زيادة سعر الخبز: لا مقدَّس إلّا الرئيس

في زمن ليس ببعيد، لم تكن عبارة “لا مساس بدعم الخبز” الَّتي يلوكها حسني مبارك تعبيرًا عن إدراك السلطة الأهميةَ الثقافية والاجتماعية القصوى للخبز في حياة الإنسان المصري وحسب، وإنما أيضًا كانت تكثيفًا لمنظومة متكاملة من الثوابت والاعتبارات العامَّة الَّتي يحافظ عليها النظام، سياسيًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا، آنذاك، لضبط التوازن وضمان الاستقرار في البلاد.

فالسُّلطة في العصر المباركيِّ، رغم بطشها وضربها عرضَ الحائط بمسوِّغات مشروعيَّة أيّ سلطة كسيادة القانون والدستور والعمل على ضمان تكافؤ الفرص بين عناصر المجتمع، وهو ما أدَّى في النهاية إلى اندلاع ثورة يناير؛ فإنَّها توخت الحذر عند مناقشة مساحات معيَّنة، ليس رغيف الخبز إلا واحدًا منها.

مقدّسات مبارَك

لحسن الحظ، فبين أيدينا أرشيفًا مرئيًّا وصوتيًّا موثَّقًا، على قمَّة هرمه شهادة مبارَك نفسه، في بعض السياقات العفويَّة، على الإدراك الحاسم من قبل السلطة حينئذ للخطوط الحمراء – المقدَّسات، التَّابوهات المهم عدم الاقتراب منها، لا لكوابح أخلاقيَّة، وإنّما كتقدير موقف متعقِّل لتبعات هذا الاقتراب على الجميع.

على سبيل المثال، نجد أنَّ مبارك قد استعلن -في وقت مبكر من حقبة رئاسته- وبنوع من الفخر، برفضه مقترحًا فنيًّا من الحكومة بإنشاء عاصمة جديدة للبلاد، مبررًا ذلك التحفظ بأنَّ الأوضاع الاقتصادية للدولة لا تسمح بذلك.

كما تباهى مبارك طيلة حكمه، في الحوارات التلفزيونيَّة وفي التسريبات والغرف المغلقة، برفضه أيّ إغراءات أو ضغوط لاستحداث أوضاع قد تضرّ بالصيغة السياسيَّة والأمنيَّة والقانونيَّة الَّتي تسلَّم بها البلاد. ومن ذلك معارضته تدشين قواعد عسكرية أجنبيَّة داخل البلاد، أو مناقشة الاتفاقيات التاريخيَّة المنظّمة للانتفاع من نهر النيل، أو ترسيم الحدود في البحر الأحمر وَفقًا للرؤية السعوديَّة الَّتي تطالب بتيران وصنافير، ورفض مقترحات تبادل الأراضي (النقب – سيناء) الَّتي عرضتها إسرائيل.

وهكذا وصولًا إلى السياسات الاجتماعيَّة؛ فقضايا مثل مجّانية التّعليم والعلاج وسعر رغيف الخبز، والتوجّس من شروط المؤسَّسات الدوليَّة المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي كانت محدّدات لطريقة الحكم والإدارة، حتى مع اللجوء لها بدايةً من النصف الثاني للثمانينيات.

تداعي المقدّسات

في المقابل، فمما يمكن رصده كملمح بارز في فلسفة حكم السيسي، هو “تعمده” الدوس على ما كانت الدولة العميقة تعدّه مقدّسات في علاقتها مع المجتمع. إذ لن يكون هناك أيُّ مقدَّسٍ في هذه البقعة الجغرافية الَّتي اصطلح على تسميتها مصر إلا ركن واحد، وهو: ذات الرئيس! لا حرمة لمكان أو تقليد أو قيم، إلا نطاقات نفوذه.

ولا تتعلَّق تلك الرغبة السادية بالاضطرار السياسي، وإنما تنطلق من مضمون لحظة تأسيس النظام في 3 يوليو 2013، كانقلابٍ على الشرعيَّة والمقدَّس: الدستور والانتخابات، والاعتقاد بأنَّ هذا الانتهاك وتلك الاستباحة لكلِّ الخطوط الحمراء كفيلان بإخضاع المحكومين نهائيًّا وإلى الأبد.

ويتجلَّى العمد في الاستباحة وينتفي التبرير بالاضطرار عند وقائع مثل: نبش قبور الأعلام التاريخية والدينيَّة لتدشين جسر، أو طرد السكان من ديارهم بالقوة دون تعويض مقبول لشقِّ طريق، أو التنازل الطوعي عن جزءٍ معتبر من حصَّة مصر التاريخية في نهر النيل في 2015.

الخبز

وبالعودة إلى رغيف الخبز، الذي كان خطًا أحمر ولكنه لم يعد، فمن قصر النظر حصر تبرير قرار رفع سعره أربعة أضعاف بشروط صندوق النقد، إذ كان ضرب هذا “التابو” نصب عين السيسي منذ لحظة ظهوره الرسمي الأول في حواره مع لميس الحديدي وإبراهيم عيسى.

وقد أمر بتخفيض وزنه عدة مرات، إلى أن تقلص وزنه إلى 90 جرامًا على الورق، ولشيءٍ لا يكاد يرى بالعين المجردة في الواقع، مع زيادة نسبة “الردة” على حساب الدقيق، كما نذكر غضبه العارم قبل 3 أعوام من ثبات سعر الرغيف ومقارنته بالسجائر، وصولًا إلى الزيادة الأخيرة.

فالدوافع وراء الزيادة ليست اضطرارية فقط، وإنما نحن إزاء رجل مهجوس بضرورة كسر الكبرياء التاريخي للإنسان المصري أمام السلطة، وهو ما تطرق إليه صراحةً عند حديثه عن تراجع السادات إبان انتفاضة الخبز 1977، ليظلّ السؤال: هل سينجح في مسعاه؟

مشاركات الكاتب