مقتل قاسم سليماني
لم تكن عمليّة اغتيال قائد فيلق القدس التابع لجهاز حرس الثورة الإيراني، قاسم سليماني، والّتي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية، مطلع يناير/ كانون الماضي، مجرّد إجراء عاديّ في سياق حرب واشنطن المستمرّة على ‹‹الإرهاب›› أو خطوة تصعيديّة مفهومة في سياق صراعها مع طهران، وإنما كانت ‹‹إعلان حرب›› كما صنّفتها بعض من دوائر الأمن والسياسة في العالم، أو حدثًا تأسيسيًا، ما بعده ليس كما قبله، في أفضل الأحوال.
وفي ‹‹رقعة الشطرنج›› المكتظّة باللاعبين والفاعلين المعروفة بالشرق الأوسط، فإن حدثًا كهذا لابدّ أن تنال تداعياته من جميع العناصر المكوّنة للمشهد، سلبًا أو إيجابًا، أو كليهما معًا، كما كان الحال مع “إسرائيل” التي أظهرت ارتياحًا كبيرًا يشوبه بعض الحذر عقب هذه العملية. ومن هذا المنطلق، نحاول في هذه المادة تعريف القارئ بأهم ملامح تأثير حادثة اغتيال سليماني على دولة الاحتلال من خلال مقاربة عبريّة في الأساس.
وقع الخبر
لم تُخفِ ‹‹إسرائيل›› سعادتها بالعملية منذ اللحظات الأولى لإعلانها؛ فقد سارع رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى مبارَكة هذا الخبر فور وصوله إلى المطار، قادمًا من اليونان، بعد رحلة عمل ناجحة أفرزت اتفاقًا جيو – طاقويّ جديد ‹‹إيست ميد›› يتعلّق بتركة الغاز في البحر المتوسط.
السّرديّة الرئيسيّة الّتي تبنّاها نتنياهو في مباركته للعمليّة كانت نابعة من ضرورة وقوف ‹‹إسرائيل›› مع شقيقتها الكبرى الولايات المتحدة في خياراتها، خاصّة خلال ولاية الرئيس الأمريكيّ الحاليّ، دونالد ترامب، الذي قدّم الكثير من الخدمات الجليلة لدولة الاحتلال من ناحية، مع التأكيد على استحقاق سليماني للاغتيال جزاءً لمسئوليته عن ‹‹قتل عدد لا يُحصى من الأبرياء وزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط›› من ناحية أخرى.
اعتبر نتنياهو أيضا عملية اغتيال سليماني، الذي سبق واتهمته ‹‹إسرائيل›› بالتخطيط لشنّ هجماتٍ عسكريّة واسعة النطاق على أهدافها باستخدام صواريخ وطائرات بدون طيار يشغّلها جنود تابعون له في سوريا، خطوةً مستقبليّة مهمةً في طريق الحفاظ على أمن المنطقة، متبنيًا في ذلك روايةَ الولايات المتحدة التي قالت إن رجل إيران في المنطقة كان يُعدّ لهجمات انتقامية جديدة، ردًا على الاستهدافات الأمريكية الأخيرة للعناصر الشيعية في العراق.
هُوية الفاعل
سادت الأوساطَ السياسيّة في ‹‹إسرائيل›› حالةٌ من الارتياح الواضح بعد التخلّص من ‹‹الحاج سليماني›› دون التورّط في دمائه بشكل مباشر؛ حيث كانت تلّ أبيب تخشى طيلة الأعوام الماضيّة – فيما يبدو – من قطف رأس مهندس ‹‹التموضع الإيراني›› في المنطقة بنفسها عبر هُويتها السياسية الرسميّة، باستخدام الطرق التقليدية التي اعتادت استخدامها مع قيادات الفلسطينيين، مثل سلاح الطيران.
وفي أكتوبر/ تشرين الماضي، قالت إيران إنها أجهضت محاولة ‹‹إسرائيلية›› لاغتيال القائد السابق لفيلق القدس، عبر فريق سرّي مكوّن من عرب ويهود، بتعليمات من جهاز المخابرات ‹‹الموساد››، عقب الظهور الرسميّ الأول لقاسم سليماني على شاشات إحدى القنوات الإيرانية، متحدثًا عن بعض كواليس مسيرته الحربية وخدمته للمشروع الإيراني، وبعض أسرار حرب يوليو/ تموز 2006 بين حزب الله والاحتلال.
وقد زاد من الارتياح ‹‹الإسرائيلي›› المتعلّق بابتعادها الرسمي عن مسرح العملية، قيامُ الولايات المتحدة الأمريكية نفسها باغتيال سليماني. فبالإضافة إلى الأسباب الفنيّة المتعلّقة بالكفاءة، فإن بعض الدوائر في دولة الاحتلال قد اعتبرت هذه العملية عقابًا أمريكيًا شاملًا لإيران على عربدتها في المنطقة ضد حلفاء واشنطن، بل وواشنطن نفسها، كما نظرت إليها كتدشين لدور أمريكيّ جديد أكثر فاعلية ضد رؤوس الجماعات غير النظاميّة في الإقليم، خاصّة عند قراءة هذه العمليّة في سياق تقاربها الأدائي والزمني مع عملية اغتيال ‹‹أبو بكر البغدادي››، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، على الحدود السورية العراقية، نهاية العام الماضي.
تميل ‹‹إسرائيل›› إلى التعامل مع كيانات رسميّة، يمكن التنسيق معها بشكل مؤسسيّ، سرًا أوعلنًا، على غرار الأنظمة العربيّة. في حين تشعر بالقلق الشديد من تموضع الجماعات الإسلاميّة، سُنيةً كانت أو شيعيّة، في نطاق حزامها الأمنيّ الذي أرسته عام 1967، لأسباب كثيرة، أهمها قدرة هذه الجماعات على التكيف – بل والتطور – في البيئات غير المستقرة، وعدائها الجذريّ لشرعيّة الدولة العبريّة، على أساس تقاطع نشأتها التاريخية مع تداعي نظام ‹‹الخلافة›› الذي يحمل نفحة مقدسة عند كثير من التنظيمات السلفية، أو كونها استثناءً صنعته قوى الشرّ الاستعماريّة عند معظم الجماعات الشيعية الموالية لطهران.
وبحسب خبراء عسكريين، على رأسهم أحد قادة المنطقة الشمالية العسكرية السابقين، فإن التخلّص من سليماني في هذا التوقيت، وبهذه الطريقة، يعدّ صدمة كبيرة ستخلق فراغًا أمنيًا واسعًا في الإستراتيجية الإيرانية بالمنطقة، ومن المؤكد أن ‹‹إسرائيل›› ستعمل على الاستفادة القصوى منها، خاصة خلال الشهور الثلاثة القادمة التي ستشهد انتخاباتٍ برلمانية تعقبها حكومة جديدة، كما ستشهد بداية العمل ‹‹الفعلي›› لقيادة الفيلق الجديدة.
مدى التخوف من الرد الإيراني
بالرغم مما أشاعه كثير من المحللين، مثل روي بن يشاي، عن بعض القلق الذي ضرب الدوائر الأمنية لدولة الاحتلال من احتمالية امتداد الرد الإيراني المنتظر إلى ‹‹إسرائيل››، والذي أكسبته بعض التصريحات الإيرانيّة عن وضع مدينة ‹‹حيفا›› تحت النار قيمةً إضافية؛ فإن تقييم المؤسسة الأمنيّة الرّسمية كان مختلفًا وأكثر هدوءًا، حيث اعتبرت أنه بمنتهى البساطة: ليس هنالك ما يدعو إلى القلق، لا حاجة إلى اجتماع ‹‹كابينيت›› عاجل.
لم تتجاوز التدابير الوقائية ‹‹الإسرائيلية›› حدّ رفع درجة الاستعداد في منطقة جبل الشيخ الشماليّة، وتحذير البعثات الدبلوماسية الأجنبية من التهاون في تنفيذ الكود الأمني المعروف عالميًا لتأمين هذا النوع الحسّاس من الأماكن بطبيعته.
ولعلّ أهم أسباب هذا التقييم تعود إلى نجاح الإدارة ‹‹الإسرائيلية›› في عدم استفزاز المشاعر الإيرانية المجروحة؛ حيث تجنبت تلّ أبيب الإشارة إلى دورها الاستخباريّ في العملية، وهو دور ألمح إليه بعض المراقبين الغربيين بالفعل، كما فضلت عدم الردّ على تقارير علمها بالعملية قبل (24) من التنفيذ كما قال محللون عبريّون مثل أورهيلار من القناة (13). وقد شدّد نتنياهو في اجتماع الإثنين، بعد العملية، على ضرورة الفصل بين التنفيذ الأمريكي والمبارَكة العبريّة. وبحسب مصادر في الاجتماع، فقد وبّخ رئيس الوزراء وزيرَ الدفاع ‹‹بينيت›› بسبب انفراج أساريره أمام الكاميرات، رغم تعليمات عدم المبالغة في إظهار الارتياح.
وقد أثبتت هذه التقديرات الرسميّة نجاعتها في توقّع اقتصار الضربة الإيرانيّة على الفاعل الأصليّ، في نطاق العراق، بعد الانتهاء من مراسم جنازة سليماني. وتُفسّر هذه الكفاءة في الأغلب بتكثيف ‹‹الإسرائيليين›› أنشطتهم الجويّة والاستخباريّة بعد العمليّة مباشرةً، من خلال الدفع بطائرات ‹‹نحشون››، و‹‹شافيت›› التابعة للسرب رقم (122) من قاعدة ‹‹نيفاتيم›› الجويّة، حسبما رصدت مواقع تعقب الملاحة الجوية.
البرنامج النووي الإيراني
إذا كانت ‹‹إسرائيل›› لم تشعر بالقلق أو الانزعاج من طبيعة الرد العسكري الإيراني على عملية اغتيال سليماني؛ فما الذي أزعجها تحديدًا؟ , الإجابة هنا تتعلّق بأصل كل الشرور الإيرانية من وجهة نظر الاحتلال : السّلاح النووي.
أعلنت طهران، فيما يبدو أنه رد غير مباشر على عملية الاغتيال، تسريع خطوات الانسحاب من الاتفاق النووي التي بدأتها مايو/ آيار الماضي، ردًا على اكتمال نصاب العقوبات الاقتصاديّة التي فرضها ترامب عليها بموجب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق (5+1) بشكل أحاديٍ، مايو/ آيار 2018.
الخطوة الخامسة (والأخيرة) من هذا المسار أفسحت المجال أمام استخدام قطاع الطاقة النووية الإيراني أجهزة الطرد المركزي اللازمة لزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، بلا قيود كمية.
‹‹إسرائيل›› التي كانت تنظر إلى اتفاق الولايات المتحدة مع إيران تحت أعين القوى الخمس الكبرى على أنه بوّابة طهران الخلفيّة لتصنيع الأسلحة النووية بالتوازي مع التخفف من فاتورة العقوبات الدولية، ومن ثمّ أخذت تحرّض واشنطن على الانسحاب من الاتفاق، تشعر الآن بالقلق من جدوى هذا المسار الذي يبدو أنه يؤدي إلى نتائج عكسية.
ويزداد قلق ‹‹الإسرائيليين›› حدة بالنظر إلى عامل الوقت؛ حيث يتشكل في الوقت الحالي ما يشبه الإجماع الدولي على اقتراب إيران من امتلاك التكنولوجيا اللازمة لتصنيع رؤوس نووية، وبحسب تقرير المخاطر الإستراتيجيّة المرفوع للرئيس اليهودي رؤوفين ريفلين منذ أيام، فإن العدّ التنازلي على امتلاك طهران لهذه التكنولوجيا قد بدأ فعلًا، مع ترجيح ازدياد مؤشرات الخطورة بحلول العام المقبل.
وكعادتها، لوّحت تل أبيب بالخيارات الخشنة التي سبق واستخدمتها في الحالتين العراقيّة والسوريّة، مؤكدةً أنها لن تسمح لإيران بتجاوز خطوطها الحمراء في هذا الملف. كما حصلت على دعمٍ أمريكيّ جديد من الرئيس دونالد ترامب، الذي كتب على حسابه الشخصيّ في موقع ‹‹تويتر›› أنه لن يسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي، طالما ظلّ في منصبه الحاليّ رئيسًا للولايات المتحدة.
الانسحاب الأميركي من العراق
لا تروق كل الوعود الانتخابية لترامب ‹‹إسرائيل››؛ حيث تخشى دولة الاحتلال كثيرًا من لحظة الصفر التي سيعلنها ترامب إيذانًا بخروج أمريكا من المنطقة، وفاءً بوعده الذي قطعه على نفسه قبل انتخابه بالحفاظ على ما تبقى من دماء جنود الجيش التي سالت في الحروب العبثية، وتدفيع الحلفاء أثمان الدعم اللوجيستي الأمريكي الذي كانوا يحصلون عليه مجانا في السابق.
وبالنسبة لبغداد، فإن تل أبيب ليست قلقة على مستقبلها الاجتماعيّ والسياسيّ بعد رحيل الأمريكيين بالطبع، ولكنها تخشى من سقوط حاضرة عربيّة جديدة في يد الإيرانيين، بعد سقوط أجزاء وقطاعات واسعة من سوريا ولبنان واليمن في أيديهم خلال الفترة الماضية، وهو ما قد يعني توسيع حدود المطاردة اليهوديّة للميليشيات الشيعية في المنطقة، وإرهاق جيش الاحتلال – الذي يعاني بالفعل – على المزيد من المحاور.
المفاجئ بالنسبة لـ‹‹إسرائيل›› كان قرار المستوى السياسيّ الأمريكي بالاستجابة إلى الضغوط الإيرانية، ممثلة في البرلمان العراقي، وبدء إجراءات الانسحاب من بغداد؛ حيث أصيبت كلّ الدوائر الأمنية العبريّة، الرسمية وغير الرسمية، بالهلع، عقب تسرّب وثيقة الانسحاب المنسوبة إلى الجنرال ‹‹ويليام سيلي›› قائد القوات الأمريكية في العراق، كما أكّد الخبير العبري بن كاسبيت في موقع ‹‹المونيتور››.
وبالرغم من النفي الأمريكي الرسمي لمزاعم بدء الانسحاب من العراق ومحاولات تطمين الدولة اليهودية، فإن ‹‹إسرائيل›› قد تشكّل لديها قناعة راسخة بأنه سوف يكون لزامًا عليها الاعتماد على نفسها أمنيًا بشكل أوسع في هذه الحقبة التاريخية من عمر الدولة. فـ‹‹إسرائيل›› ليست الولايات المتحدة، والأمريكيون لن يتحرّكوا جديًا إلا إذا تعرّض اليهود إلى خطر وجوديّ.
وعلى نحو فوريّ يترجم هذه القناعة بعد الأزمة، استهدف طيران جيش الاحتلال ‹‹التموضع الإيراني›› فيما لا يقل عن مهمتين جويتين؛ كانت الأولى من نصيب قوات الحشد الشعبي العاملة في نطاق الحدود العراقية السورية (البوكمال)، والثانية نحو مطار ‹‹التيفور›› السوريّ؛ وما خفي أعظم!
اغتيال سليماني والساحة الفلسطينية
وبعيدًا هذه المرة عن الصراع المباشر ضد إيران، فقد تسبب الأداء الفلسطينيّ خلال الأزمة في انزعاجٍ سياسيّ وأمنيّ شديد لدولة الاحتلال. الجديد هذه المرّة، كان تخلّي محور المقاومة القابع في قطاع غزة عن ربقة ‹‹الاضطرار›› التي كانت تحكم علاقته مع طهران في السابق، ليؤكد حاليًا على أن علاقة المقاومة الفلسطينية بإيران علاقة عضويّة اختياريّة، الأصل فيها الثبات والاستقرار.
تبلور ذلك الموقف الجديد في تصريحات إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والتي أصبغ فيها صفة ‹‹الشهادة›› على قائد فيلق القدس المتهم بالإشراف على مذابح ضد المدنيين في المناطق الداعمة للثورة السورية، وتأكيد أحمد عبد الهادي، نائب الحركة في بيروت، على دور سليماني في دعم خطط المقاومة الدفاعية بشكل ميدانيّ.
وقد التقطت المستويات الرسمية في طهران هذا الخيط، وأعلنت بدورها تدشين مرحلة جديدة من العلاقات الغزّيّة الإيرانيّة بمقتل سليماني يكون فيها إسماعيل هنية وزياد النخالة من الأسماء المعنية بالانتقام لرجل القدس، كما قالت زينب قاسم سليماني. كما توضع خلالها أعلام حركتي حماس والجهاد، جنبًا إلى جنب مع أعلام الميليشيات الإيرانية الأساسية على غرار الحوثيين و (زينبيّون) و(فاطميّون) .
استبعدت ‹‹إسرائيل›› اندلاع تصعيد عسكري جديد بينها وبين الفصائل المقاومة في غزة على خلفية اغتيال الجنرال الإيراني، لأسباب كثيرة، من ضمنها التقدم النسبي البطيء في مسار التفاهمات بين الجانبين؛ ولكنها أبدت قلقًا إستراتيجيًا من خطورة هذا التنسيق مستقبلًا، وانزعاجًا من تحركات حماس في حيز محور تركيا – قطر – إيران خلال الفترة الأخيرة. وبحسب أمير بوخبوط مراسل والا العبري، فقد استنكرت ‹‹إسرائيل›› سماح مصر لهنيّة بالخروج عبر معبر رفح البري للقيام برحلات طويلة دون قيود كما يحدث الآن.