مجلس الأمن القومي الأردني
لضبط إيقاع الدولة الأردنية بعد التزايد المستمر في الهوة الكبيرة بينها وبين المواطن، وتراجع ثقة المواطن الأردني بالحكومات الأردنية المتعاقبة برزت ضرورة ملحة لاستحداث فكرة مجلس للأمن القومي يعمل على ضبط البوصلة في عملية اتخاذ القرارات في ظل التداخل بين دوائر الدولة الأخرى سواء كانت أمنية أو سياسية، فالخطوة يراها العديد من المراقبين تسعى لفصل “السياسي عن الأمني” وهندسة القرار السياسي في المرحلة المقبلة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
ومن هنا فإنّ مشروع قانون مجلس الأمن القومي الأردني الذي أقره مجلس النواب الأردني بعد تعديل للدستور، ينص على أن يتألف المجلس من رئيس الوزراء ووزراء الدفاع والخارجية والداخلية وقائد الجيش ومدير المخابرات ومدير الأمن العام، وعضوين يعينهما الملك، وهو الأمر الذي يجعل جميع دوائر الدولة الأردنية سواء كانت دوائر سياسية أو أمنية تتكامل في رسم السياسات الداخلية والخارجية للبلاد.
فكرة جهاز الأمن القومي ليست جديدة لكن كثرة الضغوطات الخارجية على الأردن والمستجدات والمتغيرات المتسارعة الكبيرة حتمت إعادة إحياء الفكرة على أرض الواقع لترى النور من جديد، فالمرحلة المقبلة تقتضي ضبط حالة التشتت في صنع القرار السياسي الأردني، خاصة وأنّ هناك اتهامات كبيرة من المجتمع العشائري “الشرق الأردني” بخصوص وجود أجندات خارجية بأدوات داخلية تسعى إلى تمرير تسويات مع إسرائيل بعد الفشل الذريع الذي منيت به صفقة القرن. إذ توجد مخاوف من إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن وانعكاسات و تداعيات “حق العودة” لفلسطيني الأردن أو السماح بتوطين لاجئين جدد، الأمر سيؤدي إلى تغييرات ديمغرافية في الداخل الأردني ينعكس سياسيًّا وإجتماعيًّا على المواطن “الشرق أردني”.
وبهذا الخصوص برز مصطلح “الهوية الوطنية الجامعة”، وهو المصطلح الذي استخدمته اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في طرح مخرجاتها للإصلاح السياسي، من دون الإفصاح عن أهدافه الحقيقية وما يحمل داخله من مضامين، حيث أكدت اللجنة في توصياتها أنّ الهوية الوطنية التي تدمج الجميع وينتمي إليها الجميع، هي أحد الشروط الأساسية لبناء النموذج الديمقراطي الوطني.
وقد تطرق الملك الأردني خلال تسلمه توصيات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في 3 أكتوبر 2021 إلى مصطلح “تعزيز الهوية الجامعة”، الأمر الذي زاد من حدة التوترات في الأوساط الشعبية، باعتبار أنّ الوحدة الوطنية مهددة بالتشظّي، وذلك بعد 100 عام على تأسيس دولة أردنية لم تتضح معالمها بعد، لتزداد الحاجة إلى توضيح الرؤية حول الهوية الجامعة لتبديد الهواجس الموجودة عند الناس.
ومن الضروري التذكير بأنّ فكرة المجلس برزت في بداية الأمر عام 2005 حين عيّن الملك عبد الله الثاني مديرًا جديدا لدائرة المخابرات العامة وطلب من مديرها السابق سعد خير استحداث هيئة باسم وكالة الأمن الوطني بعد ترقيته إلى رتبة مشير وتعيينه مستشارا للملك لشؤون الأمن، لكنّ الفكرة لم يكتب لها النجاح ولم تر النور لاعتبارات ربما تكون سياسية وأمنية في تلك الفترة باعتبار أنّ الأردن كان يمرّ ببداية تغيرات عاصفة في منطقة الشرق الأوسط.
السعي إلى فصل السياسي عن الأمني
إنشاء مجلس الأمن القومي يهدف أيضًا إلى إعادة ثقة المواطنين بالدولة الأردنية، خصوصًا بعد التغوّل الكبير للأجهزة والجهات الأمنية في القرارات والتعيينات السياسية، وتدخلها في تعيين العديد من أعضاء مجلس النواب الأخير وممارسة الأجهزة الأمنية لضغوط على النواب سواء قبل ترشحهم أو بعد وصولهم لمجلس النواب. أي أن من المفترض أن يعمل مجلس الأمن القومي على الحد من نفوذ مديرية المخابرات وسحب البساط من تدخلاتها بالمشهد السياسي وإفساح المجال للمؤسسات العامة بممارسة عملها.
وسبق أن أشار وزير الخارجية الأردني الأسبق مروان المعشر قبل عدة أشهر إلى أهمية توفر الإرادة السياسية للتقدم في طريق الإصلاح، مؤكدًا أنّه لا يشعر بتوفر الإرادة السياسية، ولا بالجدية؛ وطالب بترجمة رسالة الملك إلى مدير المخابرات، والتي تطالبه بالتوقف عن التدخل بالسياسة إلى خطة عمل، قائلا إنه إن لم يحدث ذلك فإن الكلام عن الإصلاح لن يكون له معنى.
وقد شهد الأردن على الصعيد الداخلي عدة متغيرات وأحداث هامة يأتي على رأسها اعتقال السلطات في أبريل 2021 ما يقرب من 20 شخصًا لتورطهم المزعوم في مؤامرة تستهدف أمن البلاد، فيما وُضع ولي العهد السابق الأمير حمزة قيد الإقامة الجبرية، واعتقل عدد الشخصيات البارزة على رأسهم الشريف حسن بن زيد والوزير والمسؤول السابق باسم عوض الله الذي شغل ذات مرة منصب رئيس الديوان الملكي الأردني.
كما أنّه لا يمكن تغافل واقع الشارع الأردني الذي باتت لديه قناعة وإيمان راسخ أنّ المجالس النيابية والحكومات المتعاقبة مشلولة وغير قادرة على تحقيق تغيير مطلوب في ظل تراكم الأزمات الداخلية وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية في ظل ضغوطات ومتغيرات إقليمية عميقة على الأردن وفي ظل تصاعد مشروع “الهوية الوطنية الجامعة” الذي قسم الشارع الأردني بين من اعتبره تمهيدًا لتوطين الفلسطينيين في الأردن ضمن خطة أشمل وأعمق لصفقة القرن لكن بثوب جديد، وبين مدافع عن المشروع باعتباره استجابة لتوصيات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية. تلك التحديات والمتغيرات الهائلة والمتسارعة التي تواجهها الأردن تجعل ساساتها وعلى رأسهم العاهل الأردني يسعون إلى استحداث وتطوير الإستراتيجيات في البلاد لإحكام حالة القرار السياسي الذي كثر القيل والقال في الآوانة الأخيرة عن المصدر الحقيقي له، وعمن يقف خلف المطبخ السياسي الأردني وماهي اللوبيات الضاغطة في البلاد في تحديد ورسم السياسات الداخلية والخارجية..