يبدو أنَّنا على موعد مع إعادة تبلور لشكل القوة وتوازناتها بمصر في لعب بالنار. فقد انتشرت ظاهرة التشكيلات والتنظيمات المسلحة برعاية الدولة بداية من شركة فالكون التي تأسست بواسطة “البنك التجاري الدولي” لتعمل في عدة مجالات خاصة بالأمن ونقل الأموال والحراسات الخاصة قبل أن تدخل لاحقًا مجال الإعلام باستحواذها على شبكة تليفزيون الحياة، وصولًا إلى تربع صبري نخنوخ رئيس جمهورية البلطجة على فالكون، ولتُسند إليها تأمين العمليات الانتخابية بعض المقرات الحكومية.
إنَّ الشركات الأمنية الخاصة موجودة في الكثير من البلدان منذ عقود، إلا أنَّ هناك عدة أسئلة لا بُدَّ من طرحها حول وجودها في مصر إذ يصبح السؤال حتميًّا ومقلقًا عندما تُكلف بمهام حساسة في دولة استبدادية ذات طابع مركزي تعشق الاستحواذ على كافة مصادر القوة.
دعونا نطرح بعض الأسئلة
لماذا تسند هذه الشركة المتوغلة في المجال الأمني بمصر لواحد من عتاة البلطجية له تواصلات مباشرة مع شبكات البلطجية في مختلف أنحاء البلاد؟
ما الدافع الذي جعل النظام السياسي الأمني الاستبدادي يلجأ إلى شركة خاصة ويعطيها هذه المساحة الواسعة عكس ما دأب عليه طوال تاريخه من تفريغ أي مكون مجتمعي من القوة؟
لماذا يخاطر النظام بتكوين قوة خارج النظام الحكومي مهما اعتقد أنَّها تحت سيطرته الكاملة؟
النظام والمجتمع
من المهم محاولة فهم رؤية النظام للمجتمع المصري، وفي ضوء هذه الرؤية يمكننا الإجابة على تلك الأسئلة، فالنظام لا يرى شعبًا ولكنه يرى أدوات لتعظيم السلطة والثروة له وللطبقة الحاكمة المرتبطة طفيليًّا به، وكذلك لا يؤمن النظام بحقوق دستورية للشعب ولا حقوق مالية ولا حق في الثروة، فالشعب فقط أدوات بشرية وعبء يجب التحكم فيه والحفاظ عليه؛ التحكم فيه للسيطرة على الثروة والحفاظ عليه لبقاء النفوذ والسلطة.
ولذلك ففكرة الدولة الحديثة التي نتجت في الغرب إثر تطور اجتماعي طويل ودموي ومعقد لا توجد إطلاقًا في ذهن السلطة في مصر ولا حتى في تركيب مؤسسات السلطة، توجد فقط الإجراءات الشكلية مثل مجالس نيابية ونيابة عامة ودستور وغيرها من الأدوات التي تنشأ لتحافظ على قدر من التوازن بين السلطة والمجتمع.
لذلك فمحاولة الفهم من عدسة إدارة الدولة المؤسسية ربما تجنح بنا إلى أخطاء كبيرة، فالنظام السياسي يستخدم الشعب والثروة ولا يديرهما، وبالتالي تصبح المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية ومؤسسات المراقبة هي المؤسسات الرئيسية التي تربط الشعب بالسلطة وليس الدستور والقانون والصحافة والمجالس النيابية، وبالتبعية تصبح هذه المؤسسات الأمنية والعسكرية هي قمة النظام، وتصبح المؤسسات الدستورية التي تربط الشعب بالسلطة مجرد أشكال مسرحية لا بُدَّ من وجودها ليس أكثر.
من يصنع حائط الصد
نجح النظام بعد انقلاب 2013 في التقدم بخطوات كبيرة في هذا المسار الكارثي، ويبدو أنَّ النجاح حقق أكثر من المتوقع مع تحطيم كافة القوى المجتمعية الرسمية التي كانت تكمل صورة الدولة الحديثة. ومع البطش الهائل الذي مارسته السلطة ضد المعارضة، بعد أن كانت سابقًا تحافظ على قدر من التوازن مع وجود رجال دولة حقيقيين -حتى لو فاسدين- يدركون النقاط الحرجة التي تدمر الدول، ويدركون الإجراءات التي تسرع ذلك الانهيار، وهي في الغالب إجراءات لا يمكن التراجع عنها بسهولة.
ومع الانهيار الحادث واستحالة التراجع عن المسار الذي يتبناه النظام، والتشابك الكبير في المصالح داخله، وضخامة الفساد وانهيار الجودة في كل المجالات بات من الحتمي صناعة حوائط صد بين النظام والمجتمع، وكان السؤال: من يصنع هذا الحاجز؟
قديمًا كانت الإجابة واضحة، إنَّه الجهاز الأمني بفروعه وفي حال تطور الأمور فالمؤسسة العسكرية جاهزة، وهذا ما حدث في انتفاضة الخبر عام 1977 وفي أحداث الأمن المركزي 1986 وفي يناير 2011 بأشكال متعددة، أما الآن فالإجابة ليست كذلك عند النظام. فربما لم يعد يعتقد النظام بقدرة الجهاز الأمني بمفرده على التصدي للثورة القادمة من وجهة نظره، وربما لم يعد يريد إقحام هذا الجزء الهام من الطبقة الحاكمة داخل الصراع كي لا تخسر الثروة والسلطة بالاحتكاك مع الشعب، ولا نعني هنا الأفراد، ولكن الجهاز كمؤسسة لها شخصية اعتبارية ومصالح معقدة داخل شبكات مصالح النظام.
إنَّ خطورة الثورة القادمة إن حدثت أنَّها قد تأخذ شكل تمرد واسع النطاق، فحجم الفقر والإذلال والبؤس وصل لمراحل مؤلمة داخل قطاعات واسعة من المجتمع، لذلك جاءت إجابة النظام دعنا نستعين بتشكيلات من داخل المجتمع تحظى بميزات القرب من السلطة. كان هذا التصور موجودًا عند الأنظمة السابقة لكنها قامت به بصورة غير رسمية عبر شبكات البلطجية ضمن سقف لا يتجاوزونه، أما النظام الحالي فهو يدير هذا الملف على الملأ ويعلنه ويدعمه. وبالتالي فالنظام ينشئ حائط صد من داخل المجتمع موجود مسبقًا، ولكن عبر تقنينه لردع أي ثورة قادمة من داخل الشعب، فلا يحتك النظام مباشرة بالجماهير إلا إذا ساءت الأمور.
ميليشيات بقوة القانون
إذًا ما الهدف من تقنين تلك التشكيلات إذا كان موجودًا من البداية وعمل مع الأنظمة السابقة بنفس المنهج؟
على مدى السنوات العشر الماضية زادت حدة الفصل بين الطبقة الحاكمة وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية والعسكرية وبين باقي طبقات المجتمع. ولم يعد الفصل فقط من ناحية القدرة المادية ولكنه أصبح فصلًا اجتماعيًّا وثقافيًّا، وليس أكثر إيلامًا من السؤال المتكرر أنت من مصر أم من “إيجبت” دلالة على وجود قيم وأنماط مختلفة بين الشعبين شعب مصر وشعب “إيجبت”.
كما تحاول الطبقة الحاكمة ومن في فلكها الخروج من مصر وبناء إيجبت الجديدة المتمثلة في مناطق مغلقة تحت الحراسة ومدارس ونوادٍ وتجمعات متعددة وغيرها من المظاهر التي تعمق الفصل بين الطرفين، هذا الفصل المادي يتحول إلى انفصال نفسي وثقافي عميق يحفز الطرفين كل منهما ضد الآخر، وبالتالي ينبغي وجود حائط صد بينهما وقت الحاجة دون أن يكون جزءًا من “إيجبت” ولكنه جزء من مصر القديمة.
وكان هذا الفاصل هو شركة فالكون للحراسة، وكذلك اتحاد القبائل الذي يحمل مظالم تاريخية حقيقية مع أبناء الوادي ومع النظام السياسي نفسه، ولكنه ربما يكون الحاجز الثاني بعد فالكون، فهو يمتلك تسليحًا أفضل وتماسكًا أكبر وتنظيمًا قبليًّا أكثر إحكامًا من تنظيمات البلطجية.
الخطر الحتمي القادم
هناك أمور بالغة الخطورة في هذا المسار تخبرنا بها التجارب السابقة في دول أخرى:
أولًا: إنَّ وجود ميليشيا أو تنظيمات شبه مسلحة تتعاون مع الدولة وتتولى المهام غير القانونية يشكل خطرًا بالغًا في لحظة ما على النظام السياسي نفسه.
ثانيًا: تشكيل هذه التنظيمات من نظام استبدادي يزدري شعبه يؤكد أنَّ هذه التنظيمات موجهة ضد الشعب بالأساس وهذا يصعب كثيرًا من أي ثورة ناجحة قد تحدث نتيجة الضغط الكثيف على المواطنين.
ثالثًا: تلك التنظيمات قد تمثل أحد مقدمات الحرب الأهلية في وقت ما كما حدث في السودان وغيرها من الدول وكأننا نسير على نفس النهج.
رابعًا: يمكن أن تنفصل مع الوقت هذه التنظيمات عن كلا الجانبين سواء الشعب أو السلطة فهم ليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء، مما يرفع معدلات التوتر والعنف.
هذه المخاطر تتطور مع الوقت وتصل إلى نقطة حرجة تُفقد فيها السيطرة مهما حاول النظام السياسي كبح جماحها، فستأتي لحظة نتيجة لخلل يحدث في توازن القوى نتيجة متغيرات غير محسوبة.
إنَّ هذه التشكيلات نتيجة مباشرة لتوغل السلطة وتوحشها، وعدم وجود أي مدافعة حقيقية لها في كل المستويات، ونؤكد أنَّ السلطة لا تتوقف عند سقف معين إلا لو كانت مدركة ماذا تعني الدولة، وهذا ما تفتقده السلطة الحالية في مصر جملة وتفصيلًا.