يبدو المجتمع المصري مستكينًا وصامتًا رغم الشعور العام بسخط غير مسبوق وضغط نفسي وعصبي يجتاح الجميع، حتى كأنك تسمع لكل ذلك ضجيجًا وعجيجًا ويكأنه صوت الهتافات ولكنها هتافات الصامتين، وهي ما سنتناوله في هذا المسح السريع لبعض وسائل التعبير عن تلك الهتافات، التي تمثل “جهاز إعلام شعبي” يتم فيه البث والنشر على الحديد والجدران وفي الشوارع والمقاهي وقد يترجمه جمهور السينما أو مشجعو كرة القدم في إدارة ظهورهم لبعض الفنانين، أو مقاطعة علامة تجارية والنادي المروج لها، أو غيرها من صور تعبيرية.
لقد حاول الدكتور سيد عويس رصد هذه الظاهرة مبكرًا في سبعينيات القرن الماضي، في كتابه المميز “هتاف الصامتين” الذي رصد فيه نبض الشارع وحركته النفسية السياسية والاجتماعية من خلال تلك الشعارات المسكونة بالمعاني، التي تعبر عن الشخصية الثقافية المصرية، ولعل غيره من الباحثين إن تابعوا نفس النهج على فترات متتالية وفي عقود مختلفة لكان بين أيدينا تأريخًا وتشريحًا اجتماعيًّا مميزًا من خلال تلك الهتافات الصامتة!
لقد شاعت الكتابات الشعبية قبل ثورة يناير على السيارات والعربات وشاحنات النقل والجدران، وكذلك على حوائط الحمامات العمومية، وغلب على تلك العبارات النقد اللاذع والمعبر عن أحوال المصريين ومعاناتهم، واستبطان المعارضة أو الاعتراض على النظام، وتفاوت الطبقات، وانتشار الوساطة “الكوسة”، وفشو الفساد كما في مقولة “الدنيا مترو والشمال كتروا” وغيرها.
استمرت هذه العبارات بدرجة أكثر حدة بعد تحرك العسكر ضد قوى الثورة، فيما عرف بانقلاب الدولة العميقة على الثورة والتجربة السياسية التي أفرزتها، وانتبهت إليها السلطة السياسية جيدًا فحاصرتها وواجهتها بالقمع والمحو من على الجدران، خاصة مع تركيز الكلمات على رأس السلطة ووصفه بصفة شهيرة مبتذلة وشعبية، وبلغ الأمر حد التجريم القانوني والمخالفات المرورية القاسية لمجرد كتابة أي عبارة ولو عادية على مركبة من المركبات، واستمر هذا التدافع بين النظام وقوى الشارع حتى اختفى تقريبًا بإخماد التظاهرات والفعاليات الطلابية والشعبية الرافضة للوضع السياسي الجديد بعد ٣٠ يونيو، أو الانقلاب العسكري بغطاء سياسي.
وفي واقع الصراع الفلسطيني الأخير والصاخب بالمجازر وأنين المجاعة لأهل فلسطين ومواطني غزة خاصة؛ الذي تواكب مع أزمة معيشية طاحنة في الواقع المصري، تُلاحظ بشدة حدة الانتقادات للنظام في المتاجر والسوبر ماركت ومحلات الخضار والفاكهة؛ بل وعند القصابين “الجزارين” والفرارجية، وفي الوظائف والمقاهي العامة.
ومع ذلك يكاد يختفي كثير مما يتداوله الناس بينهم شفاهًا من شعارات الشوارع -إن جاز التعبير- والمركبات، وغيرها من الاحتجاجات والهتافات الصامتة، ببنما تكتسح رايات فلسطين وأعلامها، والشعارات العاطفية الداعمة والمتعاطفة مع مأساة أهلنا وإخواننا في غزة.
وتكاد تجمع أقوال من سألناهم على أسباب اختفاء الشعارات الصدامية مع أو الساخرة من النظام؛ في ثلاثة أسباب:
الخوف والحذر الأمني الشديد، حيث جعل النظام خصومه عبرة لمن يعتبر بالبطش والتنكيل، وتلفيق الاتهامات “بالأخونة” والعداء للوطن/النظام؛ جاهزة وهي اتهامات كفيلة بإلقاء أي مواطن في الاعتقال أو الحبس الاحتياطي إلى أجل غير مسمى.
إنَّ رفع شعارات التأييد لقضية فلسطين هو نوع من الاحتجاج أو المعارضة غير المباشرة للسلطة، التي يحملها غالبية المصريين مسؤولية خنق غزة، بل والتواطؤ والانتفاع كذلك من مجاعة غزة ومذابحها اليومية.
أما أجمل تلك التعليقات وأكثرها ذكاءً واستشفافًا، فهو ذلك التحليل الذي يذهب أصحابه إلى أنَّ الخطب أبلغ وأخطر وأكبر وأعمق من مجرد “نكتة” أو مزحة، وليس بوسع أحد أمام شلالات الدماء وملاحم الأشلاء أن ينبس بمزحة أيًا كانت، وإنَّ خيانة النظام أو تواطؤه أشد هذه المرة من العلاج بمجرد “نكتة شعبية”!
ويمثل غياب تلك الشعارات -لمن يعرف الواقع المصري- كبتًا غير سوي لطبيعته الصاخبة بالسخرية، والقصة الرمزية والنقد الكامن للسلطة، وقد ذكر جيمس هنري بريستد بعض تلك النماذج في كتابه “فجر الضمير”، حيث زيف الكاتب المصري القديم منذ ٤٠٠٠ عام قصة “الفلاح الفصيح” للتنديد بفساد السلطة ومعارضة السلطة بطريق غير مباشر على لسانه، كما نقل تحسر الفيلسوف والمصلح الاجتماعي في زمانه آيبور في محاولته حض الناس على الفعل إذ يقول: “ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت، حتى كنت أنقذ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن”!
فحالة الكبت والصمت هذه لا تعني غياب الحقائق التي تدعو للتذمر، وإنما تعني تكدسها في الوعي الشعبي بشكل غير صحي، بحيث لا يعرف أحد متى وكيف سوف يعبر عنها!
غياب النكات من الواقع
وبالإضافة للخوف من الوقوع تحت طائلة البطش الأمني؛ يمثل غياب النكات الشعبية أو قلتها انعكاسًا لحالة من الغم والكآبة يكاد يجمع عليها كل من يتناول الموضوع؛ بل وتمثل السمة السائدة والمخيمة على المجتمع المصري اليوم.
وهذه الحالة الكئيبة المظلمة التي أفلحت في إخماد النكتة كمعارضة غير مباشرة، واحتجاج لفظي موروث؛ إذ تنبئ عن نجاح السلطة في قمع النفس الشعبي، فإنَّها كذلك تكدس أكوام الغضب في النفوس، وتؤذن بتعبير من نوع آخر، أو انفجار بالونة الغضب المنتفخة.
فحالة “الاكتئاب الشعبي” العامة هذه هي أحد أهم أسباب سوء العلاقات الاجتماعية اليوم في مصر، في تعاملات الناس بشكل عام، وهو ما انعكس في صورة جرائم غريبة على مجتمعنا، كما يظهر جليًّا في نسب الطلاق والخلع ورواج محاكم الأسرة، بالإضافة إلى عوامل أخرى بطبيعة الحال. ولعل هذه السلوكيات والممارسات الغاضبة والعنيفة، هي أول الغيث، إذ ينشأ العنف بينيًّا في المجتمعات المحتقنة قبل أن يتحول إلى فوضى أو عنف ضد السلطة.
قضية المقاطعة والجيل الصاعد!
بينما تتعامل الأجيال الأكبر سنًا والأكثر نضجًا مع قضية المقاطعة بشكل عادي وغير متشدد -رغم مقاطعة كثير منهم بالفعل- إلا أنَّ الملاحظ هو تبني الأجيال الأحدث لهذه القضية باستماتة!
فجيل الأطفال وما فوقه قليلًا من الشباب يتعاملون مع قضية المقاطعة وكأنها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهم، في ظاهرة غريبة وجديدة تعكس سأم تلك الأجيال المترفة بالاستهلاك، التي تكاد تلك السلع تكون قد حلت محل طعامها وشرابها، كما توحي بحاجة الأجيال الناشئة إلى قضية حقيقية مجردة، التي فوجئت بأنَّها أمام قضية كبرى لكنها مغيبة، كما أنَّها تضع أمامهم اختيارًا بسيطًا بين أمرين: دماء شعب أعزل وطيد الصلة بنا، في مقابل مشروب أو وجبة أو سلعة!
توجه حالة السخط إلى وسائل التواصل الاجتماعي
ومع ذلك، وكنتيجة لانسداد أفق التعبير السياسي، والتهديدات الأمنية لأي صاحب رأي، ورغم القوانين المجرمة لأي تغريدة أو منشور، فإنَّه سرعان ما يفر الفرد إلى وسائل التواصل ليعبر عن شعوره المضطرب بالفقر والحاجة، أو العجز وعدم القدرة، فيعبر عن نفسه في صورة نكات أو “كوميكس” أو غيرها من أساليب، لم يسلم أصحابها من الملاحقة والسجن في جرائم النشر والاتهام بالترويج للأخبار الكاذبة، والانتماء لجماعة محظورة وغيرها.
والخلاصة، إنَّ أولئك الصامتين -وهم مزيج من كل الأطياف- حتى لو غلب عليهم العمال والفلاحين والبسطاء والطلبة، إلا أنَّ هتافاتهم لا تبقى حبيسة الصدور أو الجدران أبد الدهر؛ وإنما توشك أن تصير صياحًا في دعواتهم في رحبات المساجد ودور العبادة، وفي أهازيج مشجعي الكرة ومجموعات الألتراس التي تُمنع من رفع أعلام فلسطين، كما تتبدى في الملاهي والمقاهي، وقد تظهر في أحداث أمنية محدودة هنا أو هناك أو قرب الحدود، أو مبادرات طلابية يعتقل أصحابها على الفور. وكأنما ترتقب الفرصة لتنفجر بركانًا هادرًا في الشوارع والميادين لتخرج إلى العلن وتنهي حالة القهر والانسداد، وتكسر الحصار الفكري المفروض على شعب الصامتين الخائف والجائع والمكظوم.