شهدت السنوات الأخيرة عودة اهتمام فرنسا بمنطقة الشرق الأوسط بشكل مكثف، خاصة في لبنان وسوريا، حيث يرتبط التاريخ الحديث لكلا البلدين بالاستعمار الفرنسي للمنطقة عقب سقوط الخلافة العثمانية. تتمحور السياسة الفرنسية تجاه لبنان وسوريا حول مستويات عدة، في طليعتها الهاجس الأمني الذي أرقها منذ عقود، فضلًا عن اهتماماتها الاقتصادية وروابطها الثقافية الفرنكوفونية، وسعيها المتجدد لتعزيز دورها كقوة فاعلة في المنطقة. فالعالم العربي عمومًا هو المنطقة الأصلية الأولى للطلاب الأجانب في فرنسا، واستثمار فرنسا التعليمي في العالم العربي ضخم للغاية، حيث يعيش فرنكوفوني واحد بين كل ستة مواطنين عرب، ولسوريا ولبنان نصيب وافر من هذه الشريحة. كما أنَّ حضور فرنسا العسكري في الشرق الأوسط يأتي في الدرجة الثانية بعد حضورها في الساحل الأفريقي، بقرابة 2000 جندي فرنسي في المنطقة، ما يعطي إشارة حول المرتبة التي تحتلها على أجندة باريس الخارجية. بينما يُعد الاستثمار الفرنسي الرئيسي في كل من لبنان وسوريا حاليًّا سياسيًّا وأمنيًّا في الدرجة الأولى.
تراجع نفوذ باريس في لبنان وسوريا بشدة مع انتهاء عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك عام 2007. فمن الناحية الثقافية، تراجعت القوة الناعمة الفرنسية في مقابل تقدم القوى الأنجلو سكسونية، والقوى الإقليمية مثل إيران وتركيا. كما فقدت فرنسا موقعها كوسيط للصراع، حيث تراجع الحضور الفرنسي حتى وقت قريب وحل محله الأمريكي بالدرجة الأولى. غير أنَّ تداعيات الثورة السورية ثم الأزمة الاقتصادية في لبنان، وتراجع ترتيب منطقة الشرق الأوسط على سلم أولويات الولايات المتحدة، كل ذلك دق أجراس قصر الإليزيه لينذر بضرورة التحرك ومواكبة التغيرات التي قد تطرأ.
العودة إلى لبنان: بين المصالح والالتزامات
غاب الدور الفرنسي الفعال عن الساحة اللبنانية أمام تعاظم الأدوار الأمريكية والإيرانية والسعودية، غير أنَّ انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 دفع بالدور الفرنسي إلى الواجهة مجددًا. فبعد يومين من وقوع الكارثة، حطت طائرة الرئيس الفرنسي ماكرون في بيروت حيث تجول في شوارعها وتفقد الأحياء المتضررة وقابل سكانها، وأعاد إلى الذاكرة الاستعمار الفرنسي للبنان مطلع القرن العشرين.
وفي 31 أغسطس أيضًا، أعاد ماكرون الكرة إلى بيروت مؤكدًا أنَّ حكومته تولي الشأن اللبناني اهتمامًا خاصًا، وطرح خلال هاتين الزيارتين خُطة إصلاحية مالية واقتصادية وسياسية للبنان. ولم يوفر الرئيس الفرنسي أي محفل دولي إلا وطرح فيه الأزمة اللبنانية على طاولة البحث، كما في “قمة بغداد 2” وزيارته إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وتجلى دور باريس الضاغط في إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فيما تقود شركة الطاقة الفرنسية “توتال” التكتل الدولي الذي وقع اتفاقيتي التنقيب عن الغاز الطبيعي وإنتاجه مع الحكومة اللبنانية. وفي ظل استمرار الشغور الرئاسي في لبنان، تحولت باريس إلى محطة رئيسية في المشاورات الرئاسية، فيما تكاد تكون الدولة الغربية الوحيدة التي لا زالت تدفع أوروبا باستمرار نحو الاهتمام بالملف اللبناني.
ترى باريس أنَّ لبنان وثيق الصلة بها تاريخيًّا وثقافيًّا، كما أنّها قادرة على المناورة بين أطراف النزاع اللبنانيين في ظل إمكانية تعاطيها مع حزب الله حيث لم تصنفه كجماعة إرهابية. بالإضافة إلى ذلك، تشعر باريس بمسؤولية وشبه التزام تجاه المسيحيين في لبنان، الذين يرى معظمهم أنّهم ينتمون للثقافة الفرنكوفونية لا العربية، وأنّ لبنان يمتاز عن سائر الدول العربية بهُوية يستمدها من فرنسا على وجه التحديد.
وفي المقابل، تشكل الأزمة اللبنانية فرصة لماكرون وفرنسا لطرح حلول تخرج لبنان من أزمة الفراغ الرئاسي وتنتشله من الانهيار الاقتصادي الذي يعانيه-عبر حكومة لبنانية قادرة على إدارة المساعدات الطارئة وإصلاح القطاع العام والتفاوض مع صندوق النقد الدولي- ما يعطيه فرصة للتألق على الساحة الدولية وإعادة تأكيد دور فرنسا في شرق المتوسط. كما تتطلع فرنسا لضمان نصيبها من الغاز الكامن قبالة السواحل اللبنانية، في ظل انعكاسات الحرب في أوكرانيا على أمن الطاقة الأوروبي.
سوريا والهاجس الأمني
يعود الاهتمام الاستراتيجي الفرنسي بسوريا إلى مطلع القرن العشرين أيضًا، وقد أولت فرنسا اهتمامًا متجددًا لها منذ اندلاع الثورة السورية وصعود تنظيم الدولة الإسلامية. ولذا كانت أول دولة تنضم إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد التنظيم، وتحافظ حاليًّا على وجودها العسكري في مناطق سيطرة الميليشيات الكردية في شمال شرقي سوريا بعد هزيمة تنظيم الدولة هناك، جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية.
تركز الدور الفرنسي في سوريا على محورين أساسيين من المصالح والهواجس: أما الهواجس فتتمثل بهزيمة تنظيم الدولة، والتحدي المتبقي من هذا الهاجس هو المواطنون الفرنسيون الذين قاتلوا مع التنظيم ويعود بعضهم إلى فرنسا، إذ شكل الفرنسيون حوالي 42% من إجمالي المقاتلين الأوروبيين الذين انضموا إلى التنظيم منذ ظهوره في سوريا. وأما المصالح، فتريد فرنسا المشاركة في إرساء حل سياسي في سوريا يضمن لها دورًا مؤثرًا في مستقبل البلاد، كما تريد الحفاظ على إمكانية وصولها إلى موارد الطاقة (النفط والغاز) في المنطقة. وتقدم فرنسا الأسلحة والتدريب لميليشيات قوات سوريا الديمقراطية الكردية، وتسعى عبر تواجدها العسكري لتحجيم تمدد النفوذ التركي في المنطقة، إذ تتعارض سياسة أنقرة في الشرق الأوسط مع المصالح الفرنسية. كما لا تخفي باريس قلقها من توسع النفوذين الروسي والإيراني في البلاد، في ظل الحرب الدائرة بين روسيا والغرب في أوكرانيا وتوتر العلاقات بين باريس وطهران إثر الدعم الذي تقدمه الأخيرة لروسيا في الحرب.
الطريق المسدود
يعاني التفكير الاستراتيجي الفرنسي في الشرق الأوسط نوعًا من الجمود، فهي تفقد جزءًا مهمًا من أسباب وجودها في سوريا منذ هزيمة تنظيم الدولة، وتعتمد في الشأن اللبناني على تراثها التاريخي بدلًا من رؤية مستقبلية واستراتيجية متماسكة. بالإضافة إلى ذلك، تواجه في كلا البلدين تباينًا واضحًا مع الرؤية الأمريكية الأمر الذي لا يمكن تخطيه، فهي تركز على قضايا تأمين الاستقرار وتعزيز النفوذ والاستثمارات، بينما ترتبط أولويات الإدارة الأمريكية بردع حزب الله. وفي السياق الاستراتيجي الأكبر، هناك أيضًا تباين في الأولويات مع تركيز واشنطن على إيران بينما تركز باريس بشكل متزايد على تركيا.
ورغم تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة خلال الشهور الأخيرة ومحاولة استغلال باريس لذلك، فإنَّ الموقف الأمريكي المرتبط بنشاطات حزب الله ومن ورائه النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان سيحرجان الموقف الفرنسي بشكل كبير. وعليه، سيكون من الصعب على باريس فتح آفاق سياسية واقتصادية وأمنية جديدة في المنطقة بمعزل عن الموقف الأميركي تجاه إيران. ولعل ملف الرئاسة في لبنان يُظهر صعوبة تمرير باريس لخيارات تعزز حضورها دون غطاء أمريكي- سعودي. ما يعني أنَّ تطلعات ماكرون في لبنان وسوريا قد تشهد خيبات أمل جديدة، بعد سلسلة الإخفاقات التي منيت بها سياسته الخارجية في الساحل الإفريقي. وينعكس كل هذا على أداء ماكرون في الداخل الفرنسي، في ظل الأزمات المتصاعدة وسلسلة الاحتجاجات والإضرابات التي تعيشها البلاد.