العدالة الانتقالية والثورة المضاده
تمر أغلب الثورات في العالم بمرحلة انتقالية بل إن بعضها مر بعدة مراحل انتقالية. وقد واجهت أغلب الثورات مجموعة من التحديات أثناء الانتقال من نظام إلى نظام أو بعد إسقاط الديكتاتور أو الحاكم المستبد. وتعتبر ملفات الأمن والعدالة ومعاش الناس هي الملفات الرئيسية التي توظفها قوى الثورة المضادة وتستغلها بأسلوب يعزز من استمرار حالة الإنفلات الأمني أو الفوضى، وذلك بشرط ألا يكون هذا التغيير مؤثرا على مصالحهم اذا كانوا رجال أعمال أو يعرضهم للمحاسبة إذا كانوا ضالعين في قتل وتعذيب المتظاهرين أو الثوار.
وكذلك، فإن الدول الكبرى ودول المحيط الإقليمي تتحرك ضد الثورة أو التغير خوفا من تعرض مصالحهم للتهديد إذا ما انتج هذا التغير نظاما يسعى للاستقلال وتبني سياسة وطنية مستقلة. و رغم حجم التحديات والاشكاليات التي تواجهها الثورة والثوار إلا أن هناك أيضا فرص يمتلكوها، وتتمثل في مساحات حركة يمكن أن تستغل بالشكل الذي يعظم من تحقيق إنجازات على الأرض. ولذلك، فإن تحقيق العدالة هو أحد أكبر التحديات التي يواجهها الثوار بشكل عام لما يمثله من تهديد عليهم وهو ما ينعكس على مسار التغيير ككل.
مرت بعض الدول بثورات وأخرى بما يعرف بانتقال سياسي. فالثورة هي تغير كبير يحدث للنظام من جذوره كما حدث في فرنسا وإيران، أما الانتقال السياسي فهو مجموعة من الخطوات والمحطات يتغير خلالها النظام بشكل تدريجي. وفي كلا الطريقين مارست بعض الأطراف عدة سياسات بداية من الشد والجذب والعنف وحتى المواجهة، ويكون ذلك على عدة مستويات ومسارات، ولكل تجربة سمة عامة ومنهجية اُستخدمت لتحقيق عملية الانتقال أو التغير. هناك عدة أدوات عملية وفعالة كالمحاكم الثورية، وصرف تعويضات للمتضررين، وتطهير المؤسسات وعلى وجه الخصوص العسكرية والأمنية، كذلك فإن هناك دول حققت نجاحات عبر مسار طويل قامت من خلاله بعملية إعادة تأهيل للمؤسسات وتحقيق انجازات خدمية للشعب قاطعة خطوات صغيرة داخل خطوة التغير الكبرى. ونحن هنا أمام أحد أمرين إما تغيير نظام دكتاتوري مستبد أو تحول نظام دولة إلى نظام أخر كالدول التي انتقلت من النظام الشيوعي إلى النظام الديموقراطي مثلما حدث مع بعض دول شرق أوروبا. وإن أحد أهم العناصر التي سرعت من عملية التغيير أو الانتقال هو عامل المصارحة الذي مثل نقطة محورية في الحصول على دعم الجماهير، وقدم غطاء لتحقيق العدالة الانتقالية. أحد أهم المفاهيم التي يجب أن يدرك أبعادها القادة الثوريون أو الاصلاحيون هو مفهوم المرحلة الانتقالية أو العدالة الانتقالية. حيث ينبغي اكتساب المعرفة عبر دراسة التجارب الانتقالية الناجحة وكذلك التجارب الفاشلة، كما أن الإقتراب من أصحاب هذه التجارب يساهم في اكتساب الخبرات وارتفاع الوعي، ويمثل امتلاك المعرفة أحد أهم الخطوات المطلوبة لبناء تصورات عملية تحقق عملية الانتقال والتغير.
عامل الأيدولوجيا هو من العناصر الهامة في عملية، الانتقال فهناك دول كانت الأيدولوجيا والأفكار التي تبنتها عاملا حاسما في عملية الانتقال لما في ذلك من تأثير على السياسات التي يتبعها قادة التغير، ففي بعض الأحيان لايسمح نظام الدولة بتحقيق العدالة الناجزة، ويرجع السبب إلى تبني بعض قادة التغير أو الاصلاح لمفهوم سيادة القانون أو عدم تطبيق
عقوبات الإعدام لما له من تضاد مع بعض الأيدولوجيات في حين أن هناك أيدولوجيات تشرعن لعملية التغيير والعدالة الناجزة. فبين هذين المسارين تكمن التحديات والاشكاليات للوصول إلى نتائج وانجازات تلبي تطلعات الجماهير التي تسعى للتغير أو الانتقال. ويعد هذا البعد أحد المسارات التي تقوم فيه الدولة العميقة ورموزها باستغلاله للوقوف أمام أي مسار تغييري أو تحول يهددهم مصالحه أو حياتهم. إن الحرص على أن تكون عملية التغيير في إطار القوانين التي وضعوها سابقا أو أن تكون التهم محدودة وضد أفراد بعينهم وليس ضد مؤسسة أو جهة، يؤدي إلى مد عملية التغيير فترة زمنية أطول مما يعرقل تحقيق العدالة وبالتالي يصعب الانتقال والتغيير. إن إلغاء هذه القوانين وتحجيم صلاحيات المؤسسات المنحرفة فضلا عن حلها هو أمر ضروري يحول دون هروب المذنبين أو قادة النظام السابق. وهو في الغالب ما يواجهه قادة التغيير في الدول القمعية الشمولية، وقد قال أحد المعارضين الألمان الشرقيين ” أردنا العدالة فحصلنا على سيادة القانون”.
تكمن المشكلة في أن بعض قادة التغيير يسعون لتحقيق العدالة عبر المحاكم التقليدية والتي لا تلبي تطلعات الشعوب في المرحلة الانتقالية حيث أن التهم التي توجه لقادة النظام السابق مفترض أن تكون تهم سياسية ثورية وليست قانونية إدارية وهو ما يتطلب انشاء محاكم مختصة في هذا الشأن، فنجد أن قوى الثورة المضادة على الرغم من نفوذها الكبير في السلطة القضائية تدشن محاكم مختصة بالإرهاب، ويمكن اعتبار مفاهيم سيادة القانون أو الالتزام بالأصول القانونية وغيرها أمور مقيدة للعدالة في المراحل الانتقالية، وتنتج مساحات من الاحتقان وانصراف الكتل الفاعلة من الشعب بعيدا عن قادة التغيير، ويعد كتاب ” معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية ” لدكتورة العلوم السياسية نويل كالهون، والتي عملت قرابة 15 عاما مع مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين (UNHCR) من أحد أهم الكتب التي ناقشت مفهوم العدالة الانتقالية من خلال تناول تجارب التحول الديموقراطي روسيا وألمانيا وبولندا.
وفي ختام هذه المقالة نود أن نشير إلى أمر غاية في الخطورة يتعلق بالعديد من ثورات الدول العربية وعلى وجه الخصوص مصر،وهو أن مع كل موجة تغيير أو ثورة تخرج موجة غضب مثلما حدث بمصر في يوم 28 يناير، وهو بالأساس ردة فعل ضد ممارسات وانتهاكات وزارة الداخلية التي عانى منها الشعب بشكل جماعي خلال عهد وزير الداخلية حبيب العادلي. ونحن عندما نتحدث عن ذلك، فإننا نشير إلى أن فكرة الانتقام قد تتبناها قطاعات من الشعب تنفيثا عن غضبها، وسعيا لاستعادة حقوقها. فالواقع الذي نعيشه خلال هذه الأيام أكثر تعقيدا مما كان عليه قبل عام 2011. فالمشكلة لم تعد مع جهة معينة مثل وزارة الداخلية أو حتى الجيش او نظام الحكم بل امتدت إلى الخصومة بين مكونات المجتمع. فكثر ممن تضرروا من حوادث القتل أو الاعتقال والتعذيب والاغتصاب التي نتجت عن دعم قطاعات من الشعب للسيسي، اصبحوا في خصومة مع تلك القطاعات، فمثلا البعض يعتبر أن الكنيسة مثلت داعما قويا للانقلاب العسكري وهو ما تجلى في
مشاركة شرائح واسعة من المسيحيين في مظاهرات 30 يونيو ثم مظاهرات التفويض. وسنقوم خلال الفترة القادمة بمناقشة تلك الأبعاد عبر مجموعة من المقالات نسعى فيها لتوصيف المشكلة بشكل عميق، وطرح مسارات عمل وحلول حتى لا نجد مستقبلا موجات الغضب تستهدف قطاعات من المجتمع بدلا من أن تكون ضد منظومة النظام القمعية.
اقرأ ايضاً هل النظام في مصر مستقر