احتجاجات 20 سبتمبر
من المعتاد أن تنتهج النظم التي تعتمد اقتصاد السوق سياسات ديموقراطية تراعي فيها الحريات، في حين تنتهج النظم الديكتاتورية سياسات اشتراكية تراعي الطبقات الفقيرة. بينما نظام السيسي يدمج بين نظامين مختلفين ليجمع أسوأ ما فيهما، وهما الاستبداد السياسي والنيوليبرالية المتطرفة. وعقب إعلان السيسي في مارس 2020 عن حزمة تحفيز اقتصادي بمبلغ 100 مليار جنيه في مواجهة أزمة كورونا، توالت القوانين والقرارات الحكومية والرئاسية التي تقنن السطو على جيوب المواطنين بغرض توفير أموال للنظام يواصل عبرها تنفيذ سياساته، وبالأخص مع تناقص إيرادات النظام، وفي مقدمتها إيرادات الضرائب التي صرح وزير المالية محمد معيط في منتصف سبتمبر بأنها سجلت خلال العام المالي الذي انتهى في 30 يونيو الماضي عجزًا بنحو 115 مليار جنيه عن المستهدف تحقيقه من الإيرادات الضريبية والمقدر بنحو 760 مليار جنيه.
وإن الاستراتيجيات التي اعتمدها النظام المصري للتعامل مع مشكلة تراجع إيراداته، واستنزاف فوائد خدمة الديون الخارجية لموازنته السنوية والإنفاق غير الرشيد على مشاريع محدودة الجدوى اقتصاديا مثل توسعة قناة السويس، وبناء قصور رئاسية جديدة، وبناء شبكة طرق موسعة دون وجود مشاريع تنموية تخدمها تلك الشبكة، هي استراتيجيات يتحمل عبئها بالدرجة الأولى المواطن في ظل انتهاج الدولة لسياسات جبائية صارمة، وهو ما يراكم الغضب والشعور بالظلم لدى شرائح متزايدة من المواطنين مما ينعكس على تزايد العنف الهيكلي في المجتمع، وهو ما يتجلى في زيادة حوادث الانتحار، وحوادث السرقة مما يهدد الاستقرار المجتمعي.
لم يكن خروج المحتجين في 20 سبتمبر 2020 مفاجئًا أو غيرَ متوقع، بل هو غضب متراكم ترجمته الاحتجاجات الأخيرة. فعلى مدار عامين من متابعتنا للملف المجتمعي لم ينجح النظام في تلبية احتياجات أو مرعاة النقاط الحرجة التي تمس المواطنين، فمنذ نهاية عام 2018 وعلى مدار عام 2019 كانت القضية الأبرز هي حملات الإزالة والتي سببت قلقًا للنظام بداية من أزمة جزيرة الوراق التي اتخذت خيار التصدي لقرارات الحكومة ورفض الخضوع للقبضة الأمنية مرورًا بنزلة السمان، وبعض قرى الصعيد التي اشتبكت مع قوات الشرطة رفضا لحملات الإزالة.
ثم جاء قانون التصالح وما رافقه من عمليات هدم للمنازل ليعيد للمشهد من جديد حوادث الاحتكاك بين المواطنين وقوات الشرطة التي توقفت مع تراجع حملات الإزالة خلال الفترة من سبتمبر 2019 إلى مايو 2020 لتعود مجددا مع حديث السيسي عن قانون التصالح. حيث يمس الأمر وترًا جوهريا لدى المواطنين، فهدم المنزل دون تقديم سكن بديل أو الإجبار على دفع غرامات باهظة أمر يستثير حنق المواطن الذي لم يعد لديه ما يخسره، وهو ما يدفعه دفعا للتصدي لحملات الإزالة.
وبنظرة شاملة على احتجاجات الشارع المصري، فمنذ الانتخابات الرئاسية عام 2018 ازدادت سطوة النظام واختفت المعارضة السياسية تدريجيًّا مع إنهاك أعضاء جماعة الإخوان على مدار السنوات السابقة، وهو ما أتاح للنظام فرض قرارات اقتصادية صعبة حملت المواطنين أعباء شديدة دفعتهم للخروج في عدة مشاهد للتعبير عن غضبهم المتراكم.
يظن البعض أن احتجاجات 20 سبتمبر 2019 التي دعا لها محمد علي هي الأولى من نوعها أو أن تكرار خروج المواطنين خلال سبتمبر 2020 هو الحدث الأهم.لكن قد بدأت كرة الثلج في التدحرج منذ فبراير 2019 عندما خرج المواطنين بدون ترتيب مسبق تعبيرًا عن حالة من الحنق والحزن الشديد بعد حادثة قطار رمسيس التي راح ضحيتها 21 مواطنًا. لم يراع النظام الرسالة التي وجهها الشارع المصري و استمر في فرض سياساته الجائرة تجاه المواطنين، والتي تناولناها في تقارير الحالة المجتمعية الدورية. فالشعب المصري لم يعد يتحمل الضغوط الاقتصادية والنفسية التي تمارس عليه. ومن ثم أصبحت الشرطة في خط المواجهة الأول مع الشارع المصري، وتنوعت سياساتها بين احتواء المواطنين و قمعهم عدة مرات خلال الفترة الماضية.
رغم القبضة الأمنية الشديدة، والحالة الصحية المقلقة لم تتوقف الاحتجاجات خلال تفشي فيروس كورونا في مصر، وهو ما ذكرناه في تقرير تناول تداعيات كورونا في مصر. فخروج المجتمع في احتجاجات أثناء تلك الظروف الصحية الخطيرة، ينبئ بـاقتراب لحظة انفجار المواطنين في أي وقت، وتعتبر احتجاجات سبتمبر أحد تلك الموجات التي قد لا تسفر عن تغيير في اللحظة الآنية، ولكن من المؤكد أنها تعطي جرس إنذار لكل المراقبين بـاقتراب انفجار الشعب المصري، وهو ما كشفه السيسي خلال خطاب له في 29 أغسطس حيث يستشف منه نُصح مستشاريه له بتجنب حالة الغضب التي يمر بها المجتمع.
ورغم ذلك، ذكر السيسي أن عدد مخالفات البناء يبلغ 700 ألف مخالفة، وشدد على عدم استجابته للنصائح المقدمة له بعدم الحديث في موضوع الإزالات باعتباره موضوعا شائكا، واشتكى من عزوف المواطنين عن شراء الشقق التي تبنيها الحكومة. وفي لحظة انفعال هدد بنزول الجيش إلى كل القرى لتنفيذ عمليات الإزالة قائلا إن أهل مصر بيدمروها وهم أعدى أعدائها. وخاطب المحافظين ومديري الأمن قائلا (من سيقول منكم إن عمليات الإزالة رأي عام ولن يقدر على تنفيذها أو يخاف من القيام بها يقول كده ويسيب منصبه إنما من يسكت فمعناه إنه موافق، وعليه أن ينفذ الأوامر). وفي الختام رحب السيسي بالبناء على الأرض الزراعية لكن بشرط البناء على الأراضي التي تسمح الدولة بالبناء عليها. كما خاطب السيسي وزير الدفاع شخصيا قائلا (اللي مش قادر يواجه مشاكل بلده يعمل إيه يا محمد..يسيب مكانه) وقد تلجلج محمد زكي في كرسيه خلال تلفظ السيسي بتلك العبارة، بينما قطب وزير الداخلية جبينه وتجهم عندما تحدث السيسي عن نزول الجيش للقرى.
وفي ظل تلك الأجواء برزت عدة حوادث تشير إلى زيادة الحنق المجتمعي وتحوله إلى فعل ضد النظام. فخلال شهر سبتمبر 2020 تصدى المواطنون لحملات إزالة منازل في قرية باسوس بالقليوبية، ورشقوها بالحجارة، فيما قطع أهالي الدويقة طريق الأوتوستراد للمطالبة بمنازل بديلة عن منازلهم المقرر هدمها، فيما صدم سائق حافلة عند نزلة قليوب الدائري ضابط مرور برتبة نقيب حاول توقيف السائق الذي لم يكن يحمل رخصة قيادة مما أدى إلى مقتل الضابط. فيما رشق باعة جائلون في سوق بالعاشر من رمضان قوة شرطة بزجاجات مولوتوف خلال سعيها لإزالة المخالفات بالسوق، وازدادت مقاطع الفيديو المصورة التي يعلن فيها مواطنون رفضهم لقانون التصالح وصولا إلى إعلان أحدهم نيته تفجير أنابيب بوتجاز في حملات الإزالة حال اقترابها من منزله. ثم اندلعت عدة احتجاجات يومي 19 و 20 سبتمبر 2020 مع دعوات أخرى باستمرار الاحتجاج وجاءت وفق التالي:
الاحتجاجات خلال 19 و20 سبتمبر 2020
مقارنة بين أحداث 20 سبتمبر 2019، و 2020
تكرر مشهد الاحتجاجات خلال20 سبتمبر مجددا بعد دعوات أطلقها المقاول محمد علي للتظاهر، ولكن وُجدت اختلافات بين احتجاجات العام الماضي والحالي منها بعضها إيجابي والآخر سلبي. فخلال عام 2019 كان التفاعل كبيرًا مع شخص محمد علي لعوامل كثيرة منها اللغة البسيطة التي يتحدث بها، وأنه وجه جديد على الساحة السياسية غير مرتبط بأطياف المعارضة التي لم يعد يثق بها الشارع المصري، علاوة على المعلومات الحصرية التي تحدث بها عن السيسي وحجم الفساد في الهيئة الهندسية.
خرجت احتجاجات عديدة في عام 2019 تجاوزت 25 احتجاجًا، وكانت أعداد المشاركين تقدر أحيانًا بالمئات والآلاف في الميادين الرئيسة بمحافظات مختلفة منها القاهرة، والجيزة، والسويس، والإسكندرية، مع وجود بعض المعلومات عن وجود تنسيقات في ترتيب الاحتجاجات بين عدة قوى سياسية مثل الاشتراكيين الثوريين، وجيل المستقبل المحسوبين على جمال مبارك، مع عدم تدخل الشرطة في بداية الاحتجاجات وهو ما ساعد في زيادة أعداد المشاركين.
بينما جاء عام 2020 بتفاعل أقل مع محمد علي فلم يكن هو المحرك الأساسي في الخروج للاحتجاج خصوصًا مع تكرار عدم الاستجابة لدعوات سابقة أطلقها منها دعوته للتظاهر في 25 يناير، و30 يونيو. فعلى مدار العام، وتحديدا خلال الشهور الثلاثة الأخيرة زاد حجم الغضب الشعبي تجاه السيسي؛ نتيجة اتخاذ النظام قرارات اقتصادية قاسية منها رفع سعر تذكرة المترو، وتخفيض وزن رغيف العيش، وآخرها وأكثرها خطورة قانون التصالح وحملات الإزالة التي مست العديد من الطبقات الاجتماعية. ولذا غلب على المشاركين في الاحتجاجات الحالية طابع البساطة وغياب البعد التنظيمي مع غياب التظاهرات في الميادين والشوارع الرئيسة أو بقلب القاهرة، علاوة على ضعف أعداد المشاركين.
خاتمة
توالي القرارات الاقتصادية الضاغطة زاد الحنق ضد النظام إلى أن جاء قانون التصالح وما رافقه من عمليات هدم للمنازل ليبدأ المواطنون في التصدي لحملات الإزالة بشكل مباشر. ويلاحظ أن التوتر أو الاشتباك مع الشرطة حدث في القرى أو المناطق الشعبية التي يوجد فيها تكاتف وتعاضد بين المواطنين. لكنها لم تمتد بعد إلى المدن الكبرى التي لها دور أكبر في صناعة المشهد العام. وكانت مشاركة الشباب صغير السن حاضرة بشكل لافت. ودور محمد علي تمثل في استغلاله لحالة الغضب الجماهيري وتوجيهها إعلاميا دون أن يتجاوز تلك المساحة.
سبق للنظام أن حاول التهدئة من تداعيات قانون التصالح عبر خفض الغرامات المقررة إلى 70% في بعض الأماكن، وتوحيد مبلغ 50 جنيها غرامة للمتر في القرى كما أعلن رئيس الوزارة مصطفى مدبولي مد مهلة التصالح إلى نهاية أكتوبر لكن لم تنجح تلك القرارات في نزع فتيل الأزمة . ومن ثم فمن المتوقع:
- في حال بدء النظام في تنفيذ تهديداته تجاه المنازل المخالفة بعد 30 سبتمبر (الموعد الأخير لمهلة التقديم على طلب التصالح) أن تزداد مساحة الاحتكاك بين الشرطة والمواطنين، وأن تحدث اضطرابات ومظاهرات واشتباكات.
- في حال تراجع النظام عن تهديداته تجاه المنازل المخالفة عبر مد فترة التصالح أو تخفيض المبالغ المقررة بشكل أكبر، فيمكن أن يمتص حالة الغضب بحيث يتمكن من تجنب حدوث اضطرابات. ولكن سيمثل ذلك تراجعا من السيسي شخصيا قد يشجع المواطنين مستقبلا على التظاهر ضد أي قرارات لا يرضون عنها باعتبار أن تلك هي الوسيلة المجدية مع نظام السيسي.
وإن نظام السيسي باعتماده للقبضة الحديدية في دعم تطبيق قرارات خفض الدعم الحكومي وزيادة الرسوم والضرائب يسعى لترسيخ معادلة خطيرة أشبه ما تكون بالقنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أي وقت. وإن الحراك الاحتجاجي الشعبي الذي يحدث كل فترة بالتوازي مع استنفار أمني مشدد ووضع اقتصادي متدهور، يثبت أن المراهنة على الشعب مازالت خيارا مطروحا، وأن الشعب يحتاج لمن يهتم بمشاكله ويتشارك معه همومه، ويسعى لرفع معاناته.
اضغط لتحميل الملف