حيرة المستبدين وسط نيران الثورات

حيرة المستبدين وسط نيران الثورات لا تصدقوا ما يبدو أنه رباطة جأش يبديها الاستبداد.

فقد كانت المنطقة العربية وما يجاورها طوال العصر الحديث تشكل “حوضاً جغرافياً” يستقر بقدر ما تتصف أوضاعه السياسية – والثقافية – بالتناغم، وبقدر ما تنجح نظمه السياسية – الملكية والجمهورية – في تبادل المصالح والاتفاق على خطوط عريضة لأسس النظم السياسية القائمة، مهما بدت من ناحية البنية مختلفة. ومع اندلاع “ثورات الربيع العربي” بموجتيها بدا لكثيرين أن بالإمكان احتواء التغيير بالترغيب والترهيب، وخلال سنوات عصيبة سفكت دماء عشرات الآلاف وأنفقت ربما مئات المليارات، على نحو أوهم كثيراً من البسطاء وبعض المثقفين بأن الطريق واضح وأن الهدف قابل للتحقق، ولكن الحقيقة أن المال والدم كانا ثمناً فادحاً لحالة من “الحيرة التاريخية” سقط في هوتها المستبدون. فالإدراك المتزن لحقائق التاريخ لا تتوفر للنظم السياسية المغرقة في الرهان على شراء “الوسائل” واستهداف “الغرائز“، وبخاصة غريزة البقاء.

والتاريخ نهر يندفع بقوة جبارة لا تنحني لصفاقة أحد، ولا ترتد عن وجهتها أمام وسائل تنصت أكثر حداثة، أو أجيال أكثر تأثيراً من “قنابل الغاز المسيل للدموع“. والعالم العربي اليوم تهتز أركانه بقوة رفض مليونية في الهلال الخصيب وشمال أفريقيا، و”الاستثناءات القليلة” (المغرب، الأردن، بعض دول الخليج العربي)، هي استثناءات إلى حين. والغضب الراهن ليس حالة عاطفية بقدر ما هو “يقين عربي جديد“، حدوده لم تزل فضفاضة لكن نواته الصلبة ليست كذلك على الإطلاق، وجوهر هذا اليقين العربي الجديد أننا: “نستحق أفضل من ذلك“، بـ “حسابات الممكن” وبـ “حسابات ما ينبغي أن يكون“.

والثورة إذ تشعل حريقاً سياسياً يخشاه المرضى بالاستقرار بوصفه نوعاً من الاستمرار الغامض في السير نحو مصير مؤلم، خوفاً من شبح ما هو أكثر إيلاماً، ونسبة كاسحة ممن يرفضون رؤية “نار الثورة” على يقين من أن الاستمرار في السير في طريق الاستقرار لا يحمل لهم وعداً مغرياً، وغاية ما يعدهم به ألا تحرقهم الفوضى. والقناعة بأن الأمن (بمعايير النظم الاستبدادية) كافٍ للتضحية بكل شيء، يفقد المزيد من الأنصار كل يومٍ تقريباً، فالضائقة الاقتصادية المتزامنة التي جلبها الفشل السياسي والفساد أصبح واضحاً أنها ستزداد ما لم تحلق النظم السياسية بجناحي: “الكفاءة” و”الشفافية” وكلاهما لا يستغني عن الديموقراطية ودولة القانون.

وحيرة المستبدين وسط نيران الثورات العربية حيرة مستحقة، فالغضب يمتد ويتجذر بوتيرة لم يتوقعها أكثر أنصار الثورات تفاؤلاً، والمشهد في بيروت وبغداد والخرطوم والجزائر أكد ما لا يدع مجالاً للشك أن النار ما تزال مرشحة للانتشار، وأن برامج التنصت وأطنان المدهشة قنابل الغاز المسيل للدموع الأكثر فتكاً عاجزة عن منح الغاضبين سبباً في الانحياز إلى خيار الاستمرار والاستقرار، والوعيد إذ يحل محل الوعود المغهمة بالأمل، يجعل خيار الثورة أرجح عند كثيرين. والجائعون فعلياً، والمهددون بالجوه احتمالاً لن تمتليء أمعاؤهم الخاوية ولن تمتليء قلوبهم بشيء من الأمل بمزيد من التهديدات ولا بهجمات أكثر عدوانية على الملايين التي تتحرك نحو ساحات الاحتجاج التي تعددت حتى صارت خارطة قسم كبير من العالم العربي مرصعة بميادين الاحتجاج وساحاته.

ولو أن نجاحاً اقتصادياً عربياً واحداً تحقق في ظل الاستبداد على نحو يجعله نموذجاً قابلاً للاستنساخ لربما كان المستبدون أقل حيرة، لكن “الاستثناء النفطي” يظل استثناءً لا يقاس عليه من وجوه كثيرة، والنماذج غير العربية للتنمية في ظل القمع، إما فشلت فشلاً ذريعاً كالاتحاد السوفيتي، أو فشلت محاولات استنساخها كـ “النموذج الصيني” الذي يبشر به كثيرون ويحلم به كثيرون. والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين مختلف تمام الاختلاف عن العالم العربي في القرن الحادي والعشرين، والمستبدون الحالمون باستعادة اقتصاد النصف الثاني من القرن العشرين، وإعلامه، وبنيته السياسية، هم في الحقيقة عاجزون عن الإفلات فخ “الحيرة التاريخية“، فلا تنخدعوا باليقين الذي يبدو في الخطاب وبعض جوانب السلوك. فلقد أتت نيران الثورة على عمود خيمة الاستبداد العربي، وما بقاؤهم إلا كصدى لقول رب العزة سبحانه وتعالى: “فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ“.

هل النظام في مصر مستقر؟

اقرأ ايضاً : هل النظام فى مستقر؟