السطو على جيوب المواطنين
تحققت في عهد السيسي نبوءة روبرت سبرنجبورج التي توقعها في كتابه “مصر في عهد مبارك” الصادر عام 1989، حيث توقع في ظل السياسات المالية لنظام 23 يوليو أن يحكم مصر نظام يجمع بين الديكتاتورية في السياسة وتبنى توجهات ليبرالية متطرفة في الاقتصاد. تلك الصورة القاتمة لنظام حكم يجمع بين توجهات متناقضة وضحتها بجلاء سياسات النظام المصري في مواجهة أزمة كورونا. فالمعتاد أن النظم التي تعتمد اقتصاد السوق تنتهج سياسات ديموقراطية تراعي فيها الحريات، في حين تنتهج النظم الديكتاتورية سياسات اشتراكية تراعي الطبقات الفقيرة.
عقب إعلان السيسي في مارس 2020 عن حزمة تحفيز اقتصادي بمبلغ 100 مليار جنيه في مواجهة أزمة كورونا، توالت القوانين والقرارات الحكومية والرئاسية التي تقنن السطو على جيوب المواطنين بغرض توفير أموال للنظام يواصل عبرها تنفيذ سياساته. وذلك دون مراعاة للفقراء الذين سبق أن ارتفعت نسبتهم إلى 32.5% من السكان خلال عامي 2017 و2018، مقابل 27.8% في عام 2015 حسب نتائج بحث الدخل والإنفاق المعلنة في عام 2019، مع مراعاة أن حد الفقر في مصر حسب تقديرات الجهاز المركز للتعبئة والإحصاء يساوي 735.6 جنيها كإنفاق شهري للفرد، وهو مبلغ هزيل للغاية لا يكفي متطلبات الفرد الأساسية من سكن ومطعم وملبس وتعليم وصحة.
تداعيات كورونا الاقتصادية
ألقت الإجراءات الاحترازية المصاحبة لأزمة كورونا بالتوازي مع انخفاض أسعار النفط وتباطؤ حركة التجارة العالمية بتداعياتها على إيرادات الحكومة المصرية حيث كشف وزير المالية محمد معيط في 22 يونيو 2020 عن أن حصيلة الضرائب فقدت 125 مليار جنيه منذ بداية تفشي كورونا في مصر في مارس الماضي مضيفا أن الضرائب تمثل نحو 76% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة. وجدير بالذكر أن حصيلة الضرائب في مصر ارتفعت من 260 مليار جنيه عام 2013/2014 إلى 965 مليار جنيه في موازنة 2020/ 2021 حسب وزارة المالية.
كذلك سجلت عوائد السياحة انخفاضا بنسبة 11.2% خلال الربع الأول من عام 2020 في ظل القيود على حركة السفر عالميا، لتسجل أدنى مستوى فصلى خلال العامين الماضيين وفق بيانات البنك المركزي. فيما انخفضت إيرادات قناة السويس خلال العام المالي 2020/2019 لتسجل 5.72 مليار دولار مقابل 5.75 مليار دولار في العام المالي السابق 2019/2018 نظرا لتباطؤ حركة التجارة العالمية في النصف الأول من عام 2020 وفقا لبيان صادر عن هيئة قناة السويس.
سطو النظام على جيوب المواطنين
لتعويض العجز في إيرادات الدولة لجأت الحكومة للاستدانة من الخارج حيث استدانت في شهري مايو ويونيو 7.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي كما طرحت في شهر مايو سندات خزانة بقيمة 5 مليار دولار مع مراعاة أن الدين الخارجي بلغ 112.67 مليار دولار بنهاية 2019 مقابل 96.6 مليار دولار بنهاية 2018. وهو ما يلقي بأعباء ضخمة على الأجيال القادمة من المصريين التي ستتحمل تبعات سداد تلك الديون الضخمة رغم أنها لم تنعكس عمليا على تحسن ظروف معيشة المواطنين المصريين.
لم يكتف النظام بالتوسع في الاستدانة من الخارج إنما قرر استنزاف أكبر قدر ممكن من الأموال من جيوب المواطنين، ففتش في أوراقه القديمة وابتكر قوانين جديدة، وبدأ في إصدار سيل من القرارات المدهشة كالتالي:
- في مايو 2020 أقرت الحكومة مشروع قانون “المساهمة التكافلية” والذي يشمل خصم 1% من مرتبات الموظفين، و0.5% من أصحاب المعاشات بداية من شهر يوليو 2020 لمدة عام قابل للزيادة، لمواجهة التداعيات الاقتصادية الناتجة عن انتشار الأوبئة. وذلك بالرغم من معاناة المصريين وبالأخص أصحاب المعاشات من ارتفاع الأسعار وعدم كفاية مصادر دخلهم للإنفاق على ضروريات الحياة.
- في 22 يونيو بدأ سريان التعديلات على قانون “رسم تنمية الموارد المالية للدولة” بعد تصديق السيسي عليه، وهي تعديلات مخترعة تفتق عنها ذهن النظام متوقعا أن تجلب نحو 10 مليارات جنيه حسب تصريحات وزير المالية محمد معيط. وتتضمن تلك التعديلات زيادة عدد من الرسوم مثل رسوم استخراج المحررات الرسمية من مصلحة الشهر العقاري التي ارتفعت من جنيه واحد إلى 5 جنيهات فضلا عن فرض رسوم جديدة على عقود اللاعبين الرياضيين، وتراخيص الشركات الرياضية، وأجهزة المحمول والإكسسوارات بنسبة 5%، وخدمات الإنترنت المقدمة للشركات والمنشآت، وذلك بواقع 2.5% من قيمة الفاتورة. وذلك لاستخراج الأموال بأي بشكل من جيوب المصريين.
- فتح النظام ملفاته القديمة فخرج بفكرة جديدة في مطلع يوليو 2020 تتمحور حول زيادة “ضريبة الإذاعة” من 140 قرشًا إلى 100 جنيه عن السنة الواحدة في أي سيارة مجهزة لاستخدام الراديو حتى لو لم يكن يعمل بداخلها أو كان غير موجود من الأساس. وهو قرار يُتوقع أن يجلب دخلا يتراوح بين 700 مليون جنيه إلى مليار جنيه سنويا.
- أما الذين اغتنوا من بناء العقارات أو من وجدوا مسكنا لهم جمعوا تكاليفه عبر العمل المضنى لسنوات عديدة، فقد قرر النظام الحاكم فرض إتاوة عليهم، حيث أعلن رئيس الوزراء في يونيو عن صدور قرار متعلق بفرض غرامات على البناء بأثر رجعي يُدعى «رسم جدية التصالح» يوجب على مخالفي تراخيص البناء دفع رسوم بشكل مؤقت لحين تحديد قيمة الغرامة المستحقة على كل مخالف، على أن يخصم الرسم من القيمة النهائية المحددة، أو يتم رده في حال رفض طلب التصالح . وفي 7 أغسطس أصدر مجلس الوزراء بيانًا، أعلن خلاله تقديم المواطنين لعدد 600 ألف طلب للتصالح، ووصول إجمالي المتحصلات الخاصة برسم جدية التصالح إلى نحو 1.1 مليار جنيه.
- أما الهاتف المحمول الذي سبق للسيسي أن أعلن تمنيه فرض رسوم على كلا طرفي المكالمة فلم يسلم من الإتاوات الجديدة، حيث جرى الإعلان عن زيادة ضريبة الدمغة على استخدام الهاتف المحمول بدءا من شهر يوليو لتصبح 67 قرشًا بدلًا من 51 قرشًا لعملاء الكارت المدفوع مقدما، ورفع قيمة الضريبة بالنسبة لعملاء الفاتورة لتصبح 8 جنيهات بدلًا من 6.10 جنيه. وهو ما سيوفر مبالغ كبيرة في ظل وجود أكثر من 96 مليون اشتراك بخطوط الهاتف المحمول حسب شركة فودافون.
- لم يفت السيسي أن يبحث عن طرق لتسويق صفقاته الخاسرة، وفي مقدمتها صفقة شراء الغاز الطبيعي من إسرائيل بمبلغ يقترب من 20 مليار دولار، حيث فشل في إعادة تصدير الغاز المستورد بسعر 5.5 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية بعد إسالته نظرا لانخفاض سعر الغاز الطبيعي عالميا وبالأخص بعد أزمة كورونا. ولحل تلك المشكلة أعلن السيسي في يوليو 2020 عدم تجديد رخص السيارات سوى في حال عملها بالغاز الطبيعي، وتكهين السيارات التي تجاوز عمرها 20 عاما، وهو مشروع ضخم سيشمل حسب وزيرة التجارة والصناعة نيفين جامع تحويل 1.8 مليون سيارة لتعمل بالغاز الطبيعي بتكلفة تقترب من 320 مليار جنيه، وهو ما سيرهق كاهل المواطن المصري المطحون.
- أما رغيف الخبز الذي يمس كل مواطن مصري، فلم يسلم هو الآخر من ضربات النظام، حيث أعلنت وزارة التموين والتجارة الداخلية تخفيض وزن رغيف الخبز من 110 جرامات إلى 90 جراما. وهو ما يعني تقليص الدعم الحكومي المقدم للمواطنين.
- أما مترو الأنفاق وسيلة المواصلات الأساسية لأغلب سكان العاصمة فقد نال نصيبه من الزيادات حيث أعلنت الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق في أغسطس عن زيادة أسعار تذاكر المترو إلى 5 جنيهات للرحلة التي تشمل 9 محطات بعد أن كانت 3 جنيهات فقط، وللرحلة التي تشمل 16 محطة إلى 7 جنيهات بدلًا من 5 جنيهات ، و10 جنيهات للرحلة التي تزيد عن 16 محطة بدلا من 7 جنيهات.
لم تقتصر إجراءات نظام السيسي على ما سبق إنما حرص على تسريع وتيرة ضم الاقتصاد غير الرسمي للاقتصاد الرسمي للسيطرة على الأنشطة الاقتصادية للمواطنين، وجني الضرائب منهم:
- أقر السيسي قانون «تنظيم انتظار المركبات في الشوارع» المعروف بقانون «السايس». وهو قانون يتضمن منح رخص مزاولة نشاط تنظيم انتظار السيارات للأفراد أو الشركات لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مقابل رسم لا يجاوز ألفي جنيه.
- أطلقت وزارتا البيئة والتضامن الاجتماعي في شهر أغسطس موقعًا إلكترونيًا لتسجيل بيانات العاملين في منظومة جمع المخلفات، والمقدر عددهم بنحو مليون عامل، تمهيدًا لدمجهم ضمن منظومة إدارة المخلفات الصلبة في ظل قرب صدور قانون جديد للمخلفات يحظر مزاولة مهنة العمل في المخلفات سواء بالجمع أو النقل أو التدوير دون رخصة صادرة من وزارة البيئة. كما تقدمت الحكومة مؤخرا إلى مجلس النواب بمشروع قانون لتنظيم المخلفات يتضمن فرض رسوم جمع قمامة تبلغ 40 جنيها على الشقة السكنية الواحدة، ومبلغا يتراوح من 500 إلى 1000 جنيه على المصانع والفنادق والمنشآت السياحية.
إن الاستراتيجيات التي يعتمدها النظام المصري للتعامل مع مشكلة تراجع إيراداته، واستنزاف فوائد خدمة الديون الخارجية لموازنته السنوية – تحقق الميزانية السنوية فائض 2% قبل احتساب فوائد خدمة الديون- والإنفاق غير الرشيد على مشاريع محدودة الجدوى اقتصاديا مثل توسعة قناة السويس، وبناء قصور رئاسية جديدة، وتطوير تسليح وتجهيزات الشرطة من أجل التصدي لأي احتجاجات شعبية مستقبلية ، هي استراتيجيات يتحمل عبئها بالدرجة الأولى المواطن في ظل انتهاج الدولة لسياسات جبائية صارمة، وهو ما يراكم الغضب والشعور بالظلم لدى شرائح متزايدة من المواطنين مما ينعكس على تزايد العنف الهيكلي في المجتمع . فرغم أن العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية تبدو ظواهر عفوية لها مبرراتها المنطقية إلا أنها في الحقيقة تحمل أبعادا عميقة تعكس البنية التحتية للعنف الهيكلي الكامن في ثنايا المجتمع. ومن أمثلة ذلك زيادة حوادث الانتحار، والاتجار بالمخدرات وتعاطيها، وحوادث السرقة والسطو المسلح، وتهريب الممنوعات مما يهدد الاستقرار المجتمعي.
وإن نظام السيسي باعتماده للقبضة الحديدية في دعم تطبيق قرارات خفض الدعم الحكومي وزيادة الرسوم والضرائب يظن أنه تخلص من شبح مظاهرات يناير 1977 التي اندلعت في عهد السادات رفضا لتخفيض الدعم الحكومي وزيادة الأسعار، ولكنها تظل معادلة خطيرة أشبه ما تكون بالقنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أي وقت.
اضغط لتحميل الملف