مؤخرًا، تعرَّض الرأي العام المصريّ إلى صدمة مرئيَّة عنيفة. مفاجأة خارجة عن المألوف. اختراق؛ لا لوسيلة عرض إلكترونيَّة، وإنما اختراق لحاجز “الصمت”. صدى، لم يُسمَع مثله قطّ، لما يسمِّيه الكاتب المصري خالد سعيد “هتاف الصامتين”.
ففي إحدى الميادين الصغيرة، في منطقة فيصل بمحافظة الجيزة، على بعد كيلومترات معدودة من ديوان المحافظة ومعلم الأهرامات السياحي وميدان التحرير وجامعة القاهرة، وفي قلب منطقة مدينيَّة مركزيَّة شعبيَّة مرتفعة الكثافة السكانيَّة، وفي جنح الليل؛ فوجئ المارَّة بإحدى الشاشات الإعلانيَّة تبثّ صورًا معارضة للرجل الَّذي لا يذكر اسمه إلا همسًا: عبدالفتاح السيسي.
على الفور، ولأسباب منها فرادة الحدث وتوافر التقنيَّة اللازمة للانتشار بين أيدي المواطنين، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالصور والرسومات الَّتي تصدَّرت “التريند” في الفضاء الافتراضي المصري وبعض الدول العربية.
وبالتزامن، دفع النظام برجال ذوي سطوة وهيبة، وصلوا إلى موقع الحادث في سيارات خاصة، لفرض طوق أمني، قبل أن يصطحبوا معهم إلى جهة مجهولة عددًا من سكان وقاطني البناية موضع الإعلان.
وعلى التوالي، قالت الأجهزة الأمنية إنَّها توصلت إلى هوية المسؤول عن بث تلك الوسائط المصورة، وهو تقني على صلة بجيوب جماعة الإخوان في الخارج وفقًا للرواية الرسمية، كما استحدث النظام كودًا صارمًا للإشراف على تركيب وإدارة هذا النوع من اللافتات التجاريَّة، بغرض تلافي تلك الحوادث مستقبلًا، فلم كلّ هذا الهلع؟
سبتمبر 2019
أحد الدروس التي تعلمها النظام المصري، كان درسَ واقعة المقاول محمد علي قبل 4 أعوام، والتي مثَّلت حينها حادثًا فارقًا في القدرة “الفردية” على إزعاج مؤسسة السلطة وإحراجها، وتحميلها بندوب يصعب أن يمحو مرور الزمن أثرها، بل ويصفها خبراء في الشأن المصري أنَّها “كمين” أعدّ بعنايةٍ للنظام، ومسمار غائر في نعش مسيرة حكمه.
فبعد حوالي أسبوع من الكشف المتوالي الموثق لوقائع فساد السيسي وحاشيته، والذي صنع زخمًا شعبيًّا استثنائيًّا قائمًا على المفارقة بين مزاعم السيسي عن نزاهته الشخصية ونظافة يده، في ظلِّ إدارة مقدرات “بلد فقير أوي”، وبين الواقع الجديد الذي اطلع عليه المصريّون عن إهدار الأموال العامة على النزوات الشخصيَّة؛ نزل المصريون إلى الشوارع، بل واحتكوا بإصرار مع قوات الأمن في بعض النقاط بالقاهرة والسويس، ثأرًا لكبريائهم المجروح.
لكن عمليًّا كيف نزلوا؟
كانت لحظة التجمع -“العفويَّة”- هي حالة السيولة التالية لمباراة الأهلي والزمالك، التي تشهد عادة حضورًا شبابيًّا كبيرًا في الشوارع والمقاهي، وهو ما لم يكن في حسبان أجهزة الأمن حينها. ومنذ ذلك الوقت، صارت هذه المباريات والتجمعات موضعًا للريبة والمراقبة والقيود، من المخبرين والمتعاونين المحليين، حتى وصل الأمر إلى غلق المقاهي بالكلية قبل هذه المباريات!
الإعلان الذي أطاح بـ “بينوشيه”
منذ صعوده للحكم، كثيرًا ما ارتبط اسم السيسي بالديكتاتور التشيلي أوغوستو بينوشيه، ليس في الأوساط المعارضة المحلية في مصر فقط؛ وإنما حتى على مستوى الصحافة العالمية، مثل “لوموند” الفرنسية والـ “واشنطن بوست” الأمريكية، وهي الوكالات التي قدَّمت مقاربات لفهم نظام السيسي بالاستعانة بالتجربة التشيلية.
وجوه الشبه التي دفعت لاستعارة حقبة بينوشيه ومقارنتها بزمن السيسي كثيرة وملحوظة؛ بدايةً من الإطاحة بالرئيس سلفادور أليندي، وقتله، ومرورًا بالمشروعات القوميَّة ذات الطابع الدعائي، وإلى الفتك بالمعارضين، ومحاولات التحايل على الدستور لمدِّ وجوده في السلطة إلى 23 عامًا، قضى منهم بينوشيه أكثر من 15 بالفعل.
ما علاقة كل ذلك بلافتة فيصل؟
بالتأكيد، لم يُطَح بالديكتاتور التشيلي من خلال وسيط إعلاني؛ وإنما لعب الوسيط الإعلاني دور “المحفِّز” في خضمِّ رحلة النضال السياسي الطويلة، التي تخللها مئات من المقتولين والمحبوسين والمفقودين، بما أدَّى في النهاية إلى تقويض حكم بينوشيه.
أنتجت المعارضة “إعلانًا تلفزيونيًّا” مفعمًا بالحيوية والوضوح، يحتوي إيقاعًا قابلًا للثبات في الذاكرة، ساهم في دفع الجماهير للتصويت بـ “لا” في الاستفتاء على مشروع تمديد سنوات الحكم الذي قدمه بينوشيه. ويعزى إلى هذا الإعلان، الذي يدرس في مقررات الاتصال السياسي والعلاقات العامة في بعض الجامعات الكبرى، النجاح في “تنوير” الرأي العام واختراق جدران الصمت. وهو ما يبدو أنَّ نظام السيسي المهجوس بالأمن يدركه جيدًا، بخصوص دور الوسائط الإعلاميَّة في خلق محفِّز (Trigger) قد يؤدّي إلى اجترار سلسلة جديدة من الأحداث تؤول إلى ما لا يحمد عقباه.
بشرة خير؟
لنظام السيسي خبرة أيضًا في استحداث “المثير” وتوظيف “الوسائط المرئية” خدمةً لأغراض سياسيَّة، ومن أبرز تلك الأمثلة أغنية “بشرة خير” التي حققت أكثر من نصف مليار مشاهدة على “يوتيوب” وخلقت زخمًا غرائزيًّا بدائيًّا في تحريك الجمهور للانتخابات قبل عقد.
ويعضِّد القطع بوجود تلك الخبرة الواعية لدى النظام بشكل مبكر، عن الدور المؤثر للوسائط المرئية في تحريك الجمهور، استخدام الأذرع الميدانية للمجلس العسكري اللافتات الإعلانية المتحركة في الشوارع والميادين، للتشويش على حملة “عسكر كاذبون” عام 2012، كما بيَّن الاستقصائي المصور الذي أنتجته الجزيرة بعنوان “المندسّ”.
بالعودة إلى “بينوشيه” والمادة المصورة التي أنتجتها المعارضة في تشيلي، فقد حاول رجال الديكتاتور التقنيون إنتاج إعلان موازٍ يستخدم نفس الثيمات التي استخدمها إعلان المعارضة، ولكن برسالة معكوسة مفادها أنَّ العزوف عن التصويت بـ “نعم” لصالح بينوشيه سيؤدِّي إلى جر البلاد للفوضى، لدرجة الاستعانة بـ “زجاجات مولوتوف” في الإعلان، فجاء الإعلان مبتذلًا، تمامًا كما فعل نظام السيسي، ردًّا على لافتة فيصل، بنشر دعاية معارضة للإخوان على اللوحات الإعلانية الكبرى في القاهرة.
الخلاصة: استطاع مجهود فردي بسيط مبتكر إحداث أثر ميداني عظيم في المباراة ضد الاستبداد في مصر، ولكن لأنَّها مباراة سياسية، فقد أسرع النظام، كما فعل في سبتمبر 2019 لسدِّ الفجوات وإحكام السيطرة على المنافذ غير التقليديَّة. وهو ما يقودنا إجمالًا إلى الاستبصار بأهمية الجهود المبتكرة غير المألوفة في المعارضة، بما في ذلك الوسائط المرئيَّة التي تخاطب الوجدان، ويسهل تداولها، وتعتمد في رسالتها على الوضوح والبساطة.