دبلوماسية الفاتيكان والاستخبارات السرية
في ديسمبر الماضي استقبل بابا الفاتيكان فرانسيس عائلات الأسرى الإسرائيليين الأربعة لدى حركة حماس في غزة، وذلك برعاية وزارتي الخارجية والدفاع الإسرائيليتين، وقد طالبه وفد العائلات بالعمل على الإفراج عن ذويهم. وفي يناير الجاري دعا البابا فرانسيس إلى استئناف مفاوضات الاتفاق النووي الخاص بإيران تمهيدًا لرفع العقوبات الدولية عن طهران.
إنّ انخراط البابا فرانسيس في تلك الملفات السياسية والأمنية يُذكِّر بالدور الذي لعبه في رعاية المفاوضات السرية الأمريكية الكوبية تمهيدًا لإعادة العلاقات بين البلدين، وهو ما تطرق له بالتفصيل مستشار الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الاستراتيجية “بين رودس” في كتابه (العالم كما هو: ذكريات في البيت الأبيض بعهد أوباما)، حيث بحث الأمريكيون عن ضامن للاتفاقيات المحتملة مع الكوبيين، وطلب أوباما خلال زيارته إلى روما من البابا القيام بهذا الدور فوافق، كما رحبت هافانا به باعتباره أحد أبناء أمريكا اللاتينية. وأسفر ذلك عن زيارة أوباما لكوبا عام 2016 في أول زيارة لرئيس أمريكي للبلاد منذ 88 عامًا.
تلك الأنشطة المكثفة للبابا فرانسيس، جعلته محل بحث استقصائي من موقع إنتلجنس أونلاين سعيًا لشرح كيف يدير من الفاتيكان عملياته الاستخباراتية عبر خبراء غير رسميين يصوغون السياسة الخارجية للفاتيكان، ويهندسون عمليات دبلوماسية موازية سرية تحت أعين ومتابعة أجهزة المخابرات العالمية.
فرانسيس يرث شبكات استخبارات أسلافه
حرص البابا فرانسيس الأرجنتيني المولد منذ تنصيبه في 2013 على تطوير شبكات المخابرات الرسمية وغير الرسمية التي ورثها عن أسلافه، والتي تعتمد في عملياتها الروتينية على شبكات من الأتباع في جميع أنحاء العالم، وتصل إلى أماكن نائية من إفريقيا وآسيا يصعب على ضباط المخابرات المخضرمين من الدول الكبرى العمل فيها لخطورتها، وبالأخص وقت الصراعات والحروب وانتشار الأوبئة. ويُفضل البابا تنظيم شبكة مُجمَّعة بدقة من الأفراد الموثوق بهم والمفوضين بشكل غير رسمي بدلًا من الاعتماد على هيكلية إدارية منظمة. وبحسب إنتلجنس أونلاين، تُمرر المعلومات من خلال رؤساء الجامعات الكاثوليكية ووسائل الإعلام والجمعيات الخيرية المقربة من الكنيسة إلى الأساقفة الذين ينقلونها بدورهم إلى الكرادلة في الفاتيكان، حيث يقود كل منهم شبكة اتصالاته الخاصة، ثُمّ تصب المعلومات المجمعة في البابوية ليجري تحليلها ضمن أعلى مستوى.
التنسيق مع الاستخبارات الغربية
نظرًا لأنّ رجال الدين الذين يعملون في مجال الاستخبارات لم يُدرَّبوا في الأصل للقيام بذلك، تعتمد أجهزة الأمن في الفاتيكان اعتمادًا كبيرًا على أجهزة الأمن الغربية التي لديها تاريخ طويل في تبادل المعلومات الاستخباراتية مع البابوية. فقد سبق أن أقامت وكالة المخابرات المركزية علاقة عميقة مع يوحنا بولس الثاني البولندي الأصل، وبالأخص للتنسيق مع الحركات المعادية للشيوعية في دول الكتلة الشرقية السابقة، وفي مقدمتها حركة التضامن ببولندا.
بحسب كتاب صدر في أبريل 2021 بعنوان “جواسيس الفاتيكان“، تحدث مسئولون في جهاز مكافحة التجسس الإيطالي عن أنَّ الجناح اليميني للكرادلة قدم المعلومات لوكالة المخابرات المركزية، فيما تعاون جناح الوسط مع المخابرات الفرنسية، أما جناح اليسار فأعطى المعلومات للكي جي بي الروسي دون أن يتعاون أحد منهم مع الأجهزة الأمنية الإيطالية. ويبدو أنَّ ذلك يعزي إلى موروث التنافس بين الفاتيكان وإيطاليا، فعندما تمكن الملك فيكتور عمانويل الثاني في القرن التاسع عشر من السيطرة على الولايات البابوية ومدينة روما، ظل البابا لا يعترف بإيطاليا سوى في عام 1929 بعد إقرار حكومة روما بسيادته على المقر البابوي وبعض الأحياء المحيطة به فيما يُعرف بدولة الفاتيكان.
شبكة الاستخبارات الرسمية
يحدد تقرير إنتلجنس أونلاين الشخصيات المفوضة بالعمل الاستخباراتي رسميًّا في الفاتيكان، فالحرس السويسري بالبابوية وفيلق الدرك برئاسة دومينيكو جياني مسؤولان عن الأمن داخل الفاتيكان، ومكلفان بمهام مكافحة التجسس ومكافحة الإرهاب. أما الاستخبارات الأجنبية فتتبع لرئيس الأساقفة بول ريتشارد جالاجر الذي يدير قسم العلاقات الدولية إلى جانب ميروسلاف واتشوفسكي وكيل الوزارة لشؤون العلاقات الثنائية الدولية. بينما تختص شبكة السفراء الرسوليين للفاتيكان بنقل المعلومات المستقاة من المسؤولين الأجانب إلى البابوية.
العلاقة مع منظمة “فرسان مالطة”
تعد منظمة “فرسان مالطة” كيانًا مستقلًا لديه صفة دولة في القانون الدولي، كما تعمل أيضًا واجهة دبلوماسية للفاتيكان عبر ممثله بها الكاردينال سيلفانو توماسي الذي يتابع عمليات المنظمة وشؤونها المالية بجوار رئيس فرسان مالطة المحامي الكندي جون دونلاب. وفي ظل اشتراط اقتصار تولي العديد من المسئوليات بالمنظمة على أبناء النبلاء، يحظى الألمان والفرنسيون والإيطاليون بنفوذ كبير على حساب الأمريكيين الذين يعدون المانح الأكبر للمنظمة.
بحسب انتليجنس أونلاين، تسعى منظمة فرسان مالطة للعب دور في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا. فهي من جانب تمول العديد من المشاريع في كييف بالتنسيق مع وزارة الخارجية الألمانية، كما تقدم الدعم للاجئين الأوكرانيين في ألمانيا. لكنها في الوقت ذاته تحافظ على قنوات اتصال مفتوحة مع موسكو؛ ففي عام 2022 زار نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي فيرشينين مقر فرسان مالطة في روما رفقة سفير المنظمة في روسيا الأمير “أيمون” دوق أوستا، وهو ضابط سابق في القوات الخاصة الإيطالية، وحاصل أيضًا على وسام الصداقة الروسي من الرئيس الروسي بوتين في عام 2018، كما لديه علاقة وطيدة بأسرة رومانوف سليلة القياصرة الذين حكموا روسيا قبل العهد الشيوعي.
يحظى فرسان مالطة بوجود في الشرق الأوسط وبالأخص في لبنان، حيث بدأت المنظمة بتقديم المساعدات الإنسانية لمسيحيي لبنان في الثمانينيات بفضل جهود الأميرة ماري دي بوربون التي ساعدت في إنشاء نحو 30 وحدة طبية لا تزال قيد الاستخدام حتى اليوم. كذلك قدمت وزارة الخارجية الفرنسية الدعم لفرع فرسان مالطة في لبنان عقب انفجار ميناء بيروت في عام 2020.
أزمة الكاردينال أنجيلو بيكيو
يشرف البابا شخصيًّا على شبكة الاستخبارات غير الرسمية التي تتعامل مع القضايا الأكثر حساسية، ويضطر للتعامل مع الأزمات الناتجة عن ذلك، مثلما حدث في قضية الكاردينال أنجيلو بيكيو المشرف السابق على منظمة فرسان مالطة، والذي عُزل من منصبه في سبتمبر 2020 للاشتباه في تورطه بعمليات اختلاس. فقد لجأ الكاردينال أنجيلو بيكيو للتعاقد مع عملاء مدنيين ومتعاقدين استخباراتيين من القطاع الخاص مثل سيسيليا ماروجنا المحللة السياسية الشابة المتخصصة في شئون إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تعاقد بيكيو معها في عام 2017 للعمل مسؤولة اتصال مع أجهزة المخابرات الإيطالية، لكنها صارت تعرّف نفسها بأنّها رئيسة المخابرات السرية في الفاتيكان، مما دفع الكاردينال الأسترالي جورج بيل للإبلاغ عنها وعن بيكيو الذي سبق اتهامه بالاعتداء الجنسي على الأطفال في عام 2016. وتضمنت التحقيقات توجيه اتهامات لماروجنا بإهدار 575 ألف يورو تلقتها من الكاردينال على غرف الفنادق والسلع الفاخرة.
في ضوء ما سبق، يتضح أنَّ انخراط البابا فرانسيس في ملف الأسرى الإسرائيليين لدى حماس أو الدعوة للعودة إلى اتفاق نووي مع إيران، ليست مجرد دعوات عابرة تصدر من شخصية دينية فقط، إنّما هي دعوات تصدر من رمز ديني يملك شبكة من العلاقات العميقة بدوائر النفوذ العالمية، وأجهزة استخبارية تمكنه من التوسط والتدخل لعلاج قضايا شائكة وضمان تنفيذ الاتفاقات في حال رغبة أطراف المشكلة في الوصول إلى حل.