مرّت العلاقات المصرية- الإسرائيلية بعددٍ من الاضطرابات منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978، منها حروب لبنان والانتفاضة الأولى والثانية وإعادة غزو إسرائيل للضفة الغربية وصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة بعد ثورات الربيع العربي، غير أنَّ الحرب الحاليَّة بين إسرائيل وحماس، تمثل اختبارًا جديدًا للعلاقات بين البلدين.
تضع هذه الحرب سيناريوهاتٍ أمام مصر لم تُواجها من قبل، كنزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، كذلك أحد التحديات يتمثل في مكانة ودور مصر في الأزمة الراهنة، فمصر تنظر إلى نفسها على أنَّها الأحق برعاية أي وساطات بين حماس وإسرائيل بحكم القرب الجغرافي والدور التاريخي المصري في القضية الفلسطينية، خاصةً مع ما أثبته عدوان 2021، بأنَّ دور مصر لا غنى عنه، نظرًا لتمتعها بعلاقات جيدة مع الإسرائيليين والفلسطينيين، تُؤهلها للعب دور مركزي في أي مفاوضات.
موقف مصر من حماس بعد وصول السيسي للحكم
بعد تولي السيسي للسلطة في يونيو 2014، تعمقت علاقة مصر بإسرائيل مع الحفاظ على علاقات باردة مع الفصائل الفلسطينية خاصةً حماس، فخلال جولة العدوان على غزة الذي بدأ بعد في 8 يوليو 2014، حثت مصر إسرائيل على تدمير حماس، ونسقت القوات الأمنية في البلدين لمراقبة غزة، وتعاونوا في تدمير الأنفاق على طول الحدود التي يستخدمها الفلسطينيون لتهريب المواد الغذائية وغيرها من الإمدادات من مصر، وضيقَ المصريون على دخول الفلسطينيين من معبر رفح، فمن يخرج من المعبر يمر بنظام أمني شديد للغاية يتضمن عمليات تفتيش متكررة.
اتسمت العلاقة بين مصر وحماس بالتوتر الدائم، وسعى النظام إلى شيطنتها حتى فترة قريبة، بسبب اعتبارِها امتدادًا لجماعة الإخوان، إلا أنَّ جهاز المخابرات العامة يتمتع بعلاقات جيدة مع الحركة، وينظر لها كفاعل لا يمكن تهميشه، وهو ما سمح له بالتفاوض على وقف إطلاق النار خلال العديد من جولات التصعيد السابقة، بالإضافة إلى رعاية عملية تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس عام 2011، لكن على ما يبدو إسرائيل غير مهتمة بوقف التصعيد في الوقت الحالي.
أما حركة حماس تظل مصر شريكًا مهمًا لها، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير إلى قُربها الجغرافي وعدم وجود معبر آخر لغزة غير مصر، وبالتالي لا جدوى من عداء النظام المصري، وتحتاج حماس إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع مصر، للسماح بتدفق الإمدادات عبر معبر رفح، خاصةً وأنَّ القاهرة سبق وأن استخدمت سيطرتها على المعبر للتأثير على سياسات حماس، لذا يمكننا القول أن كلا الطرفين لديهم مصلحة مشتركة في الحفاظ على قدر جيد من العلاقة.
تطور الموقف المصري منذ عملية طوفان الأقصى
تستفيد مصر من دور الوساطة الذي تقوم به في الملف الفلسطيني، حيث يمنحها حضورًا سياسيًّا وأهمية في المنطقة، فاستمرار العدوان على قطاع غزة يمثل فرصة للنظام المصري لتعزيز مكانته على الساحة الإقليمية والدولية، خاصةً وأنَّ الساحة الآن لم تعد حِكرًا على مصر وحدها وهناك عدد من الدول الإقليمية تتسارع لتولي هذا الدور وعلى رأس هذه الدول قطر، التي تلعب دورًا في مجال تدفّق الأموال إلى حماس من خلال إسرائيل ورعايتها وإطلاق سراح أمريكيتين كانتا مُحتَجزتين عند حماس، في الوقت نفسه تمثل هذه الأحداث فرصة كبيرة للسيسي للظهور بمظهر البطل القومي الذي رفض علانية مطالب القوى الغربية المتكررة بإجبار الفلسطينيين على التوطين في سيناء.
الموقف المصري تطور تدريجيًّا منذ بداية التصعيد العسكري، بدايةً من الإعلان عن إجراء اتصالات مكثفة مع الجانبين لوقف إطلاق النار، وصولًا إلى منع خروج الأجانب من القطاع عبر معبر رفح، إن لم تسمح إسرائيل بإدخال المساعدات إلى غزة، مرورًا بالتصريحات المتكررة بأنَّ سيادتها ليست مستباحة وأمنها القومي أولوية. كما بادر السيسي إلى عقد قمة شارك فيها ممثلون عن دول الإقليم إلى جانب ممثلين دوليين، لبحث تطورات الأحداث في غزة، إلا أنَّها انتهت دون بيان مشترك بسبب الخلاف حول إدانة حماس، حيث رفض العرب المطالب الغربية بتحميلها مسؤولية التصعيد.
لجأت القاهرة خلال جولات التصعيد السابقة إلى واشنطن للضغط على تل أبيب، إلا أنَّ هذه المرة تقف الولايات المتحدة خلف إسرائيل وبشدة وأرسلت أسلحة ومسؤولين إليها وهددت دولًا أخرى في المنطقة كي لا تتدخل، لتجد مصر نفسها تحت ضغطٍ من دول مختلفة ومنظمات دولية للسماح للفلسطينيين بالدخول وتخفيف معاناتهم الإنسانية، إلا أنَّ السيسي أعلن في مناسباتٍ عدة رفض تلك المقترحات.
تخوف السيسي من التصعيد العسكري في القطاع
يخشى السيسي تكرار سيناريو عام 2008، عندما عبر 750 ألف فلسطيني الجدار الفاصل بين مصر وغزة، ووصلوا إلى مدينتي العريش والشيخ زويد بشمال سيناء، لشراء مواد غذائية بعدما فرضت إسرائيل حصارًا مشددًا على القطاع. مع ذلك تمتلك مصر خُطة جاهزة للتنفيذ في حال وافق السيسي على دخول الفلسطينيين، ففي مدينتي رفح والشيخ زويد جرت الاستعدادات اللوجستية من خلال نصب عددٍ من الخيام، بالإضافة إلى فرض طوق أمني لمنع وصولهم إلى مدينة العريش.
هناك عدة أسباب تفسر سبب إصرار السيسي على عدم القبول بالتوجه الغربي للسماح لسكان غزة بالدخول إلى سيناء، فمصر لا تريد أن تكون مسؤولة عن موجة اللاجئين الفلسطينيين، خاصةً وأنَّها لا زالت تعاني تبعات الحرب في السودان وتدفق مئات الآلاف من اللاجئين إلى مصر، وتواجه مصر تحديات اقتصادية داخلية تجعل إمكانية استقبال لاجئين جُدد أمرًا غير محتمل، إلا أنَّ الموقف المصري قد يتغير في قادم الأيام إذا حصلت مصر على تطمينات بأنَّها لن تترك لتتعامل مع لاجئي غزة بمفردها، خاصةً في ظل الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة والإمارات على السيسي لقبول لاجئي غزة، مقابل تقديم سلسلة من المزايا الاقتصادية والأمنية.
تستخدم إسرائيل ملف الغاز للضغط على مصر لفرض بعض الشروط المتعلقة بالتعامل مع ما يجري في غزة، في وقتٍ تعتمد فيه مصر على واردات الغاز الإسرائيلي لتلبية بعض الطلب المحلي، ومنذ التصعيد هبطت واردات مصر من الغاز الإسرائيلي بنحو 19%، من 800 إلى 650 مليون قدم مكعب يوميًّا.
يتخوف أيضًا نظام السيسي إن هو قَبِلَ بتوطين الفلسطينيين في سيناء، من أن تتحول تلك المنطقة إلى قاعدة خلفية تستغلها فصائل المقاومة في شن عمليات عسكرية ضد الكيان، وهو ما سيؤدي إلى أعمال انتقامية من الجانب الإسرائيلي، ما من شأنه زعزعة الأمن القومي المصري، وهي السردية التي يحرص نظام السيسي على ترديدها بين الفينة والأخرى.
على الصعيد الشعبي، في الأيام الأولى من العدوان خرج المصريون بالمئات في الجامعات والميادين المختلفة، تعاملت قوات الأمن مع تظاهرة الجامع الأزهر بإغلاق أبوابه ومنعت خروج المصلين إلى الشارع، خلال اليوم التالي لمذبحة مستشفى المعمداني، خرجت تظاهرات طُلابية للتنديد بالإبادة الجماعية التي يتعرَّض لها الشعب الفلسطيني، لتقرر إسرائيل بعدها إجلاء طاقم سفارتها في مصر خوفًا من أي أعمال انتقامية، خاصةً بعد مقتل ثلاثة سياح إسرائيليين ومصري في الإسكندرية، بعدما أطلق أمين شرطة النار على فوج سياحي إسرائيلي بسبب إصرارهم على التقاط صور بعلم إسرائيل.
حاول نظام السيسي احتواء الغضب الشعبي المُتزايد، بالسماح بالتظاهر في ميادين مُحددة مسبقًا، إلا أنَّ بعض تلك التظاهرات خرجت عن النسق المرسوم، ونجحت في الوصول إلى ميدان التحرير -في مشهد لم يعهده المصريون منذ انقلاب 2013- قبل أن تنجح قوات الشرطة في تفريقهم واعتقال العشرات منهم، فيما وجه النظام أذرعه الإعلامية بضرورة التركيز على تاريخ مصر في دعم القضية الفلسطينية، ودورها في ضمان التهدئة وأنَّها الضامن الحقيقي لاستقرار الإقليم.
يقف النظام في مصر في موقفٍ صعب خصوصًا مع الغزو البري الوشيك لغزة، وتدهور الأوضاع الإنسانية هناك بشدة، وهو ما من شأنه أن يُشعل غضب الشعوب التي تناصر القضية الفلسطينية ويقلّص مساحة الدبلوماسية التي تتحرك عليها دول عربية ذات ثِقل كمصر والسعودية بهدف التهدئة، يعلم السيسي أنَّه بحاجة إلى توخي الحذر في كيفية إدارته للصراع، نظرًا لانخفاض شعبيته وسط الأزمة الاقتصادية في مصر والمشاعر الواسعة المؤيدة للفلسطينيين داخل الشعب المصري.
يظل السؤال قائمًا حول احتمال تغير موقف السيسي في نهاية الأمر نتيجة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، وقبوله بتوطين آلاف الفلسطينيين في سيناء مقابل تخفيف أعباء الديون على مصر، أو أي إغراءات اقتصادية أخرى، كما حدث من قبل بعد مشاركة مصر في حرب الخليج الثانية، فمن جهة لم يبدِ السيسي أي اهتمامٍ حيال عملية التفريط في الحقوق الجغرافية لمصر، وهو ما ظهر في التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية، فيما يخشى السيسي في حالة الرفض أن تتفاقم التوترات بين القاهرة وواشنطن.