تمخضت “انتخابات” ملتقى الحوار السياسي الليبي التي جرت بين 1-5 فبراير ٢٠٢١ عن اختيار سلطة تنفيذية جديدة تتألف من مجلس رئاسي يتكون من ثلاثة أعضاء (رئيس ونائبين يمثلون الأقاليم التاريخية الثلاث برقة وفزن وطرابلس) ورئيس وزراء، لتحل هذه السلطة “المنتخبة” التي اختارها أعضاء ملتقى الحوار السياسي الخمسة وسبعون محل المجلس الرئاسي في طرابلس والذي تولى السلطة منذ عام 2016.
مرت عملية التصويت بمراحل عدة حيث بدأت بالتصويت لمرشحي المجلس الرئاسي داخل مجمعات انتخابية إقليمية شرط أن يحصل المرشح على أغلبية 70% داخل مجمعه الإقليمي، وهي نسبة لم يتمكن أي من المرشحين من حصدها، وقد حصل رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح في هذه المرحلة على 9 أصوات من أصل 23 صوتًا تشكل المجمع الانتخابي لإقليم برقة، فيما حصل خالد المشري على 8 أصوات من أصل 37 صوتًا تشكل المجمع الانتخابي طرابلس.
وتحصَّل عبد المجيد سيف النصر على 6 أصواتٍ من أصل 14 صوتًا تشكل المجمع الانتخابي فزان، وهي أعلى نسب تَحصَّل عليها المرشحون، بينما حصلت الشخصيات التي فازت لاحقًا في نظام القوائم على الآتي : محمد يونس المنفي 5 أصوات في المجمع الانتخابي برقة، موسى الكوني صوتين في المجمع الانتخابي فزان، وعبد الله اللافي صوت واحد في المجمع الانتخابي طرابلس.
بعد فشل الانتخاب الفردي، بدأت عملية التصويت على القوائم، وهنا بدأت الحسابات تتغير وتتعقد، فانسحب صاحب أعلى أصوات في المجمع الانتخابي طرابلس “خالد المشري” بعد أن اطمأن لحدوث توازنات معينة كما أعلن هو في تصريحه لقناة فبراير الليبية، وفي المرحلة الثانية من التصويت على القوائم غيرت بعثة الأمم المتحدة آلية احتساب الأصوات حيث قررت أن الأصوات الممتنعة لن تحسب ضمن العدد الكلي للأصوات، وقد ساهمت هذه التطورات في تشكيل النتيجة النهائية لعملية الانتخاب.
في مرحلة القوائم تشكلت القوائم التالية :
القائمة الأولى:
1-محمد حسن سليمان البرغثي رئيس المجلس الرئاسي
2-إدريس سليمان أحمد القايد عضو المجلس الرئاسي
3-علي أبو الحجب عضو المجلس الرئاسي
4-محمد خالد الغويل رئيس الحكومة
وهي قائمة تكنوقراط، لا تمثل الأطراف الفاعلة على الأرض الداخلية والخارجية وليس لها نفوذ كبير. وقد حصلت على 13 صوتا في المرحلة الأولى من التصويت.
القائمة الثانية :
1-الشريف الوافي، رئيس المجلس الرئاسي
2-عمر مهدي أبو شريده، عضو المجلس الرئاسي
3-عبد الرحمن محمد أبو القاسم البلعزي، عضو المجلس الرئاسي
4-محمد عبد اللطيف المنتصر، رئيس الحكومة
وهي قائمة فيها تمثيل لأنصار النظام السابق ومرضية لحفتر إلى حد ما، لكنها غير مقبولة في المنطقة الغربية وطرابلس، وقد حصلت على 15 صوتا في المرحلة الأولى من التصويت.
القائمة الثالثة –الفائزة- :
1-محمد يونس المنفي، رئيس المجلس الرئاسي
2-موسى الكوني، عضو المجلس الرئاسي
3-عبد الله حسين اللافي، عضو المجلس الرئاسي
4-عبد الحميد محمد دبيبة، رئيس الحكومة
وهي قائمة مناهضة لحرب حفتر على طرابلس، وهو ما أكسبها شعبية في الشارع في المنطقة الغربية وطرابلس، وهي تعبر عن توازنات داخل المنطقة الغربية وبين الأقاليم، إلا أنها لا تعبر عن توازن سياسي محلي ودولي، وقد حصلت على 20 صوتًا في المرحلة الأولى من التصويت.
القائمة الرابعة:
1-عقيلة صالح، رئيس المجلس الرئاسي
2-عبد المجيد سيف النصر، عضو المجلس الرئاسي
3- أسامة جويلي، عضو المجلس الرئاسي
4. فتحي باشاغا، رئيس الحكومة
وهي القائمة الأقوى من جهة التمثيل على الأرض وتعبر عن توازن سياسي محلي وإقليمي حيث يحظى الجنوب وجزء من أنصار النظام السابق والمنطقة الغربية (مصراتة والزنتان)، وحفتر، وحزب العدالة والبناء وتيار الثورة، بتمثيل قوي فيها، كما تعبر عن مصالح كل من مصر وتركيا وفرنسا، وهي تحظى بدعم الولايات المتحدة، وقد حصلت على 25 صوتا في المرحلة الأولى من التصويت.
في المرحلة الثانية من التصويت أجرت بعثة الأمم المتحدة التعديل المذكور آنفا على قواعد الانتخاب، مما دفع من ينوون الامتناع عن المشاركة للتصويت، ما أثر في تشكيل النتيجة النهائية حيث فازت قائمة (المنفي-دبيبة) بتسعة وثلاثين صوتا 39 مقابل 35 لقائمة (عقيلة-باشاغا).
بتتبع مراحل التصويت والنتائج في كل مرحلة والتطورات التي جرت على مستوى قواعد التصويت والتحالفات داخل ملتقى الحوار السياسي، يمكن القول إن التصويت للقائمة الفائزة كان تصويتا ضد قائمة (عقيلة-باشاغا) أكثر من كونه تصويتا لصالح (دبيبة-المنفي)، فرغم أن قائمة عقيلة صالح التي راهنت عليها الأطراف المحلية (حزب العدالة والبناء وحفتر) والدولية (مصر، تركيا، فرنسا،) هي القائمة المعبرة عن الواقع على الأرض على مستوى البلاد، إلا أن جدلية الأسماء ومواقفها كانت سببًا أساسيًّا في فشلها.
نجاح عقيلة صالح الذي دعم انقلاب حفتر في 2014 ودعمه على طول الخط في حروبه منذ ذلك الحين وصولا لحربه على طرابلس وحكومة الوفاق في إبريل 2019، في الوصول لرئاسة المجلس الرئاسي سيعد نصرا كبيرا لحفتر والدول الداعمة له، وربما ستكون تلك الخطوة قبل الأخيرة ليستكمل بها حفتر سيطرته على الدولة بعد أن تمكن من انتزاع اتفاق تسديد الديون في 12 يناير الماضي واتفاق تقاسم المناصب في 23 يناير بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والذي تحصل بموجبه المنطقة الشرقية على منصب محافظ المصرف المركزي.
وعلى الجهة الأخرى فإن تحركات باشاغا الأخيرة التي تهدف إلى تعزيز سيطرة وزارة الداخلية على العاصمة طرابلس وتقويض نفوذ الميليشيات وتصريحاته حول عملية صيد الأفاعي وخلافاته المتصاعدة مع رئيس مجلس الوزراء فايز السراج فاقمت من حالة الاحتقان والتوتر الأمني في المنطقة الغربية وأثارت تخوفا كبيرا من صعوده لرئاسة الحكومة، بتعبير آخر فإن قائمة (عقيلة-باشاغا) استفزت كل من خصوم حفتر وخصوم حزب العدالة والبناء وشبكة المصالح في طرابلس والمنطقة الغربية وهو ما أدى لخسارتهم رغم تعبير القائمة عن توازن محلي ودولي.
على الجهة الأخرى جاءت قائمة (دبيبة-المنفي) كقائمة تتحقق فيها شروط توافقية غائبة في القائمة السابقة، فالشخصيات المكونة للقائمة غير جدلية وغير مصنفة حزبيًّا وأيدولوجيا وتتسم بالبراغماتية والمرونة مع وجود رصيد أخلاقي تعززه مناهضتها للانقلاب، كما أنها قائمة يستطيع أعضاؤها ممارسة أعمالهم من طرابلس ويستطيعون التنقل بين الأقاليم الثلاث بسهولة –على خلاف قائمة (عقيلة-باشاغا)-، فهي إذًا قائمة تلبي تطلعات خصوم حفتر وخصوم العدالة والبناء ولا تشكل خطرا على تحالف ميليشيات المنطقة الغربية وليست لها خصومة مع السراج وحلفائه، كما أنها تمثل كل من مصراتة والزاوية (دبيبة، اللافي) في المنطقة الغربية، وممثل المنطقة الشرقية فيها (المنفي) ليس مواليا لحفتر، بالإضافة لهذا فإن اتفاق المحاصصة يقتضي انتقال رئاسة مجلس النواب للجنوب بعد أن تولت المنطقة الشرقية رئاسة المجلس الرئاسي والمنطقة الغربية رئاسة الحكومة.
ما يعني أن الخسارة خسارتان لعقيلة صالح حيث يفترض أن يتنحى عن رئاسة مجلس النواب حسب الاتفاق، في حين ربما يستمر مرشحا المنطقة الغربية (فتحي باشاغا وأسامة الجويلي) في مناصبهما بعد خسارتهما في حال حدث توافق بينهما وبين السلطة التنفيذية الجديدة، بمعنى أن المنطقة الغربية وخصوم حفتر –حتى الخاسرين منهم- وحلفائهم الدوليين هم المنتصر الفعلي.
انتصار قائمة (دبيبة-المنفي) حالَ دون تفجر التوتر الأمني بين الغرماء في المنطقة الغربية، لكنه لا يعني أن الأمور ستسير بسلاسة، فحفتر وحلفاؤه الإقليميون والدوليون رجعوا بخفيِّ حنين وهذا يعني أنهم سيعملون على عرقلة الاتفاق بشتى الطرق مع استبعاد العمل العسكري على الأقل في المرحلة الحالية، وذلك لأسباب عدة أهمها الدعم الدولي الكبير لمخرجات عملية الحوار، وموقف إدارة بايدن الذي لن يكون متساهلا كسابقه تجاه الحل العسكري والحروب،أحد أهم العوامل التي أعطت حفتر الجرأة على شن هجوم 4 ابريل في 2019 وتفويت فرصة ملتقى غدامس -الذي كان من المفترض أن يتم الاتفاق فيه على اتفاق مشابه لاتفاق جنيف، كان الضوء الأخضر الذي حصل عليه من إدارة ترامب، لكن إشعال حفتر الحرب من عدمه يتوقف على عوامل أخرى أكثر أهمية وهو موقف كل من مصر وروسيا بالدرجة الأولى من مخرجات الحوار واللتان لن تكونا راضيتين عليها بكل تأكيد وربما تعد تغريدات كل من الصحفيين المصريين مصطفى البكري وخالد محمود الساخطة على منصة تويتر تعبيرا عن موقف النظام المصري الفعلي، على الجهة الأخرى ستواجه السلطة التنفيذية الجديدة تحديات جسيمة في ملف الأمن والخدمات والتجهيز للانتخابات وهذه تحتاج نفوذًا داخل مؤسسات الدولة وعلى الأرض مما يعني أنه ستجد نفسها في مواجهة مع شبكة الفساد في المنطقة الغربية وطرابلس.
رغم عدم وضوح تأثيرها في المسار السياسي إلا أنه يمكن اعتبار تركيا المنتصر الوحيد، فبالإضافة لحصولها على ضمانات بعدم مساس السلطة التنفيذية الجديدة باتفاق الحدود البحرية والتعاون المشترك، فقد جاءت القائمة المنتصرة أقرب لتركيا من أي طرف دولي آخر، هذا القرب النسبي لا يعني أن السلطة التنفيذية الجديدة تملك علاقات وثيقة مع تركيا –باستثناء رئيس الحكومة عبد الحميد دبيبة- لكنه يعني أنها أقرب لتركيا منها لمصر وروسيا على مسطرة العلاقات الدولية والمواقف، فاللافي عضو مجلس النواب محسوب على تيار الثورة، والكوني من قبائل الطوارق وسفير مالي سابقا وكان قد أعلن انشقاقه عن النظام مباشرة إبان أحداث الثورة في 2011 وهو عضو مجلس رئاسي سابق مناهض لحفتر، في حين أن رئيس المجلس الرئاسي المنفي كان سفير حكومة الوفاق لليونان قبل أن يتم طرده على خلفية اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، في حين أن رجل الأعمال ورئيس مجلس إدارة الشركة الليبية للتنمية والاستثمار عبد الحميد دبيبة له علاقات جيدة مع الحكومة التركية بحكم العلاقات التجارية بين البلدين حيث حصلت تركيا على عقود إنشاءات بمليارات الدولارات عبر الشركات والمؤسسات التي يتنفذ فيها آل دبيبة.
لا شك أن الأطراف الساخطة على مخرجات الحوار داخليا وخارجيا كثيرة، ومعظمها يتركز في المنطقة الشرقية على الصعيد الجغرافي، وضمن تحالف الكرامة على الصعيد السياسي، لكنها جميعا مضطرة للموافقة بشكل رسمي على النتائج لأنها كانت مشاركة فيه وباركته ولا تستطيع التشكيك في “نزاهة” العملية، مما يتركها أمام خيار وحيد وهو تعطيل اعتماد السلطة التنفيذية الجديدة والاعتراف بها سواء محليًّا أو دوليا وعرقلة مهامها فالسلطة الجديدة تواجه تحديات كبيرة تتمثل في موقفها من فوضى التسويات السياسية والاقتصادية التي جرت وتجري مثل اتفاق تسليم منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي للمنطقة الشرقية (حفتر)، وتشكيل الحكومة في ظل نفوذ الميليشيات داخل مؤسسات الدولة وخارجها، توحيد المؤسسات في أجواء الانقسام والاستقطاب الحالية، والتجهيز للانتخابات في ظل وجود حفتر في الشرق ومرتزقة الفاغنر وهي مسألة لم تطرح للنقاش والسؤال عند سؤال المرشحين عن خططهم ورؤاهم.
اضغط لتحميل الملف