دخلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الحادي عشر، توازيًا مع اشتعال جبهة جنوب لبنان منذ يوم ٨ أكتوبر الماضي. وألقت الحرب ظلالها على المشهد السياسي في لبنان، وانعكست على المجتمع اللبناني -كما هي العادة دائمًا- تباينًا في المواقف لتأخذ طابعًا طائفيًّا.
هذا التباين ليس وليد اليوم، إنما هو استصحاب لمواقف تاريخية اتخذتها الطوائف اللبنانية بأحزابها وتنظيماتها المختلفة خلال الحروب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، ومن أبرزها اجتياح بيروت عام ١٩٨٢. لكن ما فاجأ بعض المراقبين هو موقف سنة لبنان من الحرب، والذين برزوا بالأعم الأغلب وبمختلف انتماءاتهم كداعمين ومؤيدين للمقاومة الفلسطينية في غزة، ومؤيدين لجبهة الإسناد في الجنوب وإن كان مع بعض التحفظ تجاه حزب الله تبعًا للموقف المسبق منه.
التفاعل الإيجابي
أبدى الشارع السني بمختلف مكوناته تفاعلًا إيجابيًّا مع الحرب الدائرة في غزة وجنوب لبنان، خاصة بعد ارتقاء العديد من عناصر وكوادر كتائب القسام وسرايا القدس وقوات الفجر بالقصف الإسرائيلي في الجنوب. كما لوحظ بشكل لافت رفع صور “أبي عبيدة” و”إسماعيل هنية” في مناطق السنة في بيروت والبقاع وطرابلس، فضلًا عن مشاركة كثيفة غير مسبوقة في الفعاليات التي نظمتها الجماعة الإسلامية احتفاء بكوادرها الذين استهدفهم القصف الإسرائيلي. وبالإضافة إلى ذلك، أجمع خطباء الجمعة السنة على عنوان دعم المقاومة الفلسطينية ومناصرتها، وركز بعضهم على تمسك سنة لبنان ببندقية المقاومة كحل وحيد في مواجهة العدو الإسرائيلي، أبرزهم مفتي زحلة والبقاع الشيخ علي الغزاوي الذي رفع بندقية في خطابه خلال تشييع أحد كوادر قوات الفجر في البقاع.
فشل الرهان
قبيل معركة “طوفان الأقصى”، راهن البعض على إقصاء دور السنة الريادي في القضية الفلسطينية ووضعهم في خندق واحد مع قوى اليمين المسيحي في مواجهة حزب الله. لقد عمدت الرياض عبر أساليب الترغيب والترهيب إلى إفراغ الساحة السنية من أي وجه قيادي، حتى رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري -رغم ضعف أدائه السياسي- أُجبر على تعليق عمله السياسي منذ عام ٢٠١٩ ليغادر بعدها لبنان.
تربط السعودية سياستها ضد حزب الله في لبنان بسياستها في المنطقة كلها تجاه الحركات الإسلامية والقضية الفلسطينية، ولذا أرادت أن ينسحب خلاف سنة لبنان مع حزب الله في الداخل اللبناني على موقفهم من القضية الفلسطينية وفصائل المقاومة. لكن معركة “طوفان الأقصى” انعكست سريعًا وبشكل مباشر على سنة لبنان، فالفراغ الذي تعمدت الرياض إحداثه في الساحة السنية كان حاضنة مثالية لرموز المقاومة الفلسطينية، والتقارب الذي أرادته المملكة مع أحزاب اليمين المسيحي بشخص قائد القوات اللبنانية سمير جعجع تحول إلى نفور شديد، تبعًا لموقف الأخير من القضية الفلسطينية وتحالفه التاريخي مع الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
كيف أحيا “طوفان الأقصى” الوعي السني؟
يتشكل الوعي المجتمعي من روافد أبرزها العقيدة والتاريخ، لذا فقد اختزن الوعي السني على مر السنين ثوابت راسخة تجاه القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى المبارك والعداء مع كيان الاحتلال الإسرائيلي. لكن السنوات الأخيرة شهدت محاولات حثيثة لإحداث اختراق في الوعي السني في المنطقة عمومًا ولبنان خصوصًا، خاصة في العقد المنصرم.
لقد حاول محور التطبيع تذليل العقبات أمام التقارب مع العدو الإسرائيلي، والتأسيس لمرحلة يصور فيها أهل السنة كحلفاء لإسرائيل في مواجهة المحور الإيراني. وفي المقابل، يمهد هذا النهج الطريق لتصوير المقاومة وكأنها قضية المحور الإيراني وحده، وصبغها بصبغة شيعية في مقابل المحور السني- الإسرائيلي المزعوم. ورغم أنَّ شعوب المنطقة بمعظمها بعيدة عن القناعة بهذا الاصطفاف المزعوم، فإنَّ نجاح محور التطبيع في تشكيل تحالف كهذا سيكون نقطة سوداء يدونها التاريخ وتتناقلها أجيال المستقبل، وهنا يكمن الخطر الداهم.
لقد سجل التاريخ تحالف المارونية السياسية في لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي إبان اجتياح بيروت عام ١٩٨٢، وبات من الصعب مسح هذه النقطة السوداء من الذاكرة اللبنانية والعربية. وقد أراد محور التطبيع إلصاق هذه الوصمة بسنة المنطقة عمومًا وسنة لبنان خصوصًا، لكن الطوفان جاء بما لم تشتهه سفن المطبعين.
لقد استطاع “طوفان الأقصى” إحياء الوعي السني واستنقاذه من محاولات جره إلى هوة تاريخية سحيقة، وأعاد سنة لبنان إلى المسار الصحيح في الصراع المركزي مع الاحتلال الإسرائيلي. ولا يستبعد أن يكون يوم “٧ أكتوبر” نقطة التحول التي ستعيد تشكيل الموازين الشعبية والسياسية للمشهد اللبناني فيما يتعلق بسنة لبنان. بيد أنَّ الرهان يبقى على حسن استثمار النخب الشرعية والسياسية لهذا الوعي المتجدد، على أمل النهوض بمشروع جامع يتجاوز الأطر التنظيمية الضيقة ويضع التفاعل السني الإيجابي مع “الطوفان” في مجراه الصحيح.