تاريخية مشكلة الاستهلاك الذاتي بين الموضوع والذات
كان عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي 660 ألف فلسطيني، وفي قطاع غزة 400 ألف فلسطيني؛ ومع ذلك تصوّرت قوى الثورة الفلسطينية حديثة النشأة حينها، قدرتها على إطلاق حرب تحرير شعبية من داخل الأرض المحتلة، فأعلنت حركة “فتح” عن انطلاقتها الثانية في 28 آب/ أغسطس 1967، بعد فترة وجيزة على هزيمة حزيران/ يونيو، مستندة في جانب من دوافعها إلى هزيمة النظام الرسمي العربي، ومن ثمّ القدرة على تعزيز خطاب مقابل، يدفع نحو فاعلية فلسطينية ذاتية تستدعي نظريات حرب التحرير الشعبية من التجربتين الماوية والجزائرية وغيرهما، بالرغم من أن الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ نفسه، كان قد قال في العام 1964، لوفد من حركة “فتح”: “إذا تمكنتم من تفجير ثورة والاستمرار بها فإنّي سأكون سعيدًا لدراسة قوانين جديدة لحرب شعب في ظروف لا تنطبق عليها قواعد حرب الشعب التقليدية”.
لم يكن ماو وحده الذي لا يرى إمكانية لإطلاق “حرب الشعب” من داخل فلسطين، فحركة القوميين العرب، في مرحلة المدّ الناصري قبل الهزيمة، وقبل أن تنبثق عن هذه الحركة، حركة ثورية فلسطينية تبنت فيما بعد الأيديولوجيا الماركسية، كانت تجادل حركة “فتح” في أنّ فلسطين تفتقد للشروط اللازمة لحرب الشعب، بخلاف الجزائر المختلفة جدًّا في مساحتها وعدد سكّانها وطبوغرافيتها.
لم تنجح الانطلاقة الثانية لحركة “فتح” (الأولى الرسمية أعلن عنها في الأول من كانون الثاني/ يناير 1965، بينما بداية البلورة الفعلية للمشروع بدأت منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي في غزّة ومصر والكويت ولبنان وبلاد أخرى)، فقد تمكّن الاحتلال من تفكيك الخلايا، واعتقال الأعضاء والكوادر، دون أن تتحوّل الجماهير (قليلة العدد أساسًا) إلى البحر الذي تسبح فيه “السمكة الفدائية”، كما كانت تخطّط “فتح”، وهذا يعني أن الخلايا السرّية، والدوريات المطاردة، لم تكن لتتحوّل إلى قواعد آمنة في مناطق شبه محرّرة تُنهي بالتدريج الوجود الاستعماري الصهيوني.
قد يبدو مفاجئًا أن يتمكن الاحتلال من تفكيك هذه الخلايا في وقت قياسيّ بعد وقت وجيز على احتلاله الضفّة الغربية، لكن حين النظر، في الحالة النفسية العامّة بعد الهزيمة، وفي كون الجماهير في الضفّة الغربية كانت للتوّ جزءًا عضويًّا من المملكة الأردنية الهاشمية التي تمكنت من ضرب أحزاب المعارضة في الخمسينيات، بينما كانت غزّة خاضعة للإدارة العسكرية المصرية دون إلحاق عضويّ بمصر، وهذه الجماهير أصلاً قليلة العدد، في مساحة جغرافية ضيقة ومحصورة، وتفتقد للظهير الخلفي المساند، فإنّه يمكن ملاحظة قدرة الاحتلال العالية، بما يحوزه من تفوق عسكري وبشري، على تفكيك البنى التنظيمية الفلسطينية في تلك الأوضاع.
الفشل في إطلاق “حرب الشعب” من الداخل، عزّر التوجّه نحو نظرية القواعد الآمنة خارج الحدود، في عملية استنساخ للتجربة الفيتنامية، فكان الحضور الكثيف للثورة الفلسطينية في الأردن مستفيدًا من هزيمة النظام الرسمي العربي في حرب حزيران/ يونيو 1967، ومن دعاية معركة الكرامة في آذار/ مارس 1968، ومن دعم النظام القومي العربي للثورة الفلسطينية، لأسباب دعائية بعد الهزيمة، وفي سياق الصراع مع ما يسمّى حينها “الرجعية العربية”. هذا الوجود انتظم في لبنان منذ العام 1969 برعاية جمال عبد الناصر، ثم انتقل بالكلّية بعد سلسلة الأحداث الشهيرة في الأردن والتي دُعيت اختزالاً بـ “أحداث أيلول”، والتي استمرت من أيلول/ سبتمبر 1970 وحتى تموز/ يوليو 1971.
كان الوجود الثوري الفلسطيني في المحيط العربي بفلسطين، محكومًا بعوامل إقليمية أخذت تتغير مع وفاة جمال عبد الناصر، ثم مع خروج مصر من الصراع بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد. نبّه ذلك إلى ضرورة تعزيز البناء التنظيمي في الداخل، وهو ما أخذ يُدفع نحوه منذ النصف الثاني من السبعينيات حتى انفجار الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 1987، وقد كانت الحركة الإسلامية بدورها قد أخذت تسير أكثر نحو التبلور في صيغ المقاومة منذ السبعينيات تتويجًا بالانتفاضة الأولى.
كان للانتفاضة الأولى أن تدوم فترة طويلة، لطابعها الشعبي، من جهة اتساع الشرائح الشعبية المشاركة فيها، لسهولة الاصطدام بالعدوّ المختلِط بقوّاته ومقرّاته بالفلسطينيين، ولوفرة أدوات تلك الانتفاضة، مثل رمي الحجارة ورفع الأعلام والكتابة على الجدران. الاتساع الشعبي، شتّت جهد الاحتلال، وحفظ الظاهرة التنظيمية، التي تحوّلت بدورها إلى ظاهرة اجتماعية، إلى حين تأسيس السلطة الفلسطينية، التي قضت بمجرّد وجودها على الانتفاضة وما صاحبها من ظاهرة تنظيمية، فقد أربكت بكونها واقعًا جديدًا الحركة الوطنية الفلسطينية، وأفقدت أدوات الانتفاضة معناها، وهو ما وضع العناصر والكوادر التي احترفت تلك الأدوات أمام بطالة نضالية، باستثناء حركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي” اللتين أخذتا منذ بداية التسعينيات تتحولان إلى نمط جديد من العمل العسكري، تعرض لضربات قاتلة في وقت لاحق، من السلطة والاحتلال، إلى حين انفجار الانتفاضة الثانية.
ثمّة نقاش حول المدى الزمني الذي كان يمكن للانتفاضة الأولى الاستمرار نحوه لو لم يقض عليها اتفاق أوسلو (1993) ودخول السلطة الفلسطينية المتدرّج إلى الأرض المحتلة، بيد أنّ الشعب قليل العدد في الجغرافيا المحصورة، والذي باتت معاناته الاقتصادية تتفاقم مع طول الانتفاضة، وبدايات عزله في الضفّة الغربية عن الأراضي المحتلة عام 1948 منذ العام 1991، وفي ذروة احتياجه إلى عوامل دعم الصمود، ربما لم يكن له أن يستمرّ بالوتيرة نفسها، وإن كان يمكن لمظاهر الاشتباك والمواجهة أن تبقى ما دام الاحتلال موجودًا في مراكز المدن، مع قدرته الواسعة على تفكيك التنظيمات، وهو ما حصل بالفعل منذ مطلع التسعينيات فصاعدًا، لقدرته على مراكمة الخبرة، كونه دولة مستقرّة، في مقابل فصائل تعاني الاحتلال المباشر، وتتعرّض لعمليات التفكيك اليومي.
الانتفاضة الثانية ونموذج الاستهلاك الذاتي
بدأت الانتفاضة الثانية والفصائل الفلسطينية منهكة ومفكّكة، فحركة “فتح” حزب السلطة، و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” تعرّضتا لعمليات تفكيك عنيفة ولحوحة مزدوجة من السلطة والاحتلال، وقد بدأت الانتفاضة وكوادرهما في سجون السلطة، فضلاً عن سجون الاحتلال، بينما كان اليسار الفلسطيني قد انحسر حجمًا وفاعلية، بيد أن سياسات الرئيس الراحل ياسر عرفات، بعد فشل مفاوضات كامب ديفد التي جمعته برئيس وزراء الاحتلال الأسبق إيهود باراك، فتحت الطريق أمام الاشتباك مع الاحتلال، وقد سهّلت ذلك مناطق (أ) في الضفّة الغربية التي تحوّلت إلى نطاق ارتكاز قبل إعادة اجتياحها في عملية “السور الواقي” عام 2002، بينما ظلّت غزّة تتمتّع بظروف أفضل من حيث الاستقرار المتحرّر من وطأة الاحتلال المباشر وهو الأمر الذي تطوّر لصالح المقاومة عام 2005، حينما فكّك الاحتلال مستوطناته من قطاع غزّة، يضاف إلى ذلك دعم الانتفاضة باشتراك قطاعات من السلطة وحركة “فتح” فيها. بيد أنّ الشاهد في كون الجميع دخل هذه الانتفاضة منهكًا ودفعة واحدة.
أخذ الزخم الانتفاضي الجميع. ودون أن تُوسِّع التنظيمات من قاعدتها التنظيمية بحيث تتمكن من استيعاب الضربات الأمنية، ألقت بكادرها وصفّها الأوّل في أتون تلك الانتفاضة، وفي غمرة حماسة المنافسة، ودوافع الانتقام من الإجرام الصهيوني الواسع، بدأ خطاب “حرب الشعب” يعود من جديد للتفكير الفلسطيني، لا من حيث المفردة، ولكن من حيث المعنى، الذي يذهب إلى إمكانية تحرير فلسطين من الداخل، فظهرت التصريحات، التي كانت تكشف عن تصورات كامنة، بإمكانية تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بتلك الانتفاضة وأدواتها!
بالرغم من أن تلك الانتفاضة كانت تحدّيًا قاسيًا على الكيان الصهيوني دولة ومجتمعًا، فإنّه لم يكن له أن يترك الضفّة الغربية التي تمثّل عمقه الإستراتيجي من جهة الجبهة الشرقية، بالإضافة إلى موقعها في دعاية التأسيس والاستقطاب الصهيوني، وأهميتها للتمدّد الاستعماري الاستيطاني، وإلى جانب ذلك، الإصرار الصهيوني بعدم تكرار تجربة الانسحاب من جنوبي لبنان بالصورة نفسها، وهو ما دام يمتلك التفوّق الأمني والعسكري الكاسح، وما دام الفلسطينيون محاصرين، وقد تلقّى دفعة دعم عالمية هائلة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، فإنّه سيتّجه لإعادة اجتياح مناطق (أ)، وقتل الرئيس الفلسطيني الرحل ياسر عرفات. ذلك ما لم يتوقّعه أحد من الفاعلين الفلسطينيين إلا النادر غير المشهور.
الخطأ الذي يمكن القول إنّ الفصائل وقعت فيه، مزدوج من التصوّر الذي ذهب، لدى بعض مؤثّر على الأقل، إلى إمكانية تحويل الانتفاضة إلى حرب تحرير، ومن استهلاك الكادر التنظيمي في تلك الانتفاضة، وهو الكادر الذي امتلك الخبرة والإرادة، وبعضه كان خارجًا للتوّ من السجون، وكثير منه كان من كادر الانتفاضة الأولى، فآلت كوادر التنظيمات، في الضفة الغربية، إلى الاستشهاد أو الاعتقال المؤبّد أو الاستنزاف بتوالي الاعتقالات، ثم لم تأخذ التنظيمات فرصتها لإعادة بناء نفسها، ففي مفارقة تاريخية، انتهت انتفاضة الأقصى إلى انتخابات رئاسية وتشريعية تكرّس وجود السلطة التي كانت قد قضت بدورها على الانتفاضة الأولى وأنهكت التنظيمات الفلسطينية، ومن ثمّ لم يكن لهذه الانتخابات أن تفضي إلا إلى ما يُسمّى بـ “الانقسام الفلسطيني” عام 2007، وهو الذي مكّن من حشر الفاعلية المسلّحة للمقاومة في غزّة، والاستفراد بتنظيمات المقاومة في الضفّة المحتلّة، وبما أن “فتح” عادت للتكرّس حزبًا للسلطة، فقد تقدّمت في وعيها وممارستها الخصومة مع “حماس” على الصراع مع الاحتلال.
العامل الذاتي، في تفكيك الفصائل في الضفّة الغربية، كان في كثافة عملية “الاستهلاك الذاتي”، وأمّا العوامل الموضوعية، ففي كونها دخلت الانتفاضة منهكة بقاعدة تنظيمية محصورة، ثمّ في عملية “السور الواقي” التي أطلقها شارون لتفكيك ما تبقى من الخلايا التنظيمية في المناطق (أ)، ثم في انعكاسات “الانقسام” على الضفّة الغربية في صورة الحملة المزدوجة المروّعة، من الاحتلال والسلطة، التي استمرت عالية الوتيرة لسنوات، مصاحبة بسياسات تهدف إلى إعادة هندسة الجمهور لصرفه عن الهمّ العامّ، بما في ذلك مواجهة الاحتلال.
لم يكتف الاحتلال بذلك، بل راكم سياسة أمنية إستراتيجية من ثلاثة عناصر، مؤسّسة بدورها على البنية الاستعمارية الاستيطانية في الضفّة الغربية. هذه العناصر هي:
أولاً- توسيع البنية الاستعمارية، لأهداف استيطانية وأمنية وعسكرية إستراتيجية، ولأهداف أمنية يومية، فمزّق الضفّة الغربية، بالجدار الفاصل، والطرق الالتفافية، والأراضي المصادرة، والحواجز الدائمة، والبوابات الحديدية، ومن ثمّ بات الاحتلال يمتلك من جهة أدوات ضبط وسيطرة يوميّة تتحكم بحركة الفلسطيني الفيزيائية، ومن جهة أخرى أدوات عقاب جماعيّ قادر على تفعيلها في لحظة واحدة لشلّ حركة جميع الفلسطينيين.
ثانيًا- تطوير أدوات الرقابة وتعظيمها ونشرها، كالكاميرات عالية الدقة والمعزّزة بتقنيات التعرف على الوجوه، على طول الضفّة الغربية وعرضها. هذه الأدوات مؤسّسة أصلاً على البنية الاستعمارية المادية سابقة الذكر، ومن ثمّ يملك الإسرائيلي معرفة يوميّة بحركة الفلسطينيين، فضلاً عن قدرته على الاكتشاف الفوري، لمنفذّي العمليات، ومن ثمّ الوصول إليهم، لمعرفته الدقيقة بخطّ سيرهم. وهذا بالإضافة إلى التفوّق التقني الهائلي غير المرصود.
ثالثًا- سياسة “جزّ العشب”.
من بين جملة سياسات لاستنزاف الكادر، تجدر الإشارة إلى سياستين أمنيتين في نمط الاعتقالات، استخدمهما الاحتلال لضرب الفصائل الفلسطينية الفاعلة، الأولى سمّاها “نبش الجذور” أو “نبش القبور”، يفعّلها في التحدّيات الأمنية التي لا يملك فيها معلومات كافية، فيعمد إلى توسيع دائرة الاعتقال لتطال أعدادًا واسعة ممن كانت لهم سابقة تنظيمية، حتى لو انقطعت، لا بهدف الانتقام فحسب، ولكن بهدف البحث عن المعلومة الصحيحة من وسط هذه الأعداد، على افتراض أن العناصر والكوادر المنقطعة والخاملة أشبه بالخلايا النائمة أو بالوسط القابل لاستئناف الدور أو تقديم الخدمات، ولا شكّ أيضًا أنّ هذه السياسة لا تخلو من قدرة على الاستنزاف المادي والنفسي، وقد يستخدمها كذلك في أجواء الخشية من توسّع حالة كفاحية جارية.
السياسة الثانية يسمّيها “جزّ العشب”، وتعني قطع البنى التنظيمية حديثة التشكيل ، وحرمان الفصائل مما تتمكّن من استعادته أو بنائه أو مراكمته، فيشنّ حملات الاعتقال التي تهدف إلى التدمير الآني والمباشر فضلاً عن الاستنزاف للكوادر، وهي سياسة بات يستخدمها مع النشطاء الفاعلين غير المنظّمين مع اتساع دائرة الفعل الشعبي والعمليات الفردية في الضفّة الغربية.
بالتأكيد لا يعتمد الاحتلال على الفعل الأمني المباشر فحسب، بل يستند إلى خطط اقتصادية واجتماعية ودعائية، كما أنّ حضور السلطة الفلسطينية أثّر عميقًا في البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني، بما من شأنه أن يتعارض مع فكرة المواجهة، أو يُضيّق من إرادات الانتماء التنتظيمي.
تقنية “جزّ العشب” إلى غزّة
وعلى أيّ حال، فإن تقنية “جزّ العشب” استخدمها الاحتلال، كذلك، تجاه المقاومة في قطاع غزّة، ولكن بصورة مختلفة، فانعدام الوجود الاحتلالي المباشر لقطاع غزّة، وتحكّم فصيل مقاوم بالقطاع، أتاح لقوى المقاومة المنظّمة فرصة الاستقرار النسبي، ومن ثمّ مراكمة الخبرات والاستفادة من التجارب وحسن استثمار العقول والكفاءات، وتوسيع القاعدة التنظيمية القادرة على استيعاب الضربات الأمنية، التي كانت تأخذ شكل الاغتيالات، لا الاعتقالات، منذ استكمال الاحتلال انسحابه من القطاع في العام 2005.
بالإضافة إلى الاغتيالات التي تراجعت لاحقًا بسبب قدرة المقاومة في غزّة على صياغة المعادلات التي تحدّ منها، كان الاحتلال يسعى لافتعال مواجهات محسوبة ومدروسة لتدمير قدرات المقاومة واكتشاف خططها وتجهيزاتها، وغير بعيد عن ذلك الحرب السرّية لكشف خطوط إمدادها وضربها في أيّ مكان في العالم، مستفيدًا من الحصار المطبق المفروض عليها وعلى المجتمع الذي تقع في وسطه.
ظلّت المواجهات مستمرّة بين المقاومة في غزّة والاحتلال، حتّى بعد تفكيكه مستوطناته عام 2005، حتى اكتشفت المقاومة حاجتها إلى تطوير خططها وتعظيم قوتها، في حرب 2008/ 2009، وقد انعكست فرصة المقاومة في التقاط أنفاسها، وقطع الطريق على سياسة “جزّ العشب” في حرب العام 2012 حينما كشفت عن تطوّر في قدراتها الصاروخية وثقتها بتجهيزاتها الأمنية المتعلقة بعمليات التمويه والإخفاء والإطلاق، وهو الأمر الذي انعكس في قفزة أكبر في الحرب الملحمية عام 2014، ثم أخذ مدى أوسع في حرب العام 2021، بالرغم من وقوع عدد من المواجهات خلال السنوات السبع تلك، ومن ثمّ لم يكن للمقاومة أن تعود لخوض حرب طاحنة في العام 2022 بالرغم من التحدّي المستفزّ المتجسّد في “مسيرة الأعلام” الصهيونية في القدس في 29 أيار/ مايو 2022، وما سبقها في اليوم نفسه، من اقتحامات استيطانية للمسجد الأقصى غير مسبوقة في مراسمها، كانت تهدف إلى تكريس التقسيم الزماني للمسجد، بفرض الصلوات اليهودية فيه، ورفع الأعلام الإسرائيلية، وأداء الطقس الذي يسمونه “السجود الملحمي”.
لا شكّ أنّ هذا التحدّي كان ثقيلاً على المقاومة، التي ربما زاد من عبئها بعض الخطابات لبعض قادتها السياسيين التي رفعت سقف توقع الجماهير في ملفات محدّدة كاقتحام المسجد الأقصى و”مسيرة الأعلام”، لكن المقاومة تجاوزت الحسابات الدعائية، لصالح الحسابات الإستراتيجية، وإن لم يكن هذا بالتأكيد السبب الوحيد، فهي بالتأكيد لم تشأ دخول المعركة بتوقيت العدوّ وفي ذروة استعداده وتحفّزه.
لا يخفي ذلك مشكلات أخرى إستراتيجية وسياسية ولوجستية للمقاومة في غزّة، ناشئة عن ظرفها الخاص في غزّة، المؤسّس في جانب منه على عملية فصل قهري وخلق ظروف متباينة بين جغرافيات الفلسطينيين اقترفها الاحتلال، وسياسات ذاتية متباينة كذلك بين جغرافيّاتهم، لكن وبما أنّ ذلك قد صار واقعًا بالفعل، فليس أمام المقاومة في غزّة إلا الاستفادة من التجربة التاريخية للفصائل الفلسطينية، بتحديد أهداف أكثر واقعية من فكرة المقاومة داخل فلسطين، ومن ثمّ سياسات أكثر تحوّطًا في مواجهة حملات الاستنزاف والتفكيك الإسرائيلي.
**الآراء الواردة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر منتدى العاصمة**