انقلاب تونس بين الضغوطات الإقليمية والأزمات الداخلية
ملخص
- يمكن أن نصف بيان قيس سعيد وما حدث بأنه انقلاب دستوري مثل انقلابات بورقيبة وبن علي تاريخيا.
- يعتمد قيس سعيد في خطابه على أنه مستقل ويحاول الإصلاح لكن الأحزاب تعوقه عن عملية الإصلاح، في المقابل تعاني حركة النهضة والأحزاب عموما من صورة سلبية ومشوهة.
- الأهداف الرئيسية من الانقلاب هو إزاحة حركة النهضة من السلطة التشريعية وتقليل حضورها، ورغبة قيس سعيد في الانفراد بالسلطة. ويرجح أن ينعكس الانقلاب في عدة ملفات مثل الملف الليبي وتقويض الحضور التركي في ليبيا وذلك بدعم إقليمي فرنسي إماراتي سعودي مصري، وبموافقة أمريكية.
- استنتاج: يمكن القول إن الهدف الرئيسي لحركة النهضة يتمثل في الخروج الآمن من السلطة دون تحول المشهد إلى عنف واعتقالات كالذي حدث مع الإخوان في مصر. وهو خيار تدعمه كلٌ من ألمانيا وأمريكا.
- يمتلك قيس سعيد زمام المبادرة ضد حركة النهضة، لكن قوات الجيش وهيئة الأركان لا توجد عندها رغبة بالانخراط في مواجهات دموية. لكن يمكن أن تنخرط قوات مكافحة الإرهاب ووزارة الداخلية في قمع النهضة.
- لم تعلن العديد من مكونات المجتمع المدني تأييدها الصريح لقيس سعيد بل إن هيئة الانتخابات وجمعية القضاة التونسيين انتقدوا بعض الأمور ورفضوها وطالبوا بخريطة طريق واضحة لا تتجاوز 30 يوما، وحل الأزمة عبر الاحتكام إلى الشرعية الدستورية واحترام متطلبات النظام الديمقراطي.
- ويبدو أن النهضة ستقبل ضمنيا قرارات قيس سعيد مقابل استعادة الحياة السياسية خلال فترة وجيزة دون أن تخوض مواجهات ضد قيس سعيد.
مقدمة
مثلت زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد لفرنسا يوم 22 يونيو 2021 نقطة تحول في الشأن الداخلي، حيث ساهمت تلك الزيارة في نقل مستوى التفاهمات إلى صراع مبطن بين حركة النهضة من جهة وقيس سعيد من جهة أخرى. مع ارتفاع التنافس والصراع الإقليمي في ليبيا بعد تدخل تركيا في فك الحصار عن طرابلس بدأت فرنسا ومصر والإمارات بزيادة الضغط الإقليمي والدولي ضد الإسلاميين في تونس وحركة النهضة على وجه الخصوص. ومع ظهور موقف حركة النهضة من حصار طرابلس بدأ محور الثورات المضادة بوضع تونس على قائمة أولوياته من أجل إسقاط حركة النهضة من الحكم ثم القضاء على الثورة التونسية بالرغم من أن المحاولات السابقة في عهد الرئيس السابق السبسي وقبله منصف المرزوقي باءت بالفشل بسبب عدم تجاوبهم مع محور الثورات المضادة إلا أن قيس سعيد مثل فرصة كبيرة لهم واستطاعوا الدخول بشكل أكثر تنظيما من قبل مستغلين المشكلات الداخلية الناتجة من سحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ والمشكلات الخارجية بالإشارة إلى أن الغنوشي تعدى على صلاحيات الرئيس في ملف ليبيا.
وأخذت الأزمة تتعمق مع زيارة الغنوشي لأردوغان في يناير 2020، ومع تصاعد الأزمة بين حركة النهضة وقيس سعيد لجأ الأخير إلى مصر واجتمع بالسيسي في إبريل 2021 وصرح قبل توجهه إلى القاهرة بأن تونس بحاجة إلى برلمان محترم. وفي 25 يوليو مساء أصدر قيس سعيد بيانا جمد فيه البرلمان وأمر الجيش بغلقه وحل الحكومة بعد احتجاز رئيس الوزراء هشام المشيشي في قصر الرئاسة وقال إنه ضمن صلاحياته الدستورية التي نصت عليها المادة 80. بعد تلك القرارات أصدرت حركة النهضة بيانا أعلنت فيه رفضها لإجراءات قيس سعيد واصفة إياها بالانقلاب، وذهب الغنوشي للبرلمان داعيا أنصاره للاحتشاد هناك لكن منعه الجيش من الدخول، ووقعت اشتباكات محدودة بين مؤيدي قرارات قيس سعيد ومعارضيه. اتخذ الغنوشي قرارا بتعليق المظاهرات حول مقر البرلمان قبل حظر التجوال. وسبق أن عرض موقع ميدل ايست أي وثائق مسربة عن تحضير قيس سعيد لانقلاب.
سنعرض في المحاور التالية المشهد الداخلي والتكتلات السياسية والحزبية ونقاط الخلاف بين الغنوشي وقيس سعيد، والمحددات السياسة الإقليمية وأهداف الأطراف الإقليمية. كما سنوضح نموذج العلاقات المدنية العسكرية حتى يمكن فهم موقف الجيش والأجهزة الأمنية في الأزمة الحالية وننتهي بتقدير موقف.
نموذج العلاقات المدنية العسكرية في تونس ودور الجيش في الشأن السياسي
في عام 1962 فشل انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط المنتمين للجيش التونسي ضد بورقيبة، شارك نحو أربعين ضابطا تونسيا في التحضير للانقلاب، وهم ضباط موالون لصالح بن يوسف المنافس السياسي لبورقيبة وقتها، وبعد فشل المحاولة أعدم بورقيبة 11 شخصا بينهم 5 ضباط.
أصر بورقيبة على إرسال ضباط الجيش للتدريب في فرنسا أو في ويست بوينت بالولايات المتحدة وليس في مصر أو العراق أو بالكليات العسكرية السورية، على أمل أن تصبح عقيدة الضباط التونسيين عقيدة غربية وأن ينشئوا على فكرة أن الجيش يخضع للسلطات المدنية، وأن يبعدهم عن نماذج جيوش دول العالم الثالث. دعا الضباط التونسيون مرارًا بورقيبة إلى تعزيز الجيش وتقويته، وهو ما كان يرفضه بورقيبة متعللا بأن تونس لديها القليل من الموارد، وقال إن الأولوية هي في التنمية الاقتصادية وبناء المدارس والجامعات، وكان يرى بورقيبة أن صداقة فرنسا والولايات المتحدة والمحور الغربي هي الضمانة الفعلية لاحتياجات الأمن القومي التونسي، وأنه لا داعي لإهدار المال على المدفعية والدبابات. وبالرغم من ذلك فقد وجد أن معظم الضباط المشاركين في محاولة الانقلاب خريجون من أكاديمية عسكرية فرنسية.
عند تأسيس الحرس الوطني (الحرس الجمهوري) سنة 1957 كان جزءا من القوات المسلحة، وبعد الاستقلال بفترة قصيرة فصل بورقيبة الحرس عن وزارة الدفاع ونقل تبعيته إلى وزارة الداخلية من أجل تقييد التعاون بين وزارة الدفاع والحرس الوطني، وقام بتوسيع تعداد الحرس ليصل إلى ثلث القوات المسلحة وزودهم بمعدات عسكرية وأجهزة اتصالات متطورة عن القوات المسلحة.[1] وأعطى الشرطة صلاحية في كتابة التقارير عن القوات العسكرية، ووسع نفوذ المخابرات الحربية في مراقبة القوات المسلحة وذلك حتى انقلاب بن علي على بورقيبة في 1987.[2]
وفي عام 1987 نفذ رئيس الوزراء آنذاك زين العابدين بن علي[3] “الانقلاب الطبي” على بورقيبة بعد أن قدم سبعة أطباء تونسيين تقريرًا اعتبروا فيه أن الرئيس لم يعد يتمتع بصحة جيدة. وقد وعد بن علي قيادات الجيش بأن يعيد النظر في موازنة الجيش وأن يوسع امتيازاته، لكنه أطاح بهم لاحقا.
كل ما سبق الإشارة له من معطيات كان له دور في تحجيم نشاط الجيش في الشأن العام، تاريخيا لم يشارك الجيش في قمع المظاهرات أو الشعب باستخدام القوة وهناك ثلاثة أحداث يمكن استخدامهم كمؤشر على مشاركة الجيش تجاه الاحتجاجات الشعبية:
- انتفاضة الخبز سنة 1984 لم يتورط الجيش في قمع المظاهرات فيما قمعت قوات الداخلية التظاهرات برغم نزول قوات الجيش.
- في أحداث ثورة تونس وهروب بن علي، كشفت لجنة تحقيق مستقلة أن بن علي أعطى (قبل سقوط نظامه) أوامر للجيش بقصف “حي الزهور” بمدينة القصرين بقنابل المدفعية لقمع المتظاهرين لكن الجيش رفض تطبيق أوامره.
- مظاهرات اقتحام محطة ضخ بترول وقطع طرق في مدينة تطاوين في مايو 2017 رفضت قوات الجيش استخدام القوة ضد المتظاهرين بعد حرق مراكز للشرطة ومقتل أحد المتظاهرين.
انقلاب قيس سعيد الدستوري
الانقلاب الحالي هو انقلاب دستوري بالمقام الأول قد يتحول لاحقا إلى تصعيد دموي ومواجهات في حال قررت حركة النهضة المواجهة أو ضغطت القوى الإقليمية في هذا الاتجاه. تاريخيا سبق وقام بورقيبة بعمل انقلاب دستوري مع محمد الأمين باي وكذلك قام به بن علي مع بورقيبة (الانقلاب الأبيض)، وفي الانقلابيين رحب بهما الشعب وقتها.
استند قيس سعيد على الفصل 80 من الدستور، وقال إنه ليس انقلابا، ولكن عند الرجوع إلى المادة 80 من الدستور لن نجد (إعفاء رئيس الحكومة، بل إن إعفاء الوزراء حصري لرئيس الحكومة – لا يوجد تجميد برلمان بل “حالة انعقاد دائم” – النيابة العمومية مستقلة و ليس من اختصاصه ترؤسها) كما أن غلق مكتب قناة الجزيرة وقطع بث قناة العربي يعد انتهاكا للدستور والقانون. وكان سبب غلق مكتب الجزيرة هو رصد مكالمة بين الغنوشي مع المكتب والتنسيق بينهما على إرسال عربة بث حي ترافق الغنوشي عند البرلمان لإثبات الحالة وإظهار اعتداء قوات الأمن على البرلمانيين والبرلمان لوضع قيس سعيد في موقف سلبي أمام الجمهور. فيما وافق المشيشي لاحقا على الإعفاء من منصبه بعد أن قال له قيس سعيد إما أن توافق أو أعلن قائمة بالمخالفات الكبيرة التي قمت بها وأحولك إلى القضاء.
أوزان وتوجهات الأطراف والتكتلات السياسية في تونس
ديموغرافيا، يتمركز ثقل العلمانيين في مناطق الساحل من تونس وهي المناطق التي يتمتع فيها رجال الأعمال المرتبطين بفرنسا والنظام السابق بثقل كبير، وكلما اتجهنا إلى الجنوب زاد الدعم الشعبي لحركة النهضة وانحسر عن الثورة المضادة وفرنسا حيث يمثل الجنوب كتلة شعبية كبيرة داعمة للنهضة والإسلاميين، وهي تاريخيا منطقة مثلت إزعاج لبن علي وبورقيبة بخلاف أن سكان تلك المناطق كانوا يدعمون المقاومة في الجزائر تاريخيا. وتتشكل الكتل النيابية على النحو التالي:
- كتلة حركة النهضة (54 كرسيا) وهي الكتلة الأكبر في البرلمان، استطاع الغنوشي الفوز برئاسة البرلمان بالرغم من عدم امتلاكه الأغلبية المطلقة (109 كرسي)، وذلك بسبب تنافر المكونات الحزبية والكتل السياسية أيديولوجيا وموقفهم من الثورة، وتلعب فرنسا دورا مهما في تلك المعادلة كما سنوضحه في الفقرات التالية.
- الكتلة الديموقراطية (38 كرسيا) وهي كتلة يسار قومي، تؤيد بشار الأسد كتوجه قومي وتنتقد السيسي في انتهاكات حقوق الإنسان في نفس الوقت، وهي أكبر كتلة ضد حركة النهضة والغنوشي وتتزعمها المحامية سامية عبو وزوجها المحامي محمد عبو، وهي كتلة تجمع التناقضات في المواقف الأخلاقية، وهي تقدم دعمًا لقيس سعيد، وتتمتع تلك الكتلة بصلة غير مباشرة مع (اتحاد الشغل) والنقابات العمالية بسبب الدعم الذي كان يقدمه المنتمون لتلك الكتلة.
- كتلة قلب تونس (27 كرسيا) يتزعمها نبيل القروي الذي خسر أمام قيس سعيد في انتخابات الرئاسة، وتضم عددا من رجال الأعمال البراغماتيين ذوي التوجهات الليبرالية وبقايا من شتات حزب نداء تونس حزب الرئيس السابق الباجي السبسي، ويحظى الحزب حاليا بتنسيق مع حركة النهضة التي تسبقه في الترتيب البرلماني من حيث عدد المقاعد، وتشدد النهضة على ضرورة مشاركته في الحكومة من باب (التوافق الوطني) وتجنب ما تسميه الحركة الإقصاء وهو موقف ترفضه كتل نيابية أخرى. كما يحظى رئيس الحزب ورجل الأعمال والإعلام نبيل القروي الحاصل على الجنسية الفرنسية بدعم فرنسي لا بأس به لتعاقداته المالية مع مؤسسات فرنسية كبرى.
- كتلة ائتلاف الكرامة (19 كرسيا) يتزعمها سيف الدين مخلوف محامي حقوقي، ويعتبر الائتلاف اسلامي التوجه وضد فرنسا، وكذلك ضد رجال الأعمال الفاسدين بشكل كبير، وهم أقرب لنموذج (الشيخ حازم أبو إسماعيل في مصر) وهي تقف مع النهضة بوجه عام في التحركات ضد قيس سعيد والكتلة الديموقراطية والحزب الدستوري.
- كتلة الحزب الدستوري (16 كرسيا – انخفض إلى 13) تتزعمها عبير موسى وهي معبرة عن توجه بن علي وضد الثورة وتتلقى دعما ماليا كبيرا من الإمارات وتقوم قناة العربية وسكاي نيوز بترميزها بشكل كبير، عرقلت عبير العديد من جلسات البرلمان وتعمدت إثارة المشكلات به، وتقوم معظم الكتل بمهاجمتها بشكل كبير وهي لا تحظى بدعم شعبي، بل تتعرض لانتقادات واسعة. وبالرغم من توافق الكتلة الديموقراطية مع عبير موسى في التوجه إلا أنها رفضت التوقيع على بياناتها.
(سعت عبير موسى إلى وقف عمل البرلمان والتقليل من هيبته أمام المواطنين عبر افتعال العديد من المشكلات مع النواب خاصة كتلتي النهضة والكرامة ومحاولة جرهم لممارسة العنف واستخدام مصطلحات أخونة الدولة وهوية الدولة والإرهاب والتكفير واستطاعت أن تدفع العديد من النواب إلى مهاجمتها) وقد استطاعت أن تقلل من قيمة المؤسسة عند المواطنين مستغلة معاناتهم من أزمات اقتصادية حادة.
- كتلة تحيا تونس (11 كرسي) وهي الكتلة التي يمثلها يوسف الشاهد رئيس الوزراء السابق والذي كان ضمن تحالف نداء تونس الذي كان يقوده السبسي، وقد حاولت السعودية استمالته بشكل كبير خلال فترة إدارته للحكومة وتحريضه ضد حركة النهضة، لكن لم تنجح تلك الخطوة بسبب الخلافات بين مكونات تحالف نداء تونس وخاصة بين ابن الرئيس السبسي حافظ ويوسف الشاهد.
أما اتحاد الشغل( نقابة عمالية)، يمثل أحد المكونات الرئيسية في تحريك العمال والشارع التونسي وهم يتلقون دعما ماليا كبيرا من فرنسا وحاليا من الإمارات، ويحظى اتحاد الشغل بتأييد شعبي وعمالي خاصة من الطبقات الفقيرة، وقد سبق ونظم أكثر من إضراب عام ناجح خلال سنة واحدة، لكن بسبب المواقف المتعلقة بالثورة والتي كانت فارقة بشكل كبير عند الشارع التونسي كيوم التنحي وعدم الدعوة للتظاهر ضد بن علي والاكتفاء بوقفة احتجاجية آخر يوم قبل رحيله، وكذلك دعم القروي ضد قيس سعيد وغيرها من المواقف ضد الثورة بوجه عام والإسلاميين بشكل خاص، أخذ ذلك الدور والتأثير في الشارع يتراجع مع الوقت لكن مع عدم اختفائه سواء في مناطق العلمانيين أو الإسلاميين . ويمكن القول أن اتحاد الشغل يمثل أقوى الكيانات المؤثرة في الشارع والقادرة على الحشد الجماهيري بالمقارنة مع الحركات والأحزاب الأخرى.
ومن المهم أن نشير إلى ملاحظة وهي أن حركة النهضة بوجه عام تتجنب حشد أعضائها وأنصارها على الأرض إلا في المواقف الفارقة من أجل إيصال الرسالة بحسب السياق وذلك لتجنب صناعة استقطاب في الشارع خاصة أن القوميين واليساريين أصحاب توجه عنيف حيث تشارك مجموعات من اليسار في القتال مع بشار الأسد في سوريا تحت شعار القومية العربية والناصرية وهم شديدو التطرف تحت مسمى “كتيبة الشهيد الإبراهيمي” الذي تم اغتياله خلال سنة 2013 وبالرغم من أن الأمر معروف ومتداول على مواقع التواصل الاجتماعي إلا أن وزارة الداخلية لم تعتقلهم أو تحقق معهم ما يدفع إلى تعزيز مقولة أنه يوجد تنسيق مع الداخلية، ولم تقم وزارة الداخلية باتخاذ أي مواقف ضدهم على الرغم من وجود أصوات تطالب باعتقالهم.
كان من الممكن أن تسهم عملية اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي أحد أهم رموز التيار اليساري إلى إدخال تونس في صراع واقتتال داخلي يتبعه حملات شرسة ضد الإسلاميين وحركة النهضة كالحملات التي قام بها بن علي في التسعينات بعد نجاح الإسلاميين واتهامهم بالتخطيط بانقلاب عسكري عبر أعضاء لهم في الحرس الجمهوري ووزارة الدفاع.
ساهم تراجع حركة النهضة في تصدر الحكومة بالرغم من قدرتها على تشكيل الحكومة نقطة مهمة في احتواء الوضع الداخلي مع بداية دخولها البرلمان، وقد سبق وتبنت حركة النهضة سياسة الخطوة للخلف وتوسيع الخلافات بين ائتلاف نداء تونس وهو ما أثبت لاحقا نجاح تلك السياسة بالرغم من تراجع شعبية النهضة، وهو ما كانت تحاول أن تقوم به في الحكومتين الأخيرتين حيث استطاعت احتواء المشيشي بالرغم من ترشيح قيس سعيد نفسه.
حضور قيس سعيد على مواقع التواصل الاجتماعي وانتشار الإشاعات الممنهجة ضد النهضة
اعتمد قيس سعيد على التواصل المباشر والسهل مع الشباب خلال حملته الانتخابية وإجراء الحوارات مع الرموز الشبابية وانتقاده الشديد للأحزاب السياسية ودورها في فساد المناخ السياسي وعرقلة عملية الإصلاح والتخلص من رموز بن علي من داخل المؤسسات، وهو ما لاقى تفاعلا جيدا من الشباب، وقد أسهمت الحملات التي أطلقها المؤيدون له في صفحات الفيس بوك إلى نجاحه وخلق تأييد واسع له في الأوساط الشابة حيث كانت تصفه (بالنظيف) في المقابل تصف الأحزاب (بالفاسدة)، في حين كانت معظم الكتل السياسية والحزبية ضعيفة التأثير في مواقع التواصل الاجتماعي.
انتشرت العديد من الإشاعات ضد حركة النهضة منذ توليها للحكومة حتى أصبحت (حقيقة) عند قطاعات من الشباب منها: (ملكية حمادي جبالي لسلسة سوبر ماركت “عزيزة” – امتلاك علي العريض مصنع مواد بناء – امتلاك سمير ديلو ليخوت – حصول رفيق عبدالسلام على هبة صينية تقدر بمليون دولار فضلا عن اتهامه بعلاقات مشبوهة مع نساء). وقد أثارت مسالة اقتراح قانون بدفع تعويضات للمعتقلين من حركة النهضة خلال فترة بن علي غضب الشارع وتم تداول الأمر بشكل واسع على الفيس بوك بشكل سلبي خاصة أن البلد تمر بالعديد من الأزمات الاقتصادية الحادة، كما لعبت منظمة (أنا يقظ) دورا أساسيا في عملية “مكافحة الفساد” مع التركيز على حركة النهضة فقط.
أزمات اقتصادية مجتمعية وصورة سلبية لوزارة الداخلية
يعد الاقتصاد هو العامل الرئيسي خلف الاحتجاجات الأخيرة التي انطلقت في عدة مدن، وعجز الحكومة عن توفير فرص عمل للمواطنين ودعم الطبقات الفقيرة، فالاعتداءات الأخيرة على مقرات حركة النهضة شملت أيضا مناطق كتلتها الكبرى حيث حرق مكتب الحركة في مدينة جربة بمحافظة مدنين في الجنوب، ينظر قطاع من المواطنين إلى قيس سعيد على أنه شخص يرغب في إرجاء إصلاحات لكن الأحزاب السياسية تمنعه من ذلك، وقد شارك سكان المناطق المهمشة اقتصاديا وعلى وجه الخصوص أبناء الأحياء الشعبية في العاصمة (حي التضامن وسيدي حسين) باحتجاجات سابقا واشتبكوا مع الأمن. وقد ساهم اتحاد الشغل في خلق مناخ من الإضرابات وشل العديد من القطاعات الحيوية خلال الفترة السابقة تسببت في صناعة حالة استياء عام عند المواطنين.
شهدت الساحة عدة انتهاكات تفاعل معها الشعب التونسي وتعطفوا مع الضحايا وانتقدوا فيها وزارة الداخلية بشكل كبير، حيث تم الاعتداء من قبل منتمين للداخلية على شاب صغير في عمر 15 عاما بتجريده من ثيابه والاعتداء عليه، وقد غرق أحد الأطفال المشجعين بعد ملاحقته من قبل قوات الأمن عقب انتهاء إحدى مباريات كرة القدم وإجباره على القفز في قناة مياه بينما كان يصرخ لا أعرف السباحة ورد عليه الأمن تعلم العوم. وانتشرت تلك المقاطع على مواقع التواصل الاجتماعي.
التدخلات الإقليمية في تونس
تعتبر تونس حالة رمزية في الإقليم وهي غير محركة للسياسة الإقليمية بالمقارنة مع الجزائر التي تمثل قلب المنطقة، ومن خلفها فرنسا التي تقوم بوضع السياسات العامة وتوجيهها مع كل من الجزائر وتونس. ظهر ذلك بشكل واضح عندما لم تُدعَ تونس في مؤتمر برلين الخاص بليبيا وجرى تجاهلها بشكل واضح.
تمثل تونس حالة الرمزية والنجاح الثوري والتحول الديموقراطي عند معظم النخب الثورية وهي حالة مزعجة لمحور الثورات المضادة وفرنسا، وقد سبق وحاولت أطراف إقليمية التدخل لزعزعة الأوضاع داخليا من خلال عدة عمليات اغتيال لرموز ثورية يسارية كانت تهاجم الفساد بشكل كبير وعلى رأسهم شكري بلعيد وذلك في فبراير 2013 التي يرجح أن يكون للإمارات وفرنسا دور فيها، لكن التماسك والتوافق حال دون تحول تلك العمليات لحالة صراع داخلي، واستطاع المنصف المرزوقي الرئيس السابق كشف حركة انقلاب كانت على وشك التنفيذ من قبل مجموعة من قيادات بوزارة الداخلية، وقام السبسي من بعده بتبني سياسة الحياد إقليميا وداخليا، وقد حاولت الإمارات دفع أحد العسكريين وزير الدفاع السابق الزبيدي في الانتخابات الرئاسية السابقة لكنه فشل في الجولة الأولى للانتخابات.
ويجب كذلك ألا نغفل الدور الذي تقوم به كلٌّ من إسرائيل وفرنسا داخل تونس حيث سبق وقام جهاز الموساد باغتيال محمد الزواري الذي كان يعمل على تطوير نماذج لغواصات صغيرة لحماس بخلاف تطوير طائرات بدون طيار. ومن هنا فإنه يلاحظ وجود إصرار من قبل الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا مع احتمالية تنسيق مع إسرائيل من أجل زعزعة الاستقرار الداخلي في تونس وإفشال عملية التحول الديموقراطي.
خلال العام الحالي حدثت تواصلات متوالية بين السيسي وقيس سعيد حيث تواصلوا هاتفيا ثلاث مرات على الأقل، في حين استقبل السيسي قيس سعيد في القاهرة في زيارة مطولة.
الملف الليبي وتقاطعاته الإقليمية بين قيس سعيد والغنوشي
كان الملف الليبي نقطة صراع سياسي بين حركة النهضة والكتل الأخرى، خاصة الكتل التي اتحدت خلف قيس سعيد في انتخابات الرئاسة، لكن كان ظاهرا وجود خلافات بين الغنوشي وقيس سعيد حول السياسة الخارجية والتي كان يرى سعيد أن الغنوشي يتعدى فيها على صلاحياته، وهو ما ظهر خلال زيارة الغنوشي لأردوغان في تركيا، وقد صرح الغنوشي وقتها أن الزيارة كانت بصفته رئيسا للحزب وليست بصفته رئيس البرلمان وهو ما أثار الرأي العام التونسي ضده.
ومع زيادة الحصار على طرابلس وتقدم القوات والمليشيات التابعة لحفتر وقعت تركيا اتفاقية أمنية واتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا وهو ما أثار تحفظ كلٍّ من مصر والإمارات وفرنسا واليونان وقبرص اليونانية، وزار أردوغان بعدها تونس في ديسمبر 2019 ثم الجزائر في يناير 2020 في خطوة كان يتطلع فيها لفتح منفذ وتواجد لقوات بلاده في المنطقة لمساندة حكومة الوفاق وحشد الإقليم ضد حفتر حيث كان يتطلع لتشكيل محورٍ من تونس والجزائر وقطر ضد محور الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا واليونان، وهو ما لم يتم، حيث رجع أردوغان من تلك الزيارات دون تحقيق التطلعات التي كان يرغب في الحصول عليها.
وبعد أن كسرت قوات الوفاق الحصار عن طرابلس واستعادت العديد من المساحات في الغرب الليبي وقاعدة الوطية إثر الدعم التركي، أخذت المعادلة تتغير بشكل كبير، وفرضت تركيا معادلة جديدة في الإقليم، وقد قام الغنوشي بمخاطبة السراج وتهنئته على التقدمات الميدانية التي حدثت على الأرض وهو ما أثار غضب قيس سعيد الذي اعتبر ذلك تدخلا في اختصاصاته. ومع وضوح السياسة الخارجية لحكومة إلياس الفخفاخ في الملف الليبي خاصة بعد زيارة قيس سعيد لفرنسا واستقباله بشكل مهين حيث استقبله السفير الفرنسي في تونس مع وزير الخارجية الفرنسي في رسالة مبطنة على تبعية تونس لفرنسا، وهو ما أثار تساؤلات عديدة عند الشارع ولدى مؤيدي قيس سعيد حيث انتظروا منه سياسات خارجية مناهضة لفرنسا وفق ما أبداه خلال حملته الانتخابية بينما حدث عكس ذلك من خلال تصريحه عن الوفاق بأنها (شرعية مؤقته)، مما تسبب في استياء عام من قيس سعيد شعبيا وإثارة غضب العديد من الكتل السياسية خاصة كتلة ائتلاف الكرامة، وهو ما جعل حركة النهضة تفتح الإشارة الخضراء لإقالة إلياس الفخفاخ بعد أن قدم النائب ياسين العياري[4] وثائق تثبت فسادا ماليا لرئيس الحكومة. وهو ما كان لعب دورا كبيرا في تجمع 4 كتل سياسية في البرلمان ضده مما تسبب في إحراج كبير لقيس سعيد شعبيا واستطاعت النهضة استثمار ذلك الموقف (التوافق الوطني) في الحصول على أصوات كتلة القروي واستطاعت بذلك إزاحة الفخفاخ بسهولة من المشهد، ويعتبر ذلك انتصارا سياسيا للغنوشي ضد قيس سعيد.
خاتمة .. المصالح الإقليمية والأهداف من الانقلاب
أشار النائب ياسين العياري إلى أن فرنسا أعلمت السفارات الأجنبية في تونس بكل الخطوات يوم 21 يوليو، فيما صرح ضاحي خلفان عبر حسابه على تويتر بأن هناك ضربة قوية “للإخونجية” يوم 22 يوليو، وتبعه تحذير من السفارة الأمريكية لمواطنيها من السفر إلى تونس في يوم 26 يوليو من الاقتراب من أي تجمع،[5] ويعد الملف الليبي هو أحد الملفات الرئيسية للأطراف الإقليمية حيث يشهد تنافسا على النقاط التالية:
- ترسيم الحدود البحرية وتقسيم الموارد البترولية والغازية
- التنافس على ملف إعادة الإعمار خاصة الشركات التركية والفرنسية.
وهو ما ينذر بتصاعد الأزمات في المستقبل وقد تزامن مع تلك التحركات في تونس إعلان عقيلة صالح تشكيل لجنة برلمانية لإعداد قانون تنظيم الانتخابات متجاوزا المجلس الرئاسي، وهو ما يمثل مؤشرا على عودة وعمق الخلافات السياسية ما ينذر بتجدد الاشتباكات الميدانية مستقبلا.
سبق وأرسلت كلا من فرنسا ومصر والسعودية مساعدات طبية ولقاحات لتونس من أجل دعم منظومة الصحة المنهارة نتيجة أزمة كورونا، وبالرغم من إرسال قطر لمساعدات كبيرة أيضا إلا أن الاستقبال الرسمي لمساعدات كل دولة يظهر التمييز، وهو ما يعطي رسالة بأنه سيتم حل الأزمات الاقتصادية ومساعدة تونس على تجاوز أزماتها في حال وقفت مع التحالف الفرنسي المصري الإماراتي السعودي في ليبيا.
أما داخليا فالمرجح ألا تتصاعد الأحداث بشكل دموي في ظل تبني النهضة لخيار عدم الاصطدام شعبيا مع قيس سعيد، فبعد أن دعا الغنوشي أتباعه إلى التجمع عند البرلمان إلا أنه تراجع وصرف التجمعات في ظل معرفته بأن قيس سيصدر حظرا للتجوال، أي أن حركة النهضة ستقبل (الخروج الآمن من السلطة) مقابل أن تقوم بدور المعارضة في المستقبل على نطاق محدود، دون أن تشارك في رسم المشهد السياسي، وهو الأمر الذي تدعمه ألمانيا والاتحاد الأوروبي وبقدر ما أمريكا، لكن قد يتعرض ائتلاف الكرامة وداعميهم للتضييق كسياسة عقابية على سلوكهم وتحركاتهم السابقة التي كانت تتسم بالهجوم على وزارة الداخلية وسلوكياتها مثل قضية (S17) -قائمة منع مواطنين بالسفر خارج إطار القضاء بتهم مطاطة- بجانب بعض رموز حركة النهضة التي تدفع لثورة أو للمواجهة.
بالرغم من وجود ترحيب من قطاعات شعبية بقرارات قيس سعيد إلا أنه يفتقد لوجود تأييد كامل من قبل منظمات المجتمع المدني واتحادات العمال وعلى وجه الخصوص اتحاد الشغل فالدعم كله (مشروط)، فالتيار المدني أو العلماني وعامة الشباب مع حل البرلمان وتقويض نفوذ حركة النهضة مقابل عدم التوسع في الانفراد بالسلطة أو اتخاذ إجراءات وقرارات تصادمية تسبب انتهاكات حقوقية خاصة أنه يوجد احتقان شديد ضد وزارة الداخلية، ما قد يدفع الشباب إلى مواجهتها وتفريغ الغضب فيها، وهو ما قد يخل بموازين القوة ويدفع قيس سعيد للتراجع ويعزز من تقدم النهضة سياسيا، وقد سبق وخسر قيس سعيد سياسيا أمام الغنوشي في عدة جولات سابقة ما يجعل فرصة الخروج من الأزمة بحل سياسي دون تأزم الموقف أمرًا مرجحًا.
بوجه عام تعاني حركة النهضة أزمة في استراتيجيتها المتمثلة في (التوافق) مع رجال الأعمال الفاسدين ولوبيات النظام السابق، وهو الأمر الذي تسبب في تراجع شعبيتها بشكل كبير، وهو ما يتطلب التراجع للخلف وإعادة صياغة استراتيجية جديدة وتجديد الدماء. وفي النهاية لا يجب أن تعول حركة النهضة على نزول الجماهير ودعمها في معركتها ضد قيس سعيد وألا تذهب لذلك طالما لم يحدث تجاوب إيجابي منذ صدور قرارات قيس، على أن تعول على الحشد السياسي مع الأطراف والمكونات المجتمعية وتكثيف الاتصال بهم وحشدهم للضغط على قيس سعيد لإلزامه بوضع خارطة طريق متكاملة ونزع استحواذه على السلطات واستغلال أخطائه التي مرجح أن يقع بها، وهو ما قد يوسع دائرة الانتقادات له إذا ما استمر في الاستحواذ على السلطة وفي إصدار قرارات استثنائية ضد قطاعات مختلفة.
الهامش
[1] Grimaud, La Tunisie, 97. See also Sharan Grewal, “A Quiet Revolution: The Tunisian Military after Ben Ali ‘Ben ʿAli, Zein al-ʿAbidin,’” Carnegie Regional Insight, February 24, 2016, https://carnegieendowment.org/2016/02/24/quiet-revolutiontunisian-military-after-ben-ali-pub-62780 (accessed October 23, 2018).
[2] Hicham Bou Nassif,How Coup-Proofing Structured Military Response to Protest in Tunisia and Libya, Cambridge University Press, September 2020, https://doi.org/10.1017/9781108893695.006 , pp 213-248.
[3] حصل بن علي على الدبلوم من المدرسة العسكرية في سان سير (École spéciale militaire de Saint-Cyr) ثم من مدرسة المدفعية في شالون سور مارن بفرنسا، وأرسله حماه الجنرال كافي بدورة إلى المدرسة العسكرية العليا للاستخبارات والأمن في أمريكا، ومدرسة المدفعية الميدانية أمريكا ليستلم بعد انتهائها الأمن العسكري التونسي الذي تولى رئاستها 10 سنوات. ثم خدم لفترة قصيرة كـملحق عسكري في المغرب وإسبانيا ثم عين مديرا عامًّا للأمن الوطني في 1977. عين كسفير إلى وارسو، بولندا لمدة أربع سنوات. ثم عين بعدها كوزير دولة ثم وزير مفوض للشؤون الداخلية قبل أن يعين وزيرا للداخلية في 28 أبريل 1986 ثم رئيسا للوزراء في حكومة الرئيس الحبيب بورقيبة في أكتوبر 1987.
[4] ثوري مستقل لا يتبع أي كتلة، فائز عن مقعد فرنسا في الخارج.
[5] Security Alert: Recent Events and Demonstrations in Tunisia, https://tn.usembassy.gov/security-alert-recent-events-and-demonstrations-in-tunisia/
اضغط لتحميل الملف