تماسك السودان.
وهذا يضعنا أمام سيناريوهين؛
الأول: تمكن الجيش من تصفية أو اعتقال حميدتي وأخيه، وهنا ستنتهي الأزمة بشكل كبير، ووجود فرصة بدعم موسى هلال رئيس مجلس صحوة الثورة وشيخ قبائل المحاميد وابن عم حميدتي لقيادة ما تبقى من قوات الدعم السريع، نظرًاً لكونه مؤسسها وحميدتي بدعم من البشير انقلب عليه، وفعلًا أعلن هلال انحيازه الكامل للجيش وطلب من قبائله الخروج من الدعم السريع ودعم الجيش.
الثاني: قدرة حميدتي على إدارة المعركة من دارفور وسحب المتبقي من قواته إلى هناك وقيادة تمرد على الدولة سيفضي غالبًا إلى فقد سيطرة الجيش على أطراف الدولة.
وعلى كل الأصعدة، فإنَّ تبعات هذا الاقتتال إذا لم تعاد إعادة السيطرة عليه بشكل كامل وسريع ربما ستفضي إلى تفكك السودان، بخلاف الانفلاتات الأمنية والمناوشات التي ستحدث الفترة المقبلة من باقي الحركات المسلحة التي تنتظر الفرصة منذ زمن كبير، إلا إذا استطاع الجيش استعادة هيبته بدعم خارجي مما يزيد من سيطرته سياسيًّا وأمنيًّا.
ولكن من المؤكد أنَّ حِقبة الفترة الانتقالية التي بدأت مع سقوط البشير بكل ملامحها انتهت، والسودان مفتوح الآن على كل الاحتمالات، تتبين ملامحها مع انتهاء الاقتتال وظهور ملامح تحركات الفواعل في المشهد داخليًّا وخارجيًّا، فالجميع الآن يتحرك لوقف القتال بشكل مبدئي.