يحتاج الإنسان المعاصر للسَّفر إلى الخارج، حيث السّياحة أو التّعليم أو العلاج أو العمل أو اللجوء، بعض الأوراق الرسميَّة مثل جواز السفر، وتأشيرة الدّولة المرغوبة، وما يكفيه من الأموال واللوجستيات. هكذا ببساطة. غير أنَّ هذا لا يسري في مصر. فبالرَّغم من إقبال المواطنين على الهجرة هربًا من جحيم الفقر والفوضى وسوء الخدمات، فإنَّ الحكومة تضيق على المواطنين مسارات السفر.
جواز السفر.. معاناة من كافة النواحي
الجواز هو كتيّب كئيب يدلّ على هُوية صاحبه الشخصيَّة وجذوره الثقافيَّة والقوميَّة، وهو منتَج معاصر بالكليَّة، لا يمكن الاستغناء عنه في رحلة مغادرة حدود الوطن الأم. وإلى جانب البيانات الأساسيَّة، فإنَّ الجواز يحوي تاريخ أسفار حامله، وكلما كان الجواز تابعًا لإحدى دول الشَّمال العالميّ المتقدّم، كانت تنقّلات حامله أسهل وأيسر.
في مصر، لا تتوقَّف معاناة المسافر مع الجواز عند ترتيبه المتواضع (91 عالميًّا) ممّا يصعّب من مَهمَّة السَّفر إلى معظم الدول المرموقة وحسب، وإنّما تمتدّ أيضًا لنظر الدّولة إليه كمصدر للدخل.
فالمواطن في الدّاخل يحتاج ألف جنيه على الأقل، بعد إضافة رسوم وثيقة التأمين الإجباريّة المستحدثة، لاستخراج الجواز لأوّل مرَّة، وفي حال رغب في تجديده من الخارج فإنَّ الدفع يكون بتسعيرةٍ مخصوصة بالعملة الوطنيَّة للبلد الّتي يعيش فيها. على سبيل المثال، يدفع المصريّ الموجود في ألمانيا 800 يورو حال اضطراره لتجديد الجواز من هناك.
ما زاد الطين بلةً مؤخرًا، أنَّ سكان المحافظات باتوا يواجهون مشكلةً في إصدار جوازات السفر نظرًا لعدم توافر الورق المخصوص المستورد في ظلّ أزمة الدولار، الأمر الذي تسبّب في اكتظاظ المواطنين في المقرّ الرئيس لإدارة الجوازات في العبّاسيّة، في مشاهد مستنسخة من التجربتين السوريّة واللبنانيّة.
صعوبات الدفع
تتقاضى مصر للطيران عادةً تكلفة التذاكر بالجنيه المصري، لكن مع دخول البنوك كوسيط في المعاملات بين المسافر والشركة، واضطرار بعض المسافرين للتعامل مع أكثر من شركة في الرّحلة الواحدة حال عدم توافر رحلات مباشرة من مصر للطيران إلى الوجهة الأخيرة؛ فإنَّ المسافر يحتاج إلى الدّولار.
تتبدّى المشكلة عندما يجد المسافر أنَّ كروت الدفع المصريّة بمختلف الفئات، الائتمان والخصم المباشر والدفع المسبق، صارت إمّا موقوفة كليًّا أو مفعّلة بهامش دولاريّ بسيط لا يكفي حتّى لشراء تذكرة طيران، فضلًا عن تغطية المدفوعات الضروريّة بالخارج حال التمكّن من السّفر.
فعلى سبيل المثال أخطر بنك “HSBC” المرموق عملاءه في مصر بأنَّ الحدّ الأقصى للشراء ببطاقة الائتمان تقلص إلى 150 دولارًا فقط. وعليه لم تتمكَّن إحدى المواطنات، الّتي وثّقت تجربتها في مقطع مصور، من دفع ثمن تذكرة مصر للطيران، نظرًا لأنَّ سعر التّذكرة تجاوز 250 دولارًا، وقد تعطَّلت رحلتها الطارئة، وهي حالة يمكن القياس عليها.
التفنّن في التعسّف
بداية 2024، هنَّأت الحكومة المصريّة المواطنين بالعام الجديد على طريقتها المعتادة: المزيد من القيود. حيث أصدرت قرارًا غير مسبوق عالميًّا، وهو منع المسافرين دون 18 عامًا من السفر وحدهم، حتّى لو توافرت لديهم كلّ المسوّغات الأساسيّة، كالجواز السّاري والتأشيرة الصّالحة وعدم المطلوبيّة الأمنيَّة.
برّرت مصادر مقرّبة من الحكومة القرار بالحدّ من الاتّجار في البشر، لكنَّ أصواتًا أخرى من دوائر الحكومة وصفت القرار بـ “غير الدستوري” لتعارضه مع مبدأ حريّة السّفر المنصوص عليه صراحةً في المادة 62 من الدّستور الحالي، حتّى أنَّ الإعلاميّة لميس الحديدي وصفته بأنَّه إعادة إنتاج لـ “الورقة الصفراء” سيئة السّمعة، حيث تضاف على شروط السّفر المعروفة الموافقةُ الأمنيّة حتى يتمكن المواطن من السفر.
المنع السياسيّ
قيود لوجستية مستحدثة بسبب أزمة الدولار، وأخرى أمنيَّة مثل التضييق على القُصَّر، وجميعها تطال شرائح واسعة من المواطنين، لكنها ليست كافية، إذ تفرض الدولة قيودًا عقابيّة على معارضي الداخل بدايةً من المطار، وحتّى التعنّت البيروقراطي ضد الموجودين بالخارج.
دوّن يحيى القزّاز الأكاديمي الشهير تجربة خاصة لعقابه أسريًّا ضمن هذا السّياق، حيث مُنعت زوجته من استقلال الطائرة للسفر لأداء شعيرة العمرة، رغم استيفائها كلّ الأوراق المطلوبة وسلامة موقفها الأمنيّ؛ وهو ما اشتكى منه أيضًا حقوقيون مثل جمال عيد ومحمد لطفي وآخرون. فيما أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرًا عن هذا النمط العقابي من قيود السفر جاء فيه نصًا: “كانت أجهزة الأمن تعاقب الإسلاميين البارزين من خلال المنع من السفر، لكنّ القيود التي تمارسها الحكومة حاليًّا قد تطبّق على أيّ معارض، حتّى تحوّلت البلاد إلى سجن”.
العمرة
ضمن خُطّة تغيير وجه المملكة والتوسّع فيما تسمّيه السياحة الدينيَّة، دشَّنت الرّياض 2022 برنامجًا لتسهيل العمرة على المصريين ماليًّا ولوجستيًّا، تقوم فلسفته على الحدّ من الوسطاء والاعتماد على التقنيَّة، باستخدام منصّة “نُسُك”.
بموجب البرنامج، لن يحتاج المصري الرّاغب في أداء العمرة أكثر من التسجيل الإلكتروني على المنصَّة السعوديَّة للحصول على تأشيرة فوريَّة، والتَّنسيق مع إحدى الشركات المنظّمة سعوديًّا لتوفير الإقامة والنقل الداخلي، بما لا يتجاوز 4400 جنيه.
ولكنّ الحكومة المصريّة وما يعرف بلجنة الحجّ والعمرة وشركات السّياحة رأت في البرنامج تهديدًا للأرباح المحصَّلة من المعتمرين، فأصدرت توجيهات صارمة إلى منافذ الخروج وشركات السّياحة لإلزام المعتمرين بالحجز عبر “بوابة العمرة المصريَّة”، وهي البرامج الَّتي تصل أسعارها إلى أضعاف العرض السعوديّ.
التقدير
لا تعارض الحكومة المصريَّة سفر المواطنين، لكنّها ترغب في تحصيل أكبر قدر ممكن من العوائد خلال الإعداد البيروقراطي للرحلة، كما ترغب في فرض نظام مغلق صارم لمتابعة الذوات المسافرة لأسباب أمنيَّة وسياسيَّة.
ولكنَّ الهواجس الأمنيّة والسياسات الاقتصاديّة الطّائشة قوّضت من الحقّ الطّبيعي للمواطن المصريّ في السَّفر، ما أثّر سلبًا في حركة المجتمع، فقد انخفض أعداد المعتمرين إلى النَّصف تقريبًا بعد ما كان المصريّون في الصّدارة بين الدول الإسلامية، كما بات العديد من العاملين في الخارج يفضّلون إرسال الأموال لذويهم في الدّاخل عبر وسطاء عوضًا عن الجهاز المصرفي، وهو ما أدى إلى تراجع تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال العام المالي 2022- 2023، إلى 22.1 مليار دولار هبوطًا من 31.9 مليار دولار في العام السابق.
وفي الأخير، تجب الإشارة أيضًا إلى القيود الضريبيَّة والأمنيَّة الَّتي تفرضها الحكومة على متعلّقات العائدين من الخارج، كما يلاحظ عدم نجاح المعالجة الأمنيّة للهجرة غير النظاميّة، مع لجوء الرّاغبين فيها لبدائل التفافيَّة كالعبور من ليبيا. وهو ما يشير إلى عدم رضوخ المواطنين المصريين، وبالأخص الشباب لسياسات تقويض السفر للخارج في ظل اليأس من القدرة على التكيف مع الأوضاع المتدهورة في الداخل.