مقدمة
في ظل الضغوط الأمريكية والغربية على النظام المصري لإجراء تحسينات في الملف الحقوقي ، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة بسبب تضخم حجم الديون المصرية بالتزامن مع تداعيات انتشار كورونا ثم اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما واكب ذلك من الإشارة إلى أن مصر ستكون من أكبر المتأثرين من تداعيات الحرب باعتبارها من أكبر المستوردين للقمح على مستوى العالم ، فضلًا عن تداعيات ارتفاع أسعار البترول الذي تستورد منه مصر 100 مليون برميل سنويًّا ، وتضخم أسعار الغذاء ، وهروب نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة المستثمرة في تجارة فوائد الديون المصرية، فأطلق النظام دعوةً للحوار الوطني في شهر إبريل لازالت تراوح مكانها حتى الآن.
أولًا: السياق الذي طُرحت فيه دعوة الحوار
خلال شهر إبريل، عقد السيسي 3 لقاءات محلية ذات أبعاد سياسية، بدأها بصلاته الجمعةَ 15 إبريل بمسجد المشير طنطاوي حيث التقى عـددًا مـن قـادة القوات المسلحة وناقش معهم الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية وتأثيرها على المنطقة، وبذلك بدأ السيسي لقاءات التوجيه بالقوات المسلحة بحيث خاطب قاعدته الأساسية قبل أن يخاطب أذرعه الإعلامية ثم عموم المجتمع.
وفي اللقاء الثاني اجتمع السيسي في 24 إبريل مع عدد من الصحفيين والإعلاميين (أبرزهم : ضياء رشوان ومحمد الباز ونشأت الديهي وأحمد موسى وكرم جبر وعماد الدين حسين ومصطفى بكري) لمدة ساعتين تطرق خلالهما إلى التداعيات الاقتصادية للأزمة الروسية الأوكرانية على مصر، وانعكاساتها على زيادة الأسعار، واستراتيجية الدولة للتعامل مع تلك التداعيات ، وجهود مكافحة الإرهاب والحفاظ على الهوية الوطنية وكيفية التناول الإعلامي والدرامي لتلك المواضيع ، كما تطرق إلى النمو السكاني وتأثيره السلبي على التنمية ، وكذلك استراتيجية الدولة للإصلاح الاقتصادي . ولكن لم يُنشر من الاجتماع سوى 19 دقيقة فقط قال السيسي خلالهم إن التحديات الموجودة في مصر أكبر من أي رئيس أو حكومة، وإنه لابد من التعاضد لمواجهتها ، وشدد على ضرورة تخفيض النمو السكاني ، ثم أشار إلى ضرورة إطلاق حوار سياسي يتناسب مع إطلاق الجمهورية الجديدة ، وفي المجمل سعى السيسي للتركيز على إنجازات نظامه ، وتحميل الشعبِ والأوضاع الدولية أسبابَ الأزمة الاقتصادية الحالية في محاولة للتنصل من مسئولية نظامه عن تردي معيشة المصريين.
ثم حضر السيسي إفطار الأسرة المصرية في 27 إبريل مع عدد كبير من المدعوين من بينهم العديد من أعضاء جبهة الإنقاذ مثل حمدين صباحي وخالد داوود. وقال السيسي خلال الإفطار إن الأزمات تراكمية وإن 2011 فتحت الباب لحالة من عدم الاستقرار ترتبَ عليها انتخابات غير مستقرة، جاءت بقوة غير جاهزة لقيادة دولة، وأكد أنه والحاضرين في مركب واحد ثم تطرق إلى مسلسل الاختيار وقال إن هدفه توثيق تلك المرحلة بأمانة، وأضاف إن التحديات كبيرة وحتى الفريق شفيق لم يكن ليستطيع مواجهتها، وإن الدول العربية هي التي ساعدت مصر على تجاوز الوضع، ولولاهم لم تكن لمصر قائمة حتى الآن.
وأضاف السيسي إن الإخوان طوال 90 سنة لم يتوقفوا عن التشكيك في المجتمع وإيجاد حالة من عدم الثقة، وأن ربنا نجَّى مصر من مصير حرب أهلية شهدته دولٌ أخرى، وإن الاستقرار والأمن والسلامة أهم من لقمة العيش لأن بدونهم يضيع كل شيء. وفي الختام أعلن عن عدد من الإجراءات من بينها خصخصة الأصول المملوكة للدولة بمستهدف 10 مليار دولار سنويا، ولمدة 4 سنوات، وإعادة تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسي، وتكليف إدارة المؤتمر الوطني للشباب بالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية، لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة، وأعلن حرصه على إطلاق حوار سياسي تُشارك فيه جميعُ القوى السياسية بدون استثناء أو تمييز.
حديث السيسي رسم صورةً بالتوجه نحو الإصلاح السياسي واستعادة تحالفه مع بعض مكونات جبهة الإنقاذ بهدف تخفيف الضغوط الخارجية عليه في الملف الحقوقي وتنفيس الاحتقان الشعبي المتزايد في ظل تدهور الوضع الاقتصادي، وهو ما وضع القوى السياسية أمام اختبار يتعلق بمدى تقبلها لأداء دور الكومبارس في مشهد الانفتاح السياسي المزعوم.
ثانيًا: دخول الأكاديمية الوطنية للتدريب على الخط
في 10 مايو أعلنت الأكاديمية الوطنية للتدريب المعروفة بتبعيتها لجهاز المخابرات العامة ، توليها مسئولية إدارة الحوار، وهو ما أثار جدلًا في الأوساط السياسية إذ اُعتبرت الخطوة دليلا على عدم جدية النظام في الحوار، ونشر مجموعة من المعارضين في الداخل والخارج بيانًا طالبوا خلاله النظام بتنفيذ عدة تدابير جادة لبناء الثقة من أبرزها وقف الاعتقالات ، والإفراج الفوري عن كافة المسجونين في قضايا تتعلق بالحريات ، ورفع الحجب عن مئات المواقع الإلكترونية ، ووقف تنفيذ عمليات الإعدام والمحاكمات العسكرية ، وهو ما لم يبدِ النظام استجابة له.
من جانبه رفض رئيس حزب الكرامة أحمد الطنطاوي تولي الأكاديمية مسئولية إدارة الحوار، ودعا لعقد انتخابات رئاسية مبكرة ، بينما أعلن عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان ، محمد أنور السادات ، في بيان نشره (عدم رضاه عن إسناد تنظيم وإدارة جلسات الحوار الوطني لبعض المؤسسات الشبابية التي تنتمي وتُدار بمعرفة أجهزة بعينها ، وأبدى تخوفه من أن تكون جلسات الحوار مجرد كرنفال) ، وهو ما يشير إلى انزعاج السادات من استبعاده من ترتيبات الحوار الوطني رغم أنه لعب دورًا جوهريًّا في تجميل وجه النظام داخليا وخارجيا في الملف الحقوقي خلال السنوات الماضية.
وعقب تلك المواقف، أصدرت مجموعة الشركة المتحدة للإعلام التابعة للمخابرات العامة، تعليمات لمديري برامج قنوات المجموعة، بمنع تغطية أي أخبار عن طنطاوي والسادات رفقة آخرين، وعدم استضافتهم في البرامج التلفزيونية.
وبحلول نهاية مايو، لم يفرج النظام سوى عن 52 شخصًا أغلبهم من التيارين اليساري والناصري، فيما لم يُنفَّذ العفو الرئاسي الذي تحدث أفراد لجنة العفو عن صدوره قبل عيد الفطر، والذي زعم عضو لجنة العفو طارق العوضي أنه سيشمل 1074 شخصًا.
وقد لوحظ ترحيب الجماعة الإسلامية دون أي شروط بدعوة الحوار التي أطلقها النظام، وذلك رغم أن النظام سبق أن حل حزبها السياسي، وأضاف قادته لقوائم الإرهاب. وقد تزامن ترحيب الجماعة بالحوار مع رفع واشنطن لاسم الجماعة رفقة 4 جماعات أخرى من القائمة الأمريكية للتنظيمات الإرهابية، وذلك في ظل توقف الجماعة عن ممارسة العمل المسلح منذ 25 سنة.
وتزامن مع تلك التطورات في مايو الحكم بسجن المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح 15 عاما بتهمة نشر أخبارٍ كاذبة، فضلا عن الحكم غيابيًّا بالسجن لمذيع الجزيرة أحمد طه لاستضافته (أبو الفتوح) في لقاء تلفزيوني، وهو ما يتضاد مع مسار الحوار الوطني.
ثالثًا: صراع الأجنحة يظهر للعلن
بحلول شهر يونيو واقتراب الموعد المقترح لبدء الحوار الوطني مطلع شهر يوليو، ازداد الجدل المصاحب له ، وبرزت مؤشرات على صراع بين الأجهزة الأمنية حول إدارة هذا الملف بجوار ملف الإفراج عن السجناء السياسيين ، وهو ما عبر عنه بكل وضوح الوزير السابق وعضو لجنة العفو الرئاسي كمال أبو عيطة قائلا (توجد وجهتا نظر من الجهات المعنية بالدولة ، الأولى تتبنى الإفراج عن المحبوسين ، والثانية تريد الاستمرار في التوسع بالاشتباه والقبض على المواطنين ، وصولا إلى القبض على أعضاء في لجنة العفو نفسها.. الصراع بين التيارين هو المتسبب في بطء وتيرة الإفراجات)، فيما ظهر خالد أبوبكر مع نشأت الديهي ليؤكد على ضرورة حضور جهاز الأمن الوطني للحوار.
وحتى الآن يبدو أن المخابرات العامة تمسك بملف الحوار الوطني حيث أوكلت الإشراف الإداري على مجرياته إلى الأكاديمية الوطنية للتدريب ، كما عينت ضياء رشوان رئيس هيئة الاستعلامات المقرب من المخابرات العامة كمنسق عام للحوار والمستشار محمود فوزي الأمين العام للمجلس الأعلى للإعلام كرئيس للأمانة الفنية للحوار، فيما شملت قائمة أمانة الحوار 19 شخصا من بينهم اثنين فقط من خمسة أشخاص رشحتهم الحركة المدنية الديموقراطية[1]، وهي خطوة لا تلبي شرط الحركة المدنية الديموقراطية بأن تتشكل الأمانة من 10 أشخاص يمثل 5 منهم المعارضة و5 من النظام ، وهو ما يحمل رسالة من النظام بأنه لن يخضع لشروط أحد ، وأنه هو الذي يحدد شكل وحجم وتفاصيل الحوار.
وقد ردت “الحركة المدنية الديموقراطية” برفضها اختيار رشوان وفوزي كمنسق عام ورئيس للجنة الحوار وترشيحها للقيادي اليساري د. محمد غنيم كأمين عام للجنة الحوار، ولكن يُحتمل حدوث انقسامات داخل الحركة المذكورة في ظل حرص العديد من مكوناتها على المشاركة في الحوار بدون سقف الشروط المرتفع الذي يضعه أحمد طنطاوي وآخرون ، وهو ما ظهرت بوادره في يوليو مع إعلان رئيس حزب الكرامة أحمد طنطاوي عزمه الاستقالة من منصبه في ظل مواجهته لتيار معارض داخل حزبه يرى أن طنطاوي يورط الحزب في مواقف تصعيدية ، بينما يرى طنطاوي أن قيادات الحزب تساهم في تبييض وجه السلطة ، كما يدفع باتجاه عدم المشاركة في الحوار الوطني لعدم جدية السلطة وتعنتها في الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
من جانبه أصدر رئيس حزب الإصلاح والتنمية ، وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان ، محمد أنور السادات بيانا ثانيًا ندد خلاله باستبعاده من المشاركة في الحوار، وحظر ظهوره في وسائل الإعلام ، قائلا إنها بداية غير مشجعة وغير موفقة للحوار، وعزا ذلك لاختلافه مع سياسات السيسي والأجهزة الأمنية بخصوص مسار الحوار، وصعد السادات من لهجته عبر طرحه لعدة مطالب من أبرزها إنهاء الاحتكار الاقتصادي لشركات القوات المسلحة والشركات المملوكة لجهات سيادية ، ولوحظ أن السادات استبعد من ملف الحوار منذ الحوار الذي نشره معه موقع مدى مصر ثم حذفه بناء على طلب السادات ، حيث كشف الأخير خلاله تفاصيل الكواليس بشكل محرج للنظام.
رابعًا: اللغط حول مشاركة الإخوان
وفي ظل تلك الأجواء، أعلن عضو “الحركة المدنية الديموقراطية” ورئيس حزب المحافظين أكمل قرطام تأسيس التيار الحر برئاسة عمرو موسى، وعضوية محمد السادات، ودعا لعودة الإخوان المسلمين والمصريين الموجودين في الخارج للمشهد السياسي ، وهو ما تزامن مع إعلان ضياء رشوان ترحيب عمرو حمزاوي وعصام حجي بالمشاركة في الحوار رغم نفي الأخير. وتنبع بعض جوانب أهمية قرطام من قرابته برجل الأعمال صلاح دياب والسفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة، وهو ما فُهم على أنه محاولة لفتح خط علني مع الإخوان، لكن سُرعان ما قدُمت بلاغات في قرطام للنائب العام.
وقد لوحظ أنه بعد تأكيد عضو لجنة العفو طارق الخولي على استبعاد الإخوان المسلمين والمحسوبين عليهم من العفو حتى من لم ينخرط منهم في عنف حسب زعمه ، وحديث منابر النظام الإعلامية عن استبعاد الإخوان من الحوار الوطني ، فقد تغيرت لهجة بعض أعضاء لجنة العفو وبعض السياسيين عقب زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لمصر، إذ تحدث طارق العوضي عن الترحيب بمشاركة أعضاء الإخوان ممن لم ينخرطوا في أعمال عنف حسب تعبيره ، وهو ما يتسق مع ما أشار له موقع مدى مصر بأن موضوع المصالحة مع الإخوان كان ضمن أجندة زيارة بن سلمان الذي يسعى لاستباق مساعي الإمارات للدخول على خط إعادة دمج الإخوان في ظل الاستعداد للتصعيد ضد إيران ، كما أشار الموقع المذكور إلى وجود تواصل بين بعض المقربين من أ. يوسف ندا وأجهزة في الدولة.
خامسًا: انعقاد مجلس أمناء الحوار الوطني في يوليو، ومقترح لتفريغ الحوار من مضمونه
انعقدت في يوليو الجلسة الأولى لمجلس أمناء الحوار الوطني المكون من 19 شخصا، ورغم حديث ضياء رشوان عن أنه لن تكون هناك (جلسات سرية ولا سقف للنقاش) فقد انعقد المجلس 4 ساعات في جلسة مغلقة مُنع الصحفيون من حضورها لمناقشة لائحة مجلس الأمناء والخطوات اللاحقة. كما لم يتحدد حتى الآن موعد لبدء جلسات الحوار المنتظر. فيما أكد رشوان على أنه لن يحضر جلسات الحوار (كل من مارس عنف أو حرض عليه أو شارك فيه أو هدد به، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان) وهو تصريح أعقب تأكيد السيسي بنفسه على تلك الرسالة، وهو ما قد يكون بمثابة رد على بعض الأطراف الإقليمية التي عرضت الوساطة بين النظام والإخوان.
وأخيرا ظهر في شهر يوليو توجه من أحد الأجهزة الأمنية وفقا لعضو الحركة المدنية الديموقراطية وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة مصطفى كامل السيد يدعو (إلى تعميم فكرة الحوار الوطني بكل المحافظات لتفريغ الفكرة من مضمونها وعدم التوصل إلى توصيات محددة يكون على الرئاسة الاستجابة لها).
محصلة ثلاثة شهور
في الختام، فبحلول منتصف يوليو لم يُفرج عن الألف معتقل الموعود بالإفراج عنهم قبل عيد الفطر الماضي، ولم يُحدد موعد لانعقاد جلسات الحوار الوطني، واستمر القبض على مواطنين جدد، فيما تتواصل الشكاوى من داخل السجون بخصوص سوء المعاملة وعدم توافر الرعاية الطبية، ويبدو أن النظام يتخوف من أن تقديم خطوات إيجابية في الملف الحقوقي قد يدفع باتجاه المطالبة بخطوات أخرى إضافية، وبالتالي يكتفي بالحديث عن الحوار الوطني دون أن يدفع باتجاه انعقاد الحوار بشكل سريع وجاد.
ويبدو أن ملف الحوار الوطني يرتبط بتحسين صورة النظام لدى واشنطن قبيل قمة المناخ المقرر عقدها في نوفمبر القادم بمصر حيث تأمل القاهرة بحضور بايدن ولقائه بالسيسي مجددا بشكل منفرد بعد لقائهما الأخير في قمة جدة، فضلا عن الدافع المحلي المتمثل في امتصاص نقمة الشارع تجاه الأوضاع الاقتصادية المتدهورة عبر الإيحاء بأن النظام قرر فتح المجال العام، لكن تقف بعض الأجهزة الأمنية كحجر عثرة أمام تسريع خطوات الحوارأو الإفراج عن المعتقلين.
وفي النهاية يمكن الاستفادة من أي مساحة انفراج في المشهد عبر تقليل أعداد المعتقلين وزيادة مساحة التسييس التي سترفع سقف المطالب الإصلاحية، وهي مساحة لا يجيد النظام الحالي اللعب فيها، وستؤدي إلى تفاقم الخلافات بين مكوناته، وزيادة الضغوط المطالِبة بمزيد من الإصلاحات ، وهو ما يدركه النظام ، ولذا يحاول تفريغ الحوار من مضمونه.
اضغط لتحميل الملف