إنَّ الحالة التي تصل فيها قوى الإقصاء والغلو إلى قمة الدولة ومركزها، هي نفسها التي تتسبب في تفكك الدولة؛ ما لم تُنحَّ تلك القوى إلى الهوامش، فهي أنفع في الهوامش لقدرتها على شد عمود الدولة والعمل باعتبارها سياجًا، لكنها لا تصلح أن تكون هي الدولة نفسها، ويمثل النظام المصري الحالي أعلى درجات الغلو والتطرف العسكري غير الوطني، وسيؤكد ما نناقشه هنا مدى صوابية هذا التصور من خطئه.
فهو يتحرك في ظل أهداف وسياسات واضحة، دبلوماسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وربما كانت هناك بعض التوقيتات المقصودة أحيانًا في بعض قراراته وتحركاته، خاصة فيما يتعلق بالشأن الخارجي أو ما يخص أمن النظام في الشأن الداخلي، بينما تبقى أغلب قراراته أقرب للعشوائية من ناحية التوقيت والفعل في بقية شؤون الدولة! ويرجع ذلك لصلف القوة في مواجهة أي صوت أو فكر رافض أو معارض لتلك السياسات والقرارات، ومظنة القدرة على قمعه!
فعلى سبيل المثال فإنَّ البطش بالخصوم -أو من يعتبرهم هو كذلك- من مقوماته الأساسية ولا يهم بمن أو متى، فسواءً كان أحمد طنطاوي المرشح الرئاسي السابق وحملته، أو كان طالبًا جامعيًّا يكتب منشورًا على فيسبوك!
وكذلك رفع الأسعار والجبايات كمثال آخر، فهي سياسة رئيسية معتمدة وتصاعدية دون توقف، وكثيرًا ما تكون توقيتاتها خاطئة ودون أي مراعاة للواقع، ويبدو أنَّ الإفقار مقصود في واقع الأمر بهدف تحطيم أي مقوم بشري وإنساني، كرفع سعر رغيف الخبز المدعم ومن قبله رفع سعر البنزين، وكلاهما بعد مذابح غزة والناس نفوسها هائجة، وبعد بيع رأس الحكمة ودخول مليارات الدولارات كثمن لبيع البلد، وارتقاب قدر من الرخاء ولو يسير، ومع قطع الكهرباء في شدة الحر، وكما ترى فهي سياسات وأهداف عامة تنفذ في أي وقت.
أما عن تلك السياسات الدقيقة من ناحية التخطيط والتوقيت، أو فلنقل “التحركات الممنهجة” إن اعتبرنا سياسات النظام أقرب لعقلية التنظيم أو المجموعة ذات الأهداف والصفات الخاصة المميزة؛ فهي تلك المتعلقة بالشأن الخارجي المهدد، كعلاقة مصر/النظام مع القوى الخارجية، أو تأثير سخونة الأحداث على الحدود الشرقية للبلاد في فلسطين، أو تلك الداخلية والتي تتمثل في السخط الشعبي والحالة الاقتصادية والاجتماعية المتردية ومستوى المعيشة المتدني؛ وبخصوص هذين التحديين تحديدًا للنظام؛ فقد ابتكر خطًا جديدًا في مواجهتهما، أو على الأحرى تبنى استراتيجية قديمة جديدة استفاد فيها من تجارب أخرى كشبيحة الأسد وكتائب القذافي وبلطجية علي صالح في مواجهة أي تمرد داخلي، أو مجموعتي حميدتي وبريغوجين في مهام أخرى، هذه الاستراتيجية وما يتمخض عنها من تكتيكات خطيرة يمكننا أن نسميها ب “توظيف الميليشيات والجريمة المنظمة” وتنظيمها لاستثمارها في عملياته القذرة.
توظيف الميليشيات والجريمة المنظمة
لقد قام النظام حتى الآن بتنظيم وتوظيف نوعين من هذه المجموعات تنظيمًا مؤثرًا ومنذرًا بالخطر، إحداهما في الوجه البحري بقيادة صبري نخنوخ الذي استحوذ على شركة فالكون الأمنية، والأخرى بقيادة إبراهيم العرجاني في شبه جزيرة سيناء، وسنتناول باختصار أسباب التوجس من تكوين هذه المجموعات.
1-نخنوخ وشركة فالكون
بالنسبة لتوظيف نخنوخ فيمكن تصور وضعيته، يساعدنا على هذا معرفة خلفياته كأحد ملوك البلطجة في مصر، وهو ما يجعله أقرب لتأمين الوضع الداخلي كميليشيا غير رسمية تسيطر على الشارع دون الحاجة لتوريط الجيش رسميًّا بكل ما لذلك من تداعيات سياسية داخليًّا وخارجيًّا تهز صورة النظام، خاصة مع اختلاف وضعيته وتمكنه اليوم بشكل مغاير لاضطرابات وفوضى ما بعد ثورة يناير ثُمَّ الانقلاب على السلطة المنتخبة وإقصاء التجربة الديمقراطية.
فأما خارجيًّا فتحرك الجيش يعطي انطباعًا بعدم استقرار النظام واهتزازه، كما يؤكد ويؤسس لدعايات عن الدكتاتورية والعسكرتارية السلطوية، ويستدعي فكرة جرائم الحرب السلطوية في حق نظام يحاول تجميل صورته وإكسابها الشرعية، وإضفاء صبغة الاستقرار والثبات.
وأما داخليًّا فصورة الجيش صارت غير مريحة عند عموم المصريين؛ حتى أولئك الذين قبلوا بتدخله في الحياة السياسية وسيطرته على مقاليد الحكم بالقوة لتعودهم على ذلك منذ يوليو 1952، أو بسبب دعايات الثورة المضادة والإخوانوفوبيا وتدمير البلد، لكنهم قبلوا تدخله لما ظنوه من “إنقاذ البلد” شيء؛ وقبول استمراره وهيمنته أو احتلاله لكل مؤسسات ومرافق الدولة خاصة الاقتصادية؛ شيء آخر، وبالأخص في ظل تمتع كافة قيادات النظام بالسلطة والثروة وفرص العمل والتعليم والعلاج لهم ولأسرهم؛ بينما يعاني أغلب المصريين في تحصيل لقمة العيش والحياة الكريمة.
وفي حال نشوب اضطرابات أو احتجاجات شعبية قد تخرج عن السيطرة، يمكن لميليشيات نخنوخ التدخل للسيطرة عليها حيث ستبدو كقوى مدنية مؤيدة للنظام أو رافضة للفوضى؛ في مقابل أخرى فوضوية ومأجورة معادية للنظام.
بشكل عام أتوقع أن تقوم تلك الميليشيات مستقبليًّا بمهام وأدوار مدنية كثيرة دون تدخل الجيش وربما الشرطة كذلك، وأن تدير ما يمكن تسميته بالاقتصاد القذر للنظام، مثل شركات غسيل الأموال وتجارة المخدرات والدعارة ونحوها كخدمات اقتصادية للنظام لا يتحمل وزرها قانونيًّا أو شعبيًّا.
ويبدو جليًّا من محاولة إحلال هذه المجموعات الإجرامية الموالية للنظام؛ عدم ثقته بشكل كامل في الشرطة التي سقطت بسهولة نسبية في ثورة يناير، كما تحمل “كجهاز” وكأفراد الكثير من الأحقاد والمنافسة غير العادلة مع الجيش وضباطه، فقد ثبت تردد الداخلية في التدخل العنيف والتوسع في الاعتقالات في مواجهة حراك سبتمبر 2019 في ميدان التحرير، التي دعا لها المقاول محمد علي، وبينما أدارت الشرطة البلطجية بشكل عنقودي على مستوى الجمهورية في فترة صعود جمال مبارك؛ حيث تبعت كل مجموعة منهم الضابط المسؤول في القسم التابعين له، وتم تحريكهم تحت قيادة وتوجيه الداخلية التي تتخذ قرار تحركهم أو انسحابهم. وما يجري الآن هو سحب هذا البساط واستبداله بشركات منظمة لا تتبع إدارتها للداخلية، بل قد تقوم بأدوار موازية للداخلية نفسها، كما تتبع توجيه أجهزة أمنية أخرى حسب الدور المنوط بها!
2-العرجاني واتحاد القبائل العربية
أما في حالة العرجاني فالوضع مختلف وخطير لتعلقه بسيناء، والخوف أن يكون للأمر علاقة بإيفاء واجبات مصر في صفقة القرن تجاه ما يسمى بإسرائيل في حال سقوط الوضع أو تعرضها للخطر واختلال المعادلة بينها وبين المقاومة الفلسطينية وغيرها بأي صورة، أو شيء يتعلق بتهديد المسجد الأقصى المبارك، وكذلك لمنع نشوء وارتقاء أي قوى مماثلة في سيناء نفسها تطوق العدو وتهدد استقراره، وربما يتطور دور “اتحاد القبائل” هذا لمهاجمة حماس أو غيرها في ظرف ما مع تغطية ذلك وتسويغه إعلاميًّا بتوجيه الاتهامات إليها أو حتى بتلفيق ضربات أو أحداث ما توحي بتهديد المقاومة لأمن مصر! فطوفان الأقصى ليس موقفًا عرضيًّا أو حدثًا عاديًا بقدر ما هو تاريخي ومنعطف استثنائي يؤسس لمرحلة جديدة، وموازين مختلفة.
إنَّ حجم الخطر من تطور كتأسيس ميليشيا العرجاني في سيناء كبير وليس محدودًا، فهو تطور يراد له الاستمرار والديمومة، وليس مقصودًا منه أول ما يتوجه إليه الذهن من انشقاقه فقط كميليشيا انفصالية في المستقبل في حال ضعف الدولة أو تحالفه مع داعمين إقليميين محترفين في صناعة القلاقل كالإمارات وغيرها؛ وإن كان احتمالًا نهائيًّا واردًا وله سوابق في عدة دول، ولكن السؤال هو: ما الذي سيقوم به هذا الاتحاد بقيادة العرجاني في الفترة الوسيطة ما بين “تحالفه الآن مع الدولة”؛ وما بين الانفصال عنها إن حدث لا سمح الله! وهل سيكون هذا الانفصال لتقسيم البلد وتدمير الدولة نفسها ككيان في حالة سقوط النظام، كدرس مستفاد من وضع سيناء بعد سقوط مبارك وتهديد الكيان!
لا أحد يدري، فربما كانت تطورات الأحداث في الأرض المباركة وما حدث في غزة؛ هي شرارة انطلاق هذه المعالجة لهذا الدرس.
أما ما يحدث عبارة عن بتر أطراف، فالنظام يعمل بشكل منهجي ومدروس لتمزيق البلد لكيلا يتمكن أي وضع جديد من معالجة هذا التمزق والنهوض بها وتهديد الكيان.
فاحتمالات موضوع العرجاني من الضروري أن تناقش بشكل فكري واستباقي حتى لو تحملنا قدرًا من الخطأ أو الخلل في تحليلنا هذا أو تصوراتنا تلك، فذلك أفضل من التفكير الخجول المتردد، الذي يتراخى عن مصالح وطنه وأمته طلبًا للسلامة والصوابية المطلقة!
ماذا نعني ببتر الأطراف!
يبقى كل ما يجري في مصر تحت إدارة قوى خارجية لتحجيم آثار ومنع تكرار ما جرى في الربيع العربي باعتبارها دولة المركز، ومن يديرون الأمور في مصر الآن هم فقط أدواتها. ما حدث ويحدث هو للأسف وبكل ببساطة تنفيذ سياسة بتر الأطراف بحق مصر، بعدما استبان عدم إمكان التنبؤ بفورة الشعب المصري كغيره من الشعوب العربية وثوراتها؛ فضلًا عن منعها. فكان لا بُدَّ من إفقار وتجويع البلد وإثقالها بالديون لعشرات السنين، مع بيع أصولها الربحية في كل المجالات في عملية تبديد لثرواتها هي أشنع من الامتيازات الأجنبية فترة حكم الخديوي.
كما تم التحكم في صنبور الماء بسده من الحبشة وتوقيع رأس السلطة على ما عرف باتفاقية المبادئ التي أهدرت حق مصر ودعمت إثيوبيا أمام الاتفاقيات الدولية التاريخية، وهو ما يعني تعطيش شعب مصر وتهديد مقوماته الحضارية القائمة على نهر النيل والزراعة، وثرواته الحالية والمستقبلية.
ثُمَّ قضية بيع تيران وصنافير والسيطرة على المضايق المصرية بالبحر الأحمر وتحويلها إلى مياه دولية، ويبدو واضحًا في هذه الجريمة السياسية مدى الخدمات المقدمة لإسرائيل.
وأخيرًا التفريط في مساحات هائلة من المياه الإقليمية المصرية بالبحر المتوسط، تقدر بعشرات الآلاف من الكيلومترات المسطحة بما تحويه من خزانات هائلة للغاز الطبيعي وامتيازات لحركة الملاحة البحرية.
إنَّ المستهدف هو ماء النيل “شريان الحياة”، والامتداد الجيوستراتيجي في المضايق، والغاز في المتوسط إذًا، وهو التجويع والإفقار وحط المكانة التاريخية، وهي مصر التي يراد لها السقوط في القاع لا قدر الله على يد عشاق السلطة وكهنة المعبد.