رغم اتفاق الأطراف السياسية على تشكيل حكومة وحدة وطنية بجنيف في فبراير الماضي إلا أن المشهد السياسي الليبي لا يزال في حالة فوضى وانقسام، وهي السمة التي هيمنت عليه منذ الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015 .
شواهد استمرار الانقسام بائنة على عدة أصعدة ابتداءً من رفض البرلمان لاعتماد مشروع الميزانية، و أخيرا إعلانه لسحب الثقة من الحكومة قبل موعد الانتخابات المرتقبة بثلاثة أشهر فقط، مرورا بالانقسام حول الاستفتاء على مشروع الدستور وإعداد القاعدة الدستورية وانتهاءً بالخلاف حول قانون الانتخابات والصراع داخل الوزارات والمؤسسات ( خلاف وزير النفط مع رئيس المؤسسة الوطنية للنفط نموذجا)، أما على الصعيد العسكري فحفتر لم يبدِ أي استجابة لمخرجات اتفاق جنيف التي تمنح رئيس المجلس الرئاسي “محمد المنفي” صلاحيات القائد الأعلى للجيش والتي تقضي بضرورة توحيد المؤسسة العسكرية ، فالجنرال المنقلب على السلطة المنتخبة في فبراير 2014 أعلن في خطاب لجنوده في 9 أغسطس الماضي أن: “الجيش” لن يخضع لسلطة مدنية لم ينتخبها الشعب”، وعمليا فقد أجرى حفتر مناورات وعمليات عسكرية ضخمة في مناطق نفوذه شرقا وجنوبا، كما يقوم بممارسة العمل السياسي داخليا وخارجيا حيث زار دولًا “حليفة” مثل مصر، ونسق لقاءات لابنه مع مسؤولين في الكيان الصهيوني كما ورد في صحيفة “انتلجنس أونلاين” الاستخبارية، كما أعلن استقالته بشكل مؤقت من منصبه تمهيدا لمشاركته في الانتخابات المرتقبة، وأخيرا وليس آخرا قام بالتعاقد مع شركة (Lany davis\livingstongroup) للعلاقات العامة لترتيب لقاءات مع مسؤولين بالبيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية.
الانقسام المستمر والذي توج بقرار 68 نائبًا بقيادة رئيس المجلس “عقيلة صالح” بسحب الثقة – وهو ما لا يعد نصابا كافيا لسحب الثقة – والفوضى القانونية و الدستورية التي ترجمت إلى تجاوز الصلاحيات والإفلات من الإدانة والعقاب هو ترجمة لفشل المبادرات الدولية والأممية التي حكمت المشهد السياسي منذ 2015: ابتداء بالاتفاقين السياسيين (الصخيرات 2015، جنيف 2021) وانتهاء بالمؤتمرات الدولية ( باليرمو، باريس، برلين 1 و2) التي كان من المفترض أن تنظم العملية السياسية وتأتي بسلطة “شرعية” تنهي الانقسام.
جذور الانسداد:
لا يمكن فهم الانسداد السياسي الحاصل في ليبيا إلا بالعودة لنقطة انطلاق العملية السياسية الحالية وفهم خلفياتها والأطراف الفاعلة فيها، هناك تساؤلات كثيرة يطرحها المتابع للمشهد الليبي ، لماذا لا يتفق الليبيون على آلية لحل النزاع، لماذا لا تدان وتحاسب الأطراف المجرمة، لماذا يتم تجاهل مشروع الدستور المنجز منذ 2017، لماذا تتداخل الاختصاصات والصلاحيات بين الأجسام والسلطات التشريعية والتنفيذية، لماذا يتكرر الفشل عقب كل اتفاق سياسي، كيف فقد الشعب الليبي دوره في العملية السياسية، أسئلة كثيرة لا يمكن أن نحصل على إجابة لها إلا بفهم ما الذي أحدثه اتفاق الصخيرات في المشهد السياسي.
العملية السياسية في ليبيا كانت تسير بنجاح وسلاسة نسبية حتى جاء انقلاب خليفة حفتر على المؤتمر الوطني في فبراير 2014 والذي أعلن فيه تجميد الإعلان الدستوري، وهو ما كان المحفز الأساسي لإطلاق حرب أشمل شرق البلاد وغربها، تحولت فيها الرواية الإعلامية والسياسية تدريجيا من الدفاع عن شرعية الدولة وخيارات الشعب الليبي إلى حرب أهلية بين أطراف متنازعة وأخرى على “الإرهاب”.
انعكست الظروف الأمنية المتردية واندلاع الحرب سلبًا على المشاركة في انتخابات مايو 2014 للبرلمان الجديد حيث انخفض عدد الناخبين من 2,865,000 انتخبوا المؤتمر الوطني إلى 630,000، وفي نوفمبر 2014 قضت المحكمة العليا ببطلان شرعية البرلمان وحله.
فوضى الشرعية:
أعقب الحرب “وساطة” بعثة الأمم المتحدة برئاسة برناردينو ليون ، ورفضت البعثة في “وساطتها” الاعتراف بحكم المحكمة العليا وعملت على تعزيز شرعية البرلمان وتقويض شرعية المؤتمر الوطني وتفكيكه – كما ورد في مراسلات برناردينو ليون المسربة – .
وبإسقاط حكم أعلى سلطة قضائية وتفكيك السلطة التشريعية المنتخبة دخلت البلاد في دوامة فقدان الشرعية، وتحولت البعثة من دور الوساطة إلى الوصاية حيث قامت بإبعاد الأطراف الرافضة للتسوية، ثم قامت بصياغة الاتفاق السياسي – الذي حدد صلاحيات السلطات وأصبح دستورَ البلاد عمليا – وانتقت الأطرافَ الموقعة عليه، وهو ما جعلها عمليًّا الطرف المانح للشرعية المفقودة داخليًّا.
وللإجابة عن كل التساؤلات المطروحة آنفا، فإن الخلل الأساسي في المشهد السياسي الليبي يكمن في تحول مصدر الشرعية من الداخل للخارج، فقد تم تجاوز كل القوانين الوطنية وخيارات الشعب الليبي وتم اعتماد اتفاقيات صممت خلف الكواليس بعيدا عن السلطات التشريعية والقضائية الليبية كدستور يحكم العملية السياسية، كما غاب الحوار الوطني على المستوى السياسي والاجتماعي عن كل التسويات السياسية المتفق عليها، وهو ما يجعل كل الأجسام الموجودة في المشهد السياسي اليوم فاقدة لمقومات الشرعية الدستورية والانتخابية.
سحب الثقة:
في ظل هذه الظروف فإن قرار سحب الثقة الذي أصدره البرلمان في 21 سبتمبر الماضي يعتبر في حكم العدم، كما كان قرار البرلمان بإقالة محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، كما كان قرار حكومة السراج بمنع تداول العملة الصادرة عن روسيا، وكما هو القرار الصادر – أكثر من مرة – بالقبض على خليفة حفتر، ومثلها كثير من القرارات، فمنذ إسقاط حكم السلطات التشريعية والقضائية في2015 وتعطيل اعتماد مشروع الدستور المنجز منذ 2017 واعتماد الاتفاقات المبرمة في الصخيرات وجنيف ومخرجات المؤتمرات الدولية كدستور للعملية السياسية، ارتبطت شرعية القرارات الوطنية برضا بعثة الأمم المتحدة والأطراف الخارجية الفاعلة، وهو ما لم يتوفر في قرار سحب الثقة أو أي من القرارات المذكورة آنفا.
حقيقة الصراع:.
غياب الشرعية هو أحد محاور النزاع في ليبيا وهو عرض للتدخل الأممي، لكن المحرك الأساسي للصراع اليوم هم الأطراف الخارجية، فمع تنامي حجم التدخل الخارجي وتزايد أطرافه ازداد تعقيد المشهد وأصبحت أدوات الصراع في يد الأطراف الدولية والإقليمية وهو ما يمنحها تأثيرًا كبيرًا على قرار السلم والحرب.
المشهد السياسي الليبي اليوم هو مشهد مُسيرٌ من الخارج بشكل شبه كامل، فالعملية السياسية وما نتج عنها من اتفاقيات وتفاهمات هي منتج خارجي، والأجسام التنفيذية والتشريعية تستمد شرعيتها من الخارج، كما أن المسار العسكري أصبح يعتمد بشكل كامل على إرادة القوى الدولية والإقليمية وتفاهماتها، وبالتالي أصبحت ليبيا ملفًّا على طاولة الأطراف المتدخلة وامتدادًا لنفوذها خارج حدودها.
انتخابات 24 ديسمبر:
في ظل الانسداد الحاصل تبدو انتخابات ديسمبر المرتقبة للبعض كالمخرج الوحيد من الأزمة، إلا أنها تأتي في ظروف سياسية غير صحية، فالبلاد تعج بالمرتزقة، المنطقة الشرقية والجنوبية تخضعان لحكم عسكري، الأمن منفلت في معظم أجزاء البلاد، استمرار الانقسام حول الدستور، والنزاع حول قانون الانتخابات بين مجلس النواب والأعلى للدولة.
رغم هذه العقبات إلا أن واشنطن وبعثة الأمم المتحدة وعددًا من الدول الأوروبية تدفع بقوة نحو إجراء الانتخابات دون مراعاة لما قد يترتب على إجرائها بهذا الشكل، فواقعيا لا يمكن أن تكون الانتخابات حلا لأزمة الشرعية لغياب البيئة الانتخابية الملائمة والدستور، كما أنها لا تعالج مسألة الانقلاب العسكري القائم منذ2014 ولا قضية التدخلات الخارجية.
تظل معضلة كل المبادرات المطروحة من جهة البعثة والأطراف الدولية أنها جزء من المشكلة فهي تقفز على المشهد متجاهلة جذور المشكلة وأسبابها، حيث تتجاهل انقلابات خليفة حفتر وتنكره للعملية السياسية في كل مرة وتتغاضى عن التدخلات الخارجية المزعزعة لاستقرار البلاد، كما أنها تصادر القرار الوطني عبر تحديد مسار العملية السياسية وطبيعة الاتفاقيات المبرمة والشخصيات الموقعة عليها، وهو ما يصنع حالة من الفوضى القانونية والسياسية، وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإن لجنة الـ75 المختارة من قبل بعثة الأمم المتحدة تملك صلاحيات دستورية وتشريعية وقانونية لا تملكها أي سلطة وطنية، حيث يحق لها اعتماد الحكومة وسحب الثقة منها وإعداد مقترحات قوانين وقاعدة دستورية مؤقتة، واليوم بعد رحيل مهندسة حوار جنيف المبعوثة الأممية ستيفاني وليامز، تبدو لجنة الـ75 عاجزة حتى عن عقد اجتماعاتها الدورية والطارئة حيث طالب 46 عضوًا من أعضاء اللجنة في 26 سبتمبر الماضي المبعوث الأممي يان كوبيش بعقد جلسة طارئة لمناقشة مستجدات المشهد السياسي، وهو تجسيد واضح لحالة الضعف والارتهان التي وصلت لها الشخصيات المتصدرة للمشهد السياسي.