بعد عقد كامل من ثورات الربيع العربي يتساءل المشاركون بها عن مصير تلك الثورات، هل انتهت بلا رجعة، أم أن الشعوب قبلت بالوضع الراهن في بلدانها، واستسلمت للثورة المضادة واستقرار أنظمة الاستبداد مرة أخرى. وهل انطفأ زخم التغيير والرغبة فيه أم أن التحديات التي يواجهها الشعوب باتت مستحيلة وبات أمل التغيير مسدودًا، وعلى النقيض يرى البعض أن الشعوب مازالت مستعدة للتضحية من أجل مستقبل أفضل وأن أزمة التغيير مرتهنة بنُخَبِنا السياسية التي لم تعد قادرة على تلبية طموحات الشعوب.
نجاح أنظمة الاستبداد في العودة مرة أخرى
وبالنظر للمحصلة النهائية لأغلب بلدان ثورات الربيع العربي نجد أن الوضع الراهن متأزم ومرتبك، وأن الثورة المضادة نجحت في هجمتها المرتدة على الشعوب، فبغير تدقيق في ثنايا المشهد نجد أن النظام العسكري ثبَّت أقدامه في مصر، والرئيس التونسي ينقلب على الديموقراطية التي جاءت به للحكم، وأن شعوب المنطقة تعاقب على احتضانها للثورات، فخُربت سوريا واليمن، وتأزمت لبنان وليبيا والسودان.
لكن حينما ندرك أنّ الشعوب التي حركتها الرغبة في التحرر والانعتاق من سلطات لا تمارس إلا القمع والضغط على حياة مواطنيها، مستعدون لكل التضحيات مهما كلفت لأجل حياة بِحُرية وكرامة واستقلالية لأوطاننا العربية بعد انسداد الأفق السياسي والاجتماعي، فطالبت الشعوب بالحرية والديموقراطية في احتجاجات ضحمة وأخرى فئوية ولم تنسَ كذلك الاحتياجات الأساسية التي ترسم لها واقعا أفضل تعلو بها قيمة الإنسان، مما يعانوه خلال مآسيهم اليومية وبقلبها المطالبة بالحرية كشرط وجودي يحفظ القيم المشتركة والجوهر الإنساني.
لكن لم تدرك الشعوب آنذاك أن المعركة أكبر بكثير من احتجاجات واعتصامات، بل هي مواجهة شاملة مع أنظمة مستعدة لتدمير كل من يقف أمامها للحفاظ على مكتسبات سرقوها أعوامًا تلو الأخرى وأن التغيير في منطقتنا العربية غير مرحب به إقليميًّا ودوليًّا.
ومن يزعمون أن الشعوب أصبحت تخشى التغيير وترفض دفع تكاليف أخرى يقفون على أرض هشة بحجج واهية، حتى وإن هدأت الهتافات وانطفأت شعلة الثورة ، فمازالت الشعوب تعيش بمزيج من المرارة والحنين إلى الماضي على أيامٍ عاشتها استنشقت بها الحرية والديموقراطية وتطلعت لحياة كريمة، فمازال التونسيون يحاولون الحفاظ على مكتسباتهم، ومازالت السودان تنتفض رغم الوضع المعيشي الصعب، ومازال النظام المصري يلاحق معارضيه و يزيد من قبضته الأمنية وسطوته حتى لا تفلت الأمور عن السيطرة فمازال المصريون يحتجون حتى الآن ويطالبون بحياة كريمة عبر أكثر من 200 احتجاجٍ خلال عام 2021.
فقدان الثقة في النخب السياسية
وإن كان علينا أن ننعي شيئًا ، فيجب أن ننعي حال نخبنا السياسية التي لم تقدر على تلبية احتياجات الشعوب، ولم تكن مواكبة لطموحاتهم، ففي البداية لم تكن مدركة مآلات التغيير وما هي مقدمة عليه، فركض بعضها للسيطرة على الحكم، وبدأ الآخرون في الصراع معهم، وعملت الثورة المضادة على إثارة المشهد السياسي وتأزم الوضع، حتى تشرذمت القوى السياسية، وأًصحبت الفرصة سانحة للارتداد مرة أخرى لما قبل ثورات الربيع العربي بل أشد. وهو ما مهدت له النخب السياسية بقصد وبدون قصد، فبدلا من الانشغال ببناء جدارٍ للثورة للمحافظة عليها عملت على تعظيم مكاسبها بشكل فردي.
فتغير المزاج الشعبي فعليًّا تجاه النخب والقوى السياسية، ولم تعد تثق في أي منها، وأصبح من الضروري تغيير شامل على كل الأصعدة بداية من النخب السياسية التي كانت ذات يوم لديها فرصة سانحة بكل الأدوات والجماهير من خلفها داعمة.
أولى الخطوات لصناعة تغيير حقيقي
وبات من الضروري خلال الفترة المقبلة معالجة المعضلات التي تعوق عملية التغيير في بلدان الربيع العربي، وأولها صناعة نخب سياسية جديدة قادرة على كسب ثقة الجماهير من جديد ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما حدث في مصر خلال سبتمبر 2019 رغم القبضة الأمنية وحملات الاعتقالات الموسعة خرج الآلاف من المواطنين في الاحتجاجات في قلب العاصمة تطالب بإسقاط النظام، فقط عندما رأت أملًا جديدًا خلال تلك الدعوات واستشعرت بتغيير قريب ووثقت في جدوى تلك الاحتجاجات، والأمر ذاته الذي تحتاجه بلدان الربيع العربي، نخب جديرة بكسب ثقة الشعوب تحيي أمل الحرية من جديد ملتحمة بالجماهير تسمع صوتهم من قلب الحدث وليس من أبراج عالية، تعمل على إنتاج حلول اجتماعية وسياسية، وقادرة على تسويق قضايا شعوبهم. حينها سيتحول التغيير من مزاج شعبي إلى فعلٍ على أرض الواقع يؤتي ثماره من جديد.
مازالت شعوب الربيع العربي تُمني نفسها بحرية لأوطانها، على غرار مصر كسر الجزائريون “عقدة العشرية السوداء” وخرجوا للتظاهر والمطالبة بالتغيير، أما في العراق انطلق في خريف 2019 حراك جماهيري أجبر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة، ولم يكن سهلًا على اللبنانيين الخروج في مظاهرات غاضبة خلال عام 2019، وطالبت باستقالة جميع السياسيين وتركهم للعمل السياسي من أجل إفساح المجال لحياة سياسية جديدة.
وأظهر استطلاع رأي نشرته صحيفة “الجارديان” وفريق “مؤسسة يوجوف للاستطلاعات” في ديسمبر 2020 أن شعوب البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي لا يشعرون بالرضا في الفترة الحالية لاسيما تلك التي شهدت حروبا أهلية وانقلابات على مناخ الحريات. وتشير النتائج إلى أن “الشعور باليأس والحرمان” اللذين تسببا بتلك الفترة المضطربة من تاريخ الشرق الأوسط، قد زاد، مع أن الذين شاركوا فيها ليسوا نادمين على حركات التظاهر باستثناء الدول التي عانت من حروب أهلية. حيث يشير الاستطلاع إلى أن الشباب الجزائري ما بين 18 -24 عاما مع نظرائهم في تونس ومصر والعراق أقل ميلًا للتعبير عن “ندم من التظاهرات العامة والثورات”. وسجلت تونس أعلى نسبة لمن يقولون إن حياتهم تحسنت بعد الثورة، حيث قال غالبية التونسيين المشاركين في الاستطلاع “86%” أنهم يشعرون اليوم بقدر عال من الحرية مقارنة مع ما كان عليه في ظل نظام “بن علي”.
وكشف الاستطلاع عن زيادة الشعور بعدم المساواة وانكسار العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وهو نفسه الذي أدى إلى عصر الثورات الذي بدأ في 2010. وكان هذا رأي نسبة 92% من السوريين، وهي أعلى نسبة لسؤال اشتمل عليه الاستطلاع، وجاء اليمن في المرتبة الثانية بنسبة 87%، ثم تونس بنسبة 84%.، وقال 7 من كل 10 جزائريين وعراقيين إنهم شعروا بنفس الشعور، وكذلك 68% من المصريين.
أخيرًا تؤكد تلك الأحداث والحقائق أن الشعوب مازالت تبحث عن الحرية وتريد التغيير رغم كل ما مرت به، وأن موجة التغيير القادمة ستكون أكثر وعيًا مما مضى وأن أمل التغيير أصبح قريبًا …