في صباح يوم 7 أكتوبر أطلقت حركة حماس عملية عسكرية غير مسبوقة تمكّن خلالها ألف مقاتل على الأقل من اجتياز الجدار العازل بتقنياته المتطورة، فاجتاحوا المواقع والحواجز العسكرية والمستوطنات في منطقة غلاف غزة، وصولًا إلى السيطرة على مقر قيادة فرقة غزة بجيش الاحتلال في مفاجأة استخبارية من العيار الثقيل. وتتكشف تباعًا حجم الخسائر الإسرائيلية التي تجاوزت ألف قتيل حتى الآن، وهو ما يفوق خسائر الاحتلال في حرب 1967 وحرب لبنان 2006 مجتمعين.
رغم أنَّ المعركة ما زالت في بداياتها والأحداث ما زالت تتفاعل والأبعاد الكاملة لما يحدث تتشكل حتى الآن ويصعب التنبؤ بها، فإنَّ هناك مجموعة من التداعيات يمكن قراءتها مبكرًا، إذ لن يمحيها الرد الإسرائيلي مهما كانت نتائجه اللاحقة.
انهيار الثقة بالجيش الإسرائيلي واستخباراته
يمثل جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية والاستخبارية عمود خيمة الدولة في إسرائيل، وإنَّ الفشل الاستخباري في رصد استعدادات المقاومة للهجوم وفشل جيش الاحتلال في التصدي للاندفاعة الفلسطينية التي وصلت إلى عمق 30 كيلو مترًا على الأقل داخل أراضي 48، يرسمان مشهد انهيار الثقة في المنظومة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، ويصعب أن تنسى العقلية الصهيونية مشاهد أسر أعداد غفيرة من الجنود والمستوطنين واقتيادهم إلى داخل غزة، ما يجعل الخوف من زوال الاحتلال هاجسًا حاضرًا وليس خوفًا متخيلًا فقط.
تلك المشاهد التي تضرب نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على شن الحرب في أرض الخصم وامتلاك زمام المبادرة، قد تؤدي إلى تعميق الخلافات الداخلية بين الإسرائيليين سواء بصعود التوجهات اليسارية الداعية لعقد اتفاقيات سلام مع الفلسطينيين والمحملة لليمين الصهيوني المسؤولية عما حدث بسبب سياساته القمعية وانتهاكاته المتكررة للأقصى وتضييقه على الأسرى في السجون وسعيه إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة وعدم توفيره أي أمل للفلسطينيين في غد أفضل، أم بصعود تيار اليمين الذي سيروج لعدم إمكانية التعايش مع أي وجود فلسطيني وضرورة تهجير الفلسطينيين بالكامل من أراضيهم والقضاء على حركات المقاومة في غزة والضفة مهما كانت التكاليف والتداعيات.
انتهاء مستقبل نتنياهو السياسي
إنَّ نتنياهو هو أكثر السياسيين بقاءً في مقعد رئاسة الوزراء في إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948، وهو من اليمين الذي استفاد من تداعيات حرب أكتوبر، فقد أشار نتنياهو في مذكراته التي نشرها في عام 2022 إلى أنَّ إحجام رئيسة الوزراء جولدا مائير عن شن هجوم مضاد في حرب عام 1973 رغم توافر معلومات مسبقة بأنَّ الجيشين المصري والسوري يستعدان للهجوم، وذلك لتجنب إغضاب واشنطن كان خطأ جوهريًّا. ويؤكد أنَّ صدمة مقتل عدد كبير من الجنود الإسرائيليين وسوء الإدارة من الحكومة في المراحل الأولى من الحرب أدت إلى تراجع شعبية حزب العمل، وهو ما تأكد في عام 1977 مع انتصار حزب الليكود للمرة الأولى في انتخابات الكنيست.
اليوم غالبًا ستنتهي المسيرة السياسية لنتنياهو بسبب أحد أكثر الانهيارات الأمنية كارثية في تاريخ دولة الاحتلال، فمع هدوء غبار المعركة ستتشكل لجان تحقيق لتحديد أوجه القصور ومحاسبة المسئولين عنها، وفي مقدمتهم سيكون نتنياهو الذي أشغل الرأي العام الإسرائيلي بتعديلاته القانونية التي أحدثت شرخًا اجتماعيًّا غير مسبوق، وهو ما قاد إلى نزول مئات الآلاف من أنصار المعارضة للشوارع وتسرب إلى داخل جيش الاحتلال عبر رفض العديد من ضباطه وجنوده للتعديلات، مما أضعف من قوة إسرائيل أمام خصومها وبعث الأمل في إمكانية مرورها بطور تحلل ذاتي وأتاح لفصائل المقاومة مساحات جديدة من العمل الفعال، وهو ما يتحمل نتنياهو المسئولية عنه بالدرجة الأولى في نظر الشارع الإسرائيلي.
انهيار مقاربة تجاوز الفلسطينيين
لقد تبنى نتنياهو بالتنسيق مع إدارة ترامب نهجًا يقوم على التطبيع مع الدول العربية عبر تجاوز القضية الفلسطينية كما في اتفاقية إبراهام، وقد صرح نتنياهو منتشيًّا في مذكراته (للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل، تحقق السلام دون التنازل عن الأراضي … سلام قائم على المصالح الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية المتبادلة التي استفادت منها جميع الأطراف). لكن جاءت عملية طوفان الأقصى لتثبت استحالة تحقيق إسرائيل للأمن مع استمرار انتهاكاتها للفلسطينيين واحتلالها لأراضيهم.
لقد أعادت عملية “طوفان الأقصى” ملف الاحتلال الإسرائيلي والصراع معه إلى أجندة السياسة العالمية، التي غضت الطرف عنه لصالح ملفات أخرى في ظل الاطمئنان على الأمن الإسرائيلي وعدم وجود تهديدات قوية تحيط به، فعقب بدء الهجوم أعلنت إدارة بايدن إرسال حاملة طائرات وسفن ومساعدات عسكرية عاجلة لإسرائيل، كما أعلنت واشنطن وباريس ولندن وروما وبرلين في بيان مشترك دعم إسرائيل في معركتها، وهو ما يشير إلى شعورهم بخطر جاد يتهدد دولة الاحتلال والتي ظهر عجزها عن خوض المواجهة بمفردها دون ظهير غربي.
وفي السياق الإقليمي، قد تؤثر المعركة الحالية في عملية التطبيع السعودية الإسرائيلية التي تجري مفاوضاتها برعاية أمريكية، إذ سيصعب على إدارة بايدن الحصول على اتفاق قبل انتخابات الرئاسة في عام 2024، فالسعوديون سيكونون في حرج من التطبيع في ظل بركة الدماء الفلسطيني المسال حاليًّا، كما يصعب على تل أبيب أن تقدمَ تنازلات للفلسطينيين خلال الشهور القادمة في ظل حجم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها، وكذلك فإنَّ مشروع الممر الاقتصادي الذي أعلنه بايدن انطلاق من الهند ومرورًا بالخليج وصولًا إلى ميناء حيفا، سيواجه عقبات جيوسياسية على وقع التصعيد الأخير، وهو ما قد يدخله إلى ثلاجة التجميد لحين اتضاح تداعيات الحرب الحاليَّة.
انهيار نهج قص العشب
لقد تبنت إسرائيل في التعامل مع قطاع غزة نهج ” قص العشب” ضمن مقاربة “المعركة بين الحروب”، التي تقوم على احتواء وردع الطرف الآخر مع عدم تجاوز عتبة الحرب، وذلك لتجنب اجتياح القطاع مع ما يرافق ذلك من حجم خسائر كبيرة متوقعة، وبهدف إبقاء الحصار على غزة والحفاظ على الأمن في الوقت نفسه.
لقد اعتبرت تل أبيب أنَّ سيطرة حماس على قطاع غزة تمثل ضمانًا ضد انزلاق القطاع إلى المجهول وأنَّ حماس عدو عاقل يراعي معادلات الصراع ويمكن ترويضه عبر تقديم بعض التيسيرات، مثل السماح بدخول بضعة آلاف من سكان القطاع للعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وهي مكتسبات ظنت إسرائيل أنَّ حماس لن تفرط فيها بسهولة في ظل وصول نسبة البطالة بقطاع غزة إلى 74% بحسب بيانات مركز الإحصاء الفلسطيني، ولكن تبددت تلك الفرضيات الإسرائيلية على وقع الهجوم المباغت في مطلع عملية طوفان الأقصى.
تبخر التهدئة الإقليمية
خلال العامين الأخيرين سادت مقاربة التهدئة والمصالحة في المنطقة، إذ انتهت أزمة حصار قطر بمصالحة خليجية، كما تصالحت تركيا مع السعودية والإمارات ومصر، فيما رعت الصين اتفاقًا لتطبيع العلاقات السعودية الإيرانية، كما عاد النظام السوري إلى الجامعة العربية. وبدا أنَّ المنطقة تتجه نحو الاستقرار مع الحديث عن أهمية صرف الجهود للتنمية الاقتصادية، لكن جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتشعل الأجواء مجددًا، ويمتد قوس الأزمة من غزة وفلسطين المحتلة إلى لبنان، وسط احتمالات بتحول الصراع إلى حرب إقليمية تتدخل فيها أطراف عراقية ويمنية وصولًا إلى إيران، وهو ما يثبت أنَّ تجاهل مسببات الصراع وتجاوزها لا يلغيها بقدر ما يخفيها إلى أن تنفجرَ في وقت ما لتدمر مقاربة الاستقرار الإقليمي.
الآفاق المستقبلية
لقد انهارت المقاربة الإسرائيلية في التعامل مع قطاع غزة دون وجود بديل محدد، وإنَّ السعي للقضاء على حماس وفصائل المقاومة في غزة ثُمَّ تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية هو أمر غير عملي في ظل حالة التفكك والضعف التي تمر بها السلطة، بينما سيكلف خيار إعادة احتلال القطاع إسرائيل الكثير بشريًّا وماليًّا، ومن ثَمَّ نصبح أمام مستقبل غامض.
إنَّ نجاح حماس وفصائل المقاومة في الصمود أمام رد الفعل الإسرائيلي الوحشي، سيغير معادلات الصراع وسيجعل المقاومة رقمًا لا يمكن تجاوزه وسيجعل لكل تحذير أو تهديد منها صدى كبيرًا، وهو ما ستحاول إسرائيل بكل قوتها ألا يتحقق، لكنها ليست الطرف الوحيد في المشهد كي يكون الأمر مرهونًا بإرادتها وحدها، فالإرادة الفلسطينية يمكنها إعادة رسم معادلة الصراع بما يخدم مسارها ويفرض على الجميع احترامها كلاعب ذا ثقل.
إنَّ احتمال تطور القتال إلى حرب إقليمية أمر وارد، وبالأخص مع استمرار المناوشات من جبهة لبنان والجولان، بهدف تخفيف الضغط عن غزة وبرغم أي تطورات مستقبلية، فإنَّ مشاهد اليوم الأول من القتال ستظل تمثل إنجازًا معنويًّا غير مسبوق، سيساهم في صعود خيار المقاومة وإثبات قدرتها على الفعل والتأثير رغم فوارق القوى المادية لصالح الاحتلال.