مع مرور شهر على القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تلاشت التوقعات المتفائلة بأنَّ ما يحدث هو مجرد تمرد سيستغرق القضاء عليه بضعة أيام، وتبين خطأ من ردّدوا بأنَّ وضع الجيش السوداني في الخرطوم أقوى منه خارجها، ولذا أجلت الدول الغربية والعربية بعثاتها الدبلوماسية ومواطنيها، بما فيهم الولايات المتحدة التي أرسلت السفينة تلو الأخرى إلى سواحل السودان لتنفيذ عمليات الإخلاء، إنَّ تلك المعطيات مجتمعة تتطلب قراءة موضوعية لواقع الصراع وآفاقه في ضوء المؤشرات المتاحة، وبعيدًا عن ضجيج الدعاية الإعلامية التي يروجها الطرفان المتقاتلان.
كتاب التوازن العسكري لا يكفي
إنَّ كتاب “التوازن العسكري” لعام 2023، الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية هو الأبرز من نوعه في توضيح القدرات العسكرية لكل دولة، لكنه لا يخلو من هامش أخطاء، وبالأخص عند تناوله الدول التي لا تتمتع بعلاقات وثيقة مع الجيوش والشركات الغربية من حيث التسليح والتدريب والتأهيل، وهو ما ينطبق على حالة السودان. لكن هذا لا يمنع الاستئناس بما ورد فيه من بيانات عن حجم ونوعية تسليح الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
يشير كتاب التوازن العسكري إلى أنَّ عدد السكان في السودان يبلغ 47.9 مليون مواطن، وأنَّ الجيش السوداني يمتلك عتادًا روسيًّا وصينيًّا بشكل أساسي كما يتمتع بخبرة عملياتية اكتسبها من الحروب الداخلية التي خاضها في مواجهة الحركات الانفصالية والمتمردة بجنوب السودان ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، فضلًا عن انخراطه في حرب اليمن، وهي خبرة تتقاسمها معه قوات الدعم السريع لكن الأخيرة لا تملك من المعدات الحربية سوى ناقلات جند مدرعة غير معروفة العدد، ومركبات خفيفة تحمل رشاشات ثقيلة مضادة للطيران طراز 14.5 مم. ويوضح الجدول التالي تسليح الجيش السوداني من حيث المعدات.
الجيش السوداني | الدعم السريع | |
عدد المقاتلين | 104300 مقاتل | 40 ألف مقاتل |
دبابات ثقيلة | 465 دبابة | – |
دبابات خفيفة | 115 دبابة | – |
ناقلات جند مدرعة | 405 ناقلات | – |
المدفعية | 860 قطعة | – |
الطائرات المقاتلة | 59 طائرة | – |
الطائرات المروحية | 40 طائرة | – |
طائرات النقل | 27 طائرة | – |
*جدير بالذكر أنَّ العدد الأصوب لقوات الدعم السريع قرابة 120 ألف مقاتل.
استراتيجية حميدتي في القتال
تشير تحركات حميدتي وشقيقه القائد الميداني عبدالرحيم إلى أنَّهما درسا جيدًا نقاط قوتهما وضعفهما، ونظائر ذلك لدى الجيش السوداني، ففور بدء أولى لحظات المواجهة سواءً بمداهمة منزل البرهان حسب رواية البرهان نفسه، أم بمداهمة الجيش لأحد معسكرات الدعم السريع حسب رواية حميدتي، انطلقت قوات الدعم السريع لمهاجمة القواعد الجوية الرئيسية بهدف تحييد سلاح الجو قدر الإمكان، وسيطرت على مطارات الخرطوم ومروي وجبل الأولياء الجوية، ودمرت وأحرقت ما فيها من طائرات حربية، كما هاجمت بشراسة القيادة العامة للجيش وأغلب المقرات العسكرية الرئيسية بالخرطوم، وذلك بالتزامن مع نشر عناصرها رفقة المركبات المسلحة في شوارع الخرطوم للسيطرة على الطرق، ولمنع الجيش من استقدام تعزيزات، ونصب كمائن لقوات الجيش التي حاولت التحرك داخل العاصمة، فضلًا عن مداهمة منازل عدد من قادة الجيش بهدف احتجاز أسرهم كرهائن، وللإيحاء بأنَّ الأمور تسير في صالح الدعم السريع. وبذلك ركز حميدتي على خوض القتال في العاصمة رغم وجود اشتباكات في عدة ولايات أخرى، وذلك لرمزيتها كمعقل للجيش.
كذلك أرسل حميدتي رسائل مبكرة إلى القاهرة الحليف الأقرب للجيش السوداني، حيث احتجزت قواته 27 ضابطًا وجنديًّا مصريًّا بقاعدة مروي، وصورتهم بشكل مهين ثُمَّ دمرت عددًا من طائرات ميج 29 المصرية الموجودة بمروي، ولم يفرج حميدتي عن الجنود سوى بوساطة إماراتية، وبعد أنْ أعلنَ رأس النظام المصري أنَّ ما يحدث في السودان شأن داخلي، وأنَّ مصر لا تتدخل في الشئون الداخلية للآخرين.
تخوفات الجيش السوداني
في المقابل بدا الجيش السوداني خلال الساعات الأولى متفاجئًا، ثُمّ سرعان ما استدعى طائراته من المطارات المتبقية بيده لقصف معسكرات وتجمعات ومقرات الدعم السريع، كما استعاد بعض القواعد الجوية مثل قاعدة مروي الاستراتيجية. لكنه ظل لأسابيع متخوفًا من خوض حرب شوارع في العاصمة التي تمثل رمزًا لوحدة الدولة وسيادتها، كما أنَّه افتقد قوات هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات، وهي قوة متخصصة في حرب المدن حلها البرهان قبل سنتين تقريبًا، ومنح مقراتها وعتادها إلى قوات الدعم السريع، في خُطوة لم يحسب جيدًا تداعياتها.
لقد أعلن الجيش السوداني ليلة عيد الفطر شن عملية تمشيط واسعة في شوارع الخرطوم لتطهيرها، ونشر صور الآلاف من جنوده المشاركين في العملية، لكن سرعان ما تجمد الوضع الميداني في ضوء انتشار حواجز قوات الدعم السريع التي تتسم بسرعة الحركة والاعتماد على عامل المباغتة في مواجهة طرف آخر لم يكن مستعدًا أو راغبًا في خوض حرب دامية في الخرطوم. ومن ثَمَّ بدأت القوى الدولية في الضغط لعقد هدنة عبر مباحثات في جدة، مما يمنح الدعم السريع الشرعية كطرف مقابل للجيش. ولكن في الأيام الأخيرة بدأ الجيش في قصف أماكن تمركز الدعم السريع مثلما حدث في القصر الجمهوري القديم ومستشفى شرق النيل، وهو ما يشير إلى أنَّ الجيش قرر حسم القتال واستعمال القصف المكثف في الخرطوم بغض النظر عن حجم الدمار الناتج عن ذلك.