في مايو 2021، اندلعت جولة عسكريّة مفصليَّة في تاريخ الصراع بين الجانب الفلسطينيّ والاحتلال الإسرائيلي كان موضوعها القدس والأقصى، إلّا أنّ مسرحها هو قطاع غزّة حيث المعقل المنظَّم لفصائل المقاومة منذ مطلع الألفيَّة على الأقلّ، والَّذي تعاظم تدريجيًا منذ فكّ الارتباط 2005 ثمّ الحسم العسكريّ 2007.
في هذه الجولة، بدا أنّ المقاومة لديها رسالة جديدة تتعمَّد إيصالها إلى الإقليم عامةً، وإلى الاحتلال خاصةً؛ حيث بادرت غزّة، لأول مرّة، بتحديد ساعة الصّفر، عوضاً عن الاكتفاء بموقع المدافع وردّ الفعل، كما استعرضت قوّتها الصاروخيَّة الّتي باتت أكثر عنفوانًا، ونجحت بطريقةٍ ما في تثوير مناطق 48 المعروفة بالهدوء؛ وهو ما مثّل إجمالًا اختراقًا تاريخيًا في قواعد الصراع.
لم تستمرّ هذه الجولة أكثر من 11 يومًا قبل تفعيل الوساطات، إلّا أنّها تميَّزت بمستجدٍ آخر، وهو رصد مؤشّرات تغيّر إيجابي في الموقف المصريّ تجاه غزَّة، قياسًا على الموقف المتشدّد الّذي بدأ مع صعود نظام 30 يونيو – السيسي 2013.
أبرز هذه المؤشّرات كانت استخدام لغة خشنة غير معهودة ضد الاحتلال في الأوساط غير الرسميَّة المقرَّبة من النّظام، مثل برامج التوك شو ومساجد الأوقاف المركزيَّة، ثم استظهار القوافل الإغاثيَّة الّتي دخلت القطاع مقرونةً بشعار تحيا مصر – وصور السيسي، بالتزامن التقريبي مع اللقاء الذي جمع عبّاس كامل بالسّنوار لمناقشة الدّور المصريّ في إعادة الإعمار.
وضع المحلّلون “الزّمن” بما تحويه دورته القريبة من تغيّرات منتظرة إقليميًا شرطًا لتحديد ما إذا كان التغيّر في السلوك المصريّ بالإيجاب تجاه غزّة، وبالسّلب نحو الاحتلال، حقيقيَّا ومطَّرداً أم أنّ خلفه دوافع أخرى.
المربَّع صفر
في المحكّ الجادّ الأوَّل، وبعد عامين على فترة الاختبار تلك، يبدو أنّ الحكم بتغير الموقف المصريّ إيجابا تجاه غزّة، ومن ثمّ بالعكس تجاه الاحتلال، على أساس مخرَجات جولة مايو 2021، كان متسرّعاً بعض الشيء، بل ومتفائلًا أكثر مما ينبغي.
فمع انطلاق طوفان الأقصى الّتي كان الفصل الأهمّ فيها اقتحام السّياج الفاصل بما تضمّنه من تحطيم فرقة غزّة، وتكبيد العدوّ خسائر بشريَّة هائلة، والعودة بغلَّة غير مسبوقة من الأسرى، والاستعداد لصدّ الانتقام البرّي، فيما وصِفَ بأنّه “أكتوبر جديد” بمذاقٍ فلسطينيّ؛ بدا الموقف الرسمي لمصر كأنّه قد صيغ في تلّ أبيب وليس قاهرة المعزّ.
نعت السيسي الفصائل علنًا بالإرهاب، وهي التهمة الّتي تعني تلقائيًا السماح بالتّصفية، كما اقترح تهجير القسريّ لفلسطينيّي غزّة لإلى صحراء النقب، لتقليل الخسائر المدنيَّة وتسهيل العمليَّات الاستئصاليَّة ووضع حلّ نهائيّ للقضيَّة.
غير أنّ الأغرب كان تبريره لاستبعاد سيناء كوطن بديل لأهل غزّة، فكلّ ما يقلقه هو احتمال أن تتحول سيناء إلى نقطة انطلاق للعمل المقاوم ضدّ غزَّة بعد التهجير القسريّ، وهو ما قد يهدد السَّلام القائم بين مصر وإسرائيل.
رغم ولعه الشخصي بإرسال المساعدات إلى البلاد المنكوبة سياسياً أو إنسانياً لتسويق سرديته الرسمية عن فضائل الاستقرار ونجاح طريقته في الحكم، كما فعل مع لبنان والسودان وليبيا وغزة 2021؛ فإنّ السيسي آثر إطباق الحصار على القطاع من جهة رفح، كليًا تقريبًا، لـ 45 يومًا من العدوان بالتّماهي التامّ مع الإرادة الإسرائيليّة.
التلاعب بالرأي العام
من الواضح أنّ مؤشرات التغيّر الإيجابي إبان “سيف القدس” ارتبطت حصرًا بعاملين: الأول هو استظهار القدرة على الفعل في هذا الملفّ أمام إدارة بايدن، الّتي كانت قد توّعدت السيسي بمعامَلة خشنة تختلف عن نهج “ترامب”، وهو ما تحقق للسيسي في النهاية، بما تكثَّف في اتصال بايدن به لشكره على الوساطة.
والثاني هو اختبار قدرة أدواته الداخليَّة على افتعال مشهد غير حقيقي بالضرورة يمتصّ من خلاله حماسة الشارع المحتملة؛ فبدلاً من خروج النقابات والجامعات والروابط الشبابيَّة في مظاهرات تقليديَّة إسنادًا لغزة، بما قد يفتح البابَ على تصرّفات غير محسوبة على الأرض، فإنه بادر بتكليف الأذرع الإعلاميَّة والدينيَّة التعبوية للاضطلاع بهذا الدور، وهو ما تجلى حينها في الهجوم على الاحتلال.
تواطؤ لا يمكن تأويله
في الوقت الحالي خلال طوفان الأقصى، فإن هناك انبطاحًا غير مسبوق للرؤية الإسرائيلية على حساب المصلحة الوطنيّة؛ فمن جهة، فإنّ احتمال التهجير إلى سيناء قائم رغم النفي الرسمي، بالنظر إلى إخلائها في السنوات الماضية، وتدفُّق سكّان القطاع من الشمال إلى الجنوب، الذي ينتظره تهجيرٌ مماثل.. فإلى أين يذهبون؟
من جهة أخرى، فإنّ النظام المصري يبدو كما لو كان منخرطاً في حملة “علاقات عامة” لإعادة الاعتبار لمفهوم “الإرادة الإسرائيلية” التي كسرت يوم 7 أكتوبر، عبر التصالح مع التصريح علنا، دون خجل، بالعجز عن فتح المعبر بدعوى تعرضه لهجمات إسرائيلية، وابتلاع اعتداءات الاحتلال المتكررة على الأراضي المصرية، وصولا إلى تمرير التلاعب بإمدادات الغاز الذي أشرف السيسي شخصيًا على استيراده ضمن صفقة بقيمة 15 مليار دولار.
ويقطع بالانخراط الطوعي من جانب النظام في هذه الحملة، تقاعسه عن مجرد “استقبال” الأعداد المطلوبة من مصابي القطاع، وهم بالآلاف، والاكتفاء بأعداد رمزيَّة، لإكمال إطباق الحصار من الجهتين، إرسالا واستقبالاً؛ ليعود النظام المصري في علاقته مع غزة إلى مستوى 2014 – حينما سمح بعدوان وحشيّ اجتثاثيّ لأكثر من 50 يوما – وربما أسوأ!