“قاعدة عسكرية أم مبنى سفارة؟!”، تساؤلات أثارتها صور نشرها حساب السفارة الأمريكية في لبنان على منصة (X)، في شهر مايو من العام الماضي، لمباني السفارة الجديدة في منطقة عوكر على بعد ١٣ كلم من العاصمة بيروت. وفي بلد من بين أصغر بلدان المنطقة، بلغت مساحة مباني السفارة الجديدة ٩٠ ألف متر مربع من أصل ٢١٠ آلاف متر مربع من مجمل مساحة الموقع الذي أشرف على إنشائه “مكتب عمليات البناء ما وراء البحار OBO” في وزارة الخارجية الأمريكية. ولئن كان جيش الاحتلال الإسرائيلي يخوض الحرب على لبنان في ميادين المواجهة العسكرية، فقد أدارت واشنطن هذه الحرب من الداخل اللبناني، انطلاقًا من أقسام “السفارة”، لكن وفق محاور من نوع مختلف.
استراتيجية شاملة
لا تعمل السياسة الأمريكية في لبنان وفق ردات الفعل ولا تبعًا لتداعيات “٧ أكتوبر” فحسب، إنما تعمل وفق استراتيجية معتمدة مسبقًا. ففي أبريل ٢٠٢٢، أصدرت السفارة الأمريكية في لبنان وثيقة بعنوان “استراتيجية شاملة لدولة لبنان”، ثم روجعت هذه الوثيقة وعُدلت في أغسطس ٢٠٢٣. وشملت هذه الاستراتيجية العمل على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والشعبية، “بما يتوافق مع غايات الأمن الإقليمي للولايات المتحدة الأمريكية”.
فعلى الصعيد الأمني، سعت السفارة الأمريكية لـ “العمل مع الجيش اللبناني على تطوير وثائق التخطيط الاستراتيجي”، والذي يمكن ربطه بالمساعي الأمريكية لزيادة عديد الجيش اللبناني في جنوب لبنان، في مقابل تقليص عديد القوات المؤقتة للأمم المتحدة.
وفي السياسة، تدعو الوثيقة إلى “دعم تطبيق القرارين الصادرين عن مجلس الأمن ١٥٥٩ و١٧٠١”، واللافت أنها تربط ذلك بـ “تشجيع الناشطين والأحزاب الشيعية على تقديم بدائل عن حزب الله عبر إبراز منافسين سياسيين من خارج صفوف الحزب”، وهذا ما يفسر تركيز وسائل الإعلام على “تصدير شخصيات سياسية وإعلامية ودينية من الشيعة المعارضين للحزب”. كما يُتوقع أن توفر هذه القنوات الإعلامية منصات ومنابر للمرشحين المستقلين الشيعة قبل أي انتخابات مقبلة.
ولتعزيز هيمنتها على مختلف نواحي الحياة في لبنان، تريد السفارة الأمريكية “تشجيع تحسين وخصخصة الأصول المملوكة للدولة لزيادة فرص الشركات الأمريكية”، والقطاعات الأساسية المعنية بهذا المسار هي المواني والمطار والاتصالات لدخولها ضمن نطاق الجانب الأمني. فحزب الله متهَم باستخدام مرفأ بيروت ومطارها ضمن طرق إمداده الاستراتيجية، وقطاع الاتصالات مرتبط بالمهام التجسسية والاستخبارية والهيمنة عليه ستتيح منع حزب الله من ترميم وتطوير شبكات الاتصالات الخاصة به.
محاور الضغط الداخلي
ضمن المسارات المذكورة أعلاه، تسعى الإدارة الأمريكية عبر سفارتها في لبنان للاستفادة من قوة النيران الإسرائيلية للتضييق على حزب الله داخليًّا، والعودة بلبنان إلى مرحلة ما بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري عام ٢٠٠٥.
فمنذ سبتمبر الماضي، دأبت السفيرة الأمريكية في لبنان ليزا جونسون على حشد مسؤولين لبنانيين معارضين لحزب الله لفرض ضغوط داخلية على الحزب والمتحالفين معه في محاور القتال جنوبًا، كالجماعة الإسلامية مثلًا. وتتمحور هذه الجهود على الضغط الشعبي والإعلامي من جهة، والاستثمار السياسي في البرلمان والحكومة من جهة أخرى، في مراهنة واضحة على انتصار إسرائيل وتوظيف ذلك في “اليوم التالي للحرب”.
وعبر الترهيب بحرمانهم من تولي مناصب، أو الترغيب بحصولهم على مكتسبات معينة، حاولت جونسون منع مسؤولين لبنانيين من التعاون مع حزب الله وحلفائه في الملفات الداخلية، بما في ذلك ملف النزوح الإنساني، مركزة على الساسة السنة المعارضين للحزب كالنواب أشرف ريفي ووضاح صادق وفؤاد مخزومي. وكان لافتًا في هذا الجانب تصريح وضاح صادق في ٣٠ أكتوبر بأنَّ “مطار بيروت بأكمله تحت إدارة حزب الله”، وأنَّ “هناك أبوابًا في المطار لا يدخلها إلا عناصر من الحزب”، ما أثار سخطًا بين اللبنانيين الذين اعتبروه تحريضًا للاحتلال الإسرائيلي على استهداف المطار.
وعلى الصعيد الإعلامي، فعّلت السفارة لجنة إعلامية تابعة لها عملت على توجيه وسائل الإعلام المناوئة للحزب، كقناة “إم تي في”، ومؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي لحشد الرأي العام نحو المطالبة بتطبيق القرار الأممي ١٥٥٩، القاضي بنزع سلاح كافة الجماعات المسلحة بما يشمل حزب الله والجماعة الإسلامية والمخيمات الفلسطينية.
أما في البرلمان، فقد دفعت السفيرة جونسون بقوة نحو إقرار قانون التمديد لقائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون. حيث تقدم باقتراح هذا القانون في البرلمان نائب رئيس حزب القوات اللبنانية النائب جورج عدوا، لكنه قصر المقترح على التمديد للعماد عون دون سائر قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية. تريد الإدارة الأمريكية الإبقاء على العماد عون في منصبه ريثما يُنتخب رئيسًا للجمهورية، خاصة مع امتناع رئيس البرلمان نبيه بري عن عقد جلسة البرلمان لانتخاب الرئيس.
ملاحقة قادة الحزب وجرحاه
دور “سفارة عوكر” لم يقف عند هذا الحد، بل شمل دورًا استخباريًّا هدفه ملاحقة قادة الحزب وكوادره وتضييق الخناق عليهم. إذ تحوي مباني السفارة محطة خاصة بوكالة المخابرات المركزية CIA، تضم فريقًا من ١٥ ضابطًا أساسيًّا إلى جانب موظفي التجنيد وجمع وتحليل البيانات، بإدارة شيري بيكر. وقد أشار تقرير لجريدة الأخبار اللبنانية إلى أنَّ شيري تعمل مع فريقها على التواصل مع مصادر أمنية لبنانية للحصول منها على معلومات وتقديرات حول التعيينات الجديدة في هيكلية القيادة لحزب الله، ومراقبة مسار علاقات الحزب بالأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية.
وضمن ذلك تلقت شركة طيران الشرق الأوسط إنذارًا من السفارة الأمريكية بفرض عقوبات عليها، فيما لو نقلت على متن رحلاتها مصابين من لبنان للعلاج في الخارج خاصة ممن أصيبوا في تفجيرات أجهزة الاتصال والبيجر.
تفاعل دون المأمول
لكن هذه الخُطط الأمريكية وجولات السفيرة ليزا جونسون لم تلقَ بعد ما يكفي من الآذان الصاغية. فباستثناء النواب ريفي وصادق ومخزومي، وحزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، نأى سائر معارضي حزب الله بأنفسهم عن مسار التصعيد الداخلي التي تدعو له جونسون.
فرئيس الحكومة السابق سعد الحريري وجه جمهور تيار المستقبل لإعانة النازحين من جمهور حزب الله، وحزب الكتائب لم يشارك بشكل فعلي بالاجتماعات التي رعتها السفارة؛ رفضًا منه لترأس سمير جعجع لهذه التحركات، وأما زعيم الدروز وليد جنبلاط فكانت مواقفه منسجمة مع مواقف الرئيس نبيه بري. ورغم حملات التحريش بين النازحين والسكان المحليين المعارضين للحزب، فإنَّها لم تسجل احتكاكات لافتة يمكن أن تنعكس سلبًا على السلم الأهلي.
ماذا بعد وقف إطلاق النار؟
وافق الاحتلال الإسرائيلي في نوفمبر على مقترح وقف إطلاق النار مع لبنان، لكن نتنياهو أكد التزام جيش الاحتلال باستهداف تحركات حزب الله فيما لو حاول ترميم قدراته العسكرية والأمنية واللوجستية. ويتوقع أن يفسح وقف إطلاق النار في جنوب لبنان المجال أمام السفارة الأمريكية وحلفائها في الداخل اللبناني لتطبيق السياسات الأمريكية، ما يعني أنَّ الجبهة الداخلية ستشهد في الأسابيع المقبلة تحركات مكثفة لاستكمال الضغط على الحزب وحلفائه.
وأمام تعقيدات المشهد اللبناني، فمن المتوقع أن يقدم حزب الله تنازلات سياسية خاصة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، حيث سيولي الأهمية الأكبر لملف الإعمار والنازحين. وفي المقابل، ستكون واشنطن وحلفاؤها أكثر حماسة تجاه زيادة الضغط على الحزب لإرساء معادلة سياسية جديدة في المشهد اللبناني، لا يكون حزب الله فيها الطرف الحاسم كما كان قبل الحرب.