ماثيو دوس، فورين بوليسي، 19 أكتوبر 2023
في كتابه الشهير “قصر أحلام العرب” الصادر عام 1998، قدم الباحث الراحل فؤاد عجمي نقدًا للقوميين والمثقفين العرب في القرن العشرين قائلًا إنَّهم بنوا ما اعتبره إحساسًا خياليًّا بإنجازاتهم الخاصة، وادعى بدوره أنَّهم روجوا لنظرة عالمية شوفينية وتآمرية. وكتب عجمي “في التاريخ السياسي العربي المليء بالأحلام المحبطة، لن يُمنح الكثير من الشرف للبراجماتيين الذين يعرفون حدود ما يمكن وما لا يمكن فعله…إنَّ الثقافة السياسية القومية احتفظت بدعمها لأولئك الذين قادوا حملات مدمرة سعيًا لتحقيق مهام مستحيلة.” وللمفارقة فقد أصبح عجمي لاحقًا مثقف البلاط المفضل والمدافع بقوة عن الحملات المدمرة التي شنتها إدارة جورج بوش الابن في سعيها لتحقيق مهام مستحيلة.
لقد شهد الأسبوع الماضي تدمير قصر أحلام آخر، والمتمثل في جهود إدارة بايدن لتعزيز البنية الأمنية في الشرق الأوسط، حيث تهيمن عليها الولايات المتحدة من خلال اتفاقيات دفاع وثيقة مع مختلف الحكومات القمعية في المنطقة. وكان الرجل المسؤول عن ذلك هو بريت ماكجورك المسؤول الأعلى عن سياسة الشرق الأوسط في البيت الأبيض، الذي شغل مناصب سياسية رفيعة في كافة الإدارات الأمريكية منذ إدارة جورج بوش الابن، بما في ذلك المستشار القانوني للاحتلال الأمريكي للعراق.
على عكس “أجندة الحرية” التي تبناها بوش في الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر، التي على الرغم من عيوبها الإستراتيجية وعواقبها الكارثية والمميتة، كان لها على الأقل عنصر سياسي حقيقي لتعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية، فإنَّ عقيدة الرئيس جو بايدن للشرق الأوسط، كما أوضحها ماكجورك في خطاب ألقاه في فبراير الماضي، تُظهر قدرًا ضئيلًا من الاهتمام بكيفية حكم شعوب المنطقة. وجاءت فيها إشارة موجزة روتينية لعنصر “القيم” إلى حد يجعلها مهينة.
ففي تناقض صارخ مع وعود حملته الانتخابية بإعطاء الأولوية لحقوق الإنسان، نجح بايدن كرئيس في تقريب الولايات المتحدة من المستبدين في الشرق الأوسط، وبينما كانت إدارة بايدن في البداية تبتعد عن اتفاقات أبراهام التي توسطت فيها إدارة ترامب، سرعان ما تبنتها في اعتقاد مضلل مفاده أنَّ إبرام صفقات أسلحة مع الحكومات المسيئة وتسميتها “بجهود السلام” هو وسيلة جيدة لتعزيز أمن الأمريكيين وازدهارهم.
بكوني شخصًا عمل مع فريق حملة بايدن لتأمين حقوق الإنسان والالتزامات السياسية الأخرى في برنامج الحزب الديمقراطي لعام 2020، فإنَّ تتبع التنفيذ المطرد لهذا النهج يذكرني بجملة قديمة لليلي توملين “بغض النظر عن مدى سخريتك، فمن المستحيل مواكبتها.”
ومن الأمثلة على ذلك جهود الإدارة الرامية إلى عقد اتفاقية دفاعية بين الولايات المتحدة والسعودية في إطار ما يسمى بالتطبيع السعودي الإسرائيلي لتسهيل الترويج لها محليًّا، ولكي نكون واضحين، فإنَّ التطبيع أمر جيد “بحسب زعم الكاتب”. لقد حان الوقت لقبول إسرائيل في المنطقة، لكن لسوء الحظ فبدلًا من قبولها كديمقراطية ليبرالية، فإنَّها تأخذ مكانها باعتبارها مجرد دولة من بين العديد من الدول القمعية، ومع ذلك إذا أرادت إسرائيل والسعودية تطبيع العلاقات، فيجب عليهما القيام بذلك وهو ما يفعلانه عمليًّا.
ومع ذلك لا يوجد سبب يدعو إلى ضرورة ضمان مثل هذا الاتفاق من القوات الأمريكية وأموال دافعي الضرائب، ناهيك باشتراط عقد معاهدة تحالف عسكري وبرنامج نووي يتيح صنع أسلحة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فهو رجل ثري زئبقي طفولي التصرف، ومن بين العديد من الأفعال التي ارتكبها قيامه بقتل وتقطيع أوصال الصحفي جمال خاشقجي.
إنَّ الهدف الأساسي من الاتفاق السعودي الذي اقترحته إدارة بايدن ونهجها الإقليمي الشامل هو إبعاد الصين عن المنطقة، إذ يمكن النظر إلى السماح للصين بالتوسط في انفراج بين السعودية وإيران في مارس جزئيًّا، على أنَّه جهد من جانب السعوديين لمناكفة الولايات المتحدة وانتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب من الحكومة الأمريكية المهووسة بالصين. وكما عبرت كاتبة العمود في مجلة فورين بوليسي إيما أشفورد مؤخرًا في نقد ممتاز وشامل للاتفاقية، فإنَّ “السيناريو الأكثر ترجيحًا لهذه الصفقة هو أن تتولى الولايات المتحدة مسؤولية الأمن السعودي بينما تظل الصين الشريك الاقتصادي الأكثر أهمية للمملكة. هذا يبدو صفقة سيئة “. وفعلًا هي كذلك، فحتى لو نجحت هذه السياسة، فإنَّها ستؤدي إلى مستقبل من القمع في المنطقة، على أمل أن يؤدي سجن الشعوب إلى توفير الأمن والاستقرار للولايات المتحدة.
من بين أولئك الذين يتعرضون للسجن الأكثر قسوة بطبيعة الحال هم الفلسطينيون، الذين لا تقدم لهم عقيدة بايدن سوى القليل من الوعود الغامضة بإنشاء دولة فلسطينية، في محاولة لإبقاء احتمال حدوث ذلك في يوم من الأيام أمرًا واردًا.
وفي حين لا ينبغي لأحد أن يتصور أنَّ الحكومة السعودية تهتم كثيرًا بالفلسطينيين، فإنَّها حساسة بما فيه الكفاية للرأي العام الإقليمي، لدرجة أنَّ ولي العهد أعلن أنَّ التطبيع توقف مؤقتًا في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة.
تفترض عقيدة بايدن أنَّه يمكن تنحية الفلسطينيين جانبًا وتقديم بعض الفتات لإبقائهم هادئين دون بذل أي محاولة لمعالجة المصدر الرئيسي للعنف: الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، الذي مضى عليه الآن أكثر من نصف قرن من الزمان. لقد أدرك العديد من الذين يتعاملون مع هذه المنطقة وشعوبها -إن لم يكن معظمهم- أنَّ هذا ضرب من الخيال. وعلى مدى الأسبوع الماضي، رأينا جميعًا بوضوح مدى خطورة هذا الخيال ومأساويته، فهذا الصراع قادر على إعادة تأكيد نفسه على الأجندة العالمية.
لقد حطم الأسبوع الماضي مرة أخرى، الفرضية القائلة بأنَّ واشنطن يمكن أن تستثمر في علاقاتها مع الحكومات التي تنكر الحقوق الأساسية للحصول على الأمن والاستقرار للأميركيين، وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها الولايات المتحدة من هذا الخيال؛ لقد قدمت أحداث 11 سبتمبر دعوة إيقاظ مماثلة. قد تنجح الإستراتيجية لبعض الوقت، لكنها لن تعمل إلى الأبد. وتقدم إستراتيجية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتمثلة في دعم حماس اقتصاديًّا لإبقاء الفلسطينيين منقسمين مثالًا على نهج مماثل.
لقد كانت الضرورة القصوى لنهج بايدن في التعامل مع الشرق الأوسط تتلخص في الحد من اهتمام الولايات المتحدة به من أجل تمكين التركيز بشكل أكبر على المنافسة الإستراتيجية مع الصين كجزء من سياسة “المحور الأسيوي” المنشود منذ فترة طويلة. أرسلت الولايات المتحدة الآن مجموعتين من حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لمحاولة احتواء أي تصعيد محتمل خارج غزة، خاصة أي تدخل من طرف جماعة حزب الله اللبنانية المسلحة أو راعيتها إيران، ومن الواضح أنَّ هذا المفهوم الأمني الأمريكي قد فشل.
من الواضح أنَّ منظري نهج بايدن في الشرق الأوسط يعتقدون أنَّه يقدم سياسة واقعية باردة وصعبة، لكن السياسة الواقعية من شأنها أن تعكس حسابات التكلفة والعائد الفعلية للعديد من الجهات الفاعلة المسلحة والممالك الغنية بالأموال في المنطقة ــ في الأساس السعودية والإمارات العربية المتحدة، فهذا النهج لا يعمل في الحقيقة.
إنَّه مجرد شكل سيِّئ من أشكال الطوباوية، فهو قصر أحلام آخر انهار حاليًّا في طوفان الدمار الذي نراه مرة أخرى في إسرائيل وفلسطين. لقد أظهر الأسبوع الماضي أنَّ الاختيار ليس بين السياسة الواقعية والقيم، بل بين إستراتيجية أمنية أمريكية تتجاهل حقوق الإنسان وإستراتيجية ناجحة، ويبقى أن نرى ما إذا كان الرئيس بايدن قد فهم ذلك أم لا.