عادت معادلة “وحدة المسار والمصير” لتلقي بظلالها مجددًا على الواقع اللبناني إثر انقلاب المشهد السوري رأسًا على عقب. فمع تحرير دمشق على يد مقاتلي “إدارة العمليات العسكرية” وهروب بشار الأسد إلى روسيا، باتت بيروت ملزمة بالتعاطي مع حكام دمشق الجدد في إطار سيناريو لم يكن أشد المتحمسين يتوقعه حتى أواخر نوفمبر الفائت.
تلازم المسار والمصير
تفرض الجغرافيا اللبنانية بحدودها مع سوريا شمالًا وشرقًا تلازمًا بين الواقعين اللبناني والسوري، خاصة مع وجود الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين عند حدود جنوب لبنان ما يجعل من سوريا المنفذ البري الوحيد للبنان. وبالرجوع إلى صفحات التاريخ فإنَّ لبنان يعد امتدادًا لسوريا الكبرى، بينما دمشق هي العمق الجغرافي والظهير الاقتصادي والسياسي لبيروت. أما التاريخ القريب فيؤكد أنَّ من يحكم دمشق لا بُدَّ وأن تكون له اليد الطولى في بيروت، وتؤكد هذا ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي ١٩٧٥- ١٩٨٩، وما تخللها من دور محوري للجيش السوري إبان حكم حافظ الأسد، ثم وصاية نظام الأسد على لبنان عقب اتفاق الطائف بإقرار إقليمي ودولي، وبعدها صعود حزب الله ليصبح المتنفذ الأول في المشهد اللبناني مع تعزز نفوذه في سوريا خلال الثورة السورية.
لقد كان لنظام الأسد القول الفصل في الملفات السياسية الحاسمة كانتخاب رئيس الجمهورية أو التمديد له، كما حصل مع الرئيس العماد إميل لحود، أو تسمية رئيس الحكومة وتحديد قانون الاقتراع النيابي وحظر الأحزاب، كما حصل مع بعض أحزاب اليمين المسيحي. ثم شكل الدور السوري في بيروت ملامح المشهد اللبناني عقب خروج جيش الأسد منها عام ٢٠٠٥، لتتكشف السنوات اللاحقة عن نفوذ متزايد لحزب الله في المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية، والذي تُرجم بتفوق سياسي على سائر مكونات لبنان.
نقطة التحول
حتى وقت قريب، لم يكن أكثر معارضي حزب الله في لبنان تفاؤلًا يتوقع هذا السيناريو السريع والكبير في سوريا، لكن عملية “ردع العدوان” استطاعت إسقاط نظام بشار الأسد خلال 12 يومًا لتوجه بذلك ضربة في الصميم للحزب الذي لطالما راهن على بقاء النظام. إذ يمر طريق إمداد حزب الله البري عبر سوريا بشكل رئيسي، فسقوط الأسد يعني قطع هذا الطريق، بل وانكفاء الحزب إلى الداخل اللبناني.
أما معارضو حزب الله فيرون أنَّ لهم سهمًا في انتصار الثورة السورية يعزز موقفهم في المشهد اللبناني، وتُرجم هذا عمليًّا عبر التحركات الشعبية في الشوارع وعودة التصعيد في وجه حزب الله، والمطالبة الجدية بإقرار قانون العفو العام بما يشمل الموقوفين الإسلاميين في سجن رومية الذين اعتقل معظمهم على خلفية دعم الثورة السورية.
ظهير أهل السنة
اللافت الآن أنَّ هذا التصعيد خرج من شخصيات رسمية ومرجعيات سياسية ودينية من سنة لبنان، في إشارة إلى قرار فعلي بعودة الصوت السني إلى واجهة المشهد اللبناني مجددًا. وأبرز التحركات كانت زيارة وفد هيئة علماء المسلمين في لبنان برئاسة الشيخ سالم الرافعي إلى دمشق للقاء قائد الإدارة العامة أحمد الشرع، في رسالة واضحة حول معالم المرحلة المقبلة. كما برز موقف أمين فتوى بيروت الشيخ أمين الكردي مطالبًا برفع الظلم عن الموقوفين الإسلاميين وإقرار العفو العام عنهم، ومهددًا الدولة اللبنانية إذا امتنعت عن ذلك. هذا فضلًا عن الاحتفالات الشعبية التي عمت المناطق السنية فرحًا بسقوط النظام، والتي جاءت في سياق إحياء الشارع السني بعد جرعات الأمل التي تلقاها منذ بدء معركة طوفان الأقصى في فلسطين.
المتوقع في هذا السياق أن يتصاعد الحراك السياسي السني في لبنان مرتكزًا على ارتباط وثيق مع حاكم دمشق الجديد، والذي سيعزز الموقف السني في الداخل اللبناني. لكن هذا لا يعني أنَّ أحمد الشرع سيلعب دورًا مماثلًا للوصاية السورية على لبنان بين عامي ١٩٨٩ و٢٠٠٥، إنما سيقتصر في الوقت الراهن على التأثير المعنوي. إذ يحرص قائد الإدارة العامة على إيصال رسائل طمأنة لدول الجوار مؤكدًا عدم نيته التدخل في الشأن الداخلي اللبناني.
موقف حذر لحزب الله
يعد حزب الله أكبر الخاسرين من كل ما حصل، ولذا يبدي حتى الآن مواقف حذرة تجاه النظام السوري الجديد. فمصطلح “المجموعات التكفيرية” غاب عن آخر خطاب لأمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم، والذي صرح بأنَّ موقفهم تجاه الحكم الجديد في دمشق ستحدده المواقف المستقبلية، ورغم إقراره بانقطاع طريق إمداد الحزب عبر سوريا فإنَّه أشار إلى إمكانية عودة هذا الطريق مستقبلًا، كل ذلك في إشارة إيجابية تجاه الطرف الآخر.
يدرك الحزب تراجع موقفه عمومًا بعد المواجهة الأخيرة مع الاحتلال الإسرائيلي والتي كبدته خسائر فادحة، ولذا سيبدي تنازلات واقعية وسينكفئ أكثر نحو الداخل اللبناني، وهذا ما يفسر تراجع حدة الخطاب الإعلامي تجاه مكونات الثورة السورية ومناصريها في لبنان.
استثمار بالمجان
تراجع موقف حزب الله يقابله بشكل تلقائي رجحان كفة خصوم الحزب من قوى اليمين المسيحي اللبناني، والذين هم الطرف الأقدر على استثمار هذا التحول في مقابل غياب الرؤية والمشروع لدى القوى السنية التي تعمل حتى الآن وفق ردات الفعل. وهذا سيتجلى في ملف الانتخابات الرئاسية، حيث تراجعت حظوظ مرشح حزب الله سليمان فرنجية، في مقابل تقدم مرشح الولايات المتحدة قائد الجيش العماد جوزيف عون. كما قد يحاول رئيس حزب القوات اللبنانية استثمار الحدث وترشيح نفسه للرئاسة، لكن خطوة كهذه قد تتصادم مع حلفاء جعجع الذين قد يتبنون ترشيح العماد عون.
بالإضافة لذلك، يعزز سقوط الأسد من الموقف الإسرائيلي في جنوب لبنان على حساب حزب الله، فإسرائيل التي أبدت خشية من وصول الثوار إلى الحكم في دمشق لم تخفِ ارتياحها لقطع طريق إمداد حزب الله، وهي التي دأبت خلال السنوات الأخيرة على استهداف إمدادات الحزب بين الحدود السورية مع العراق ولبنان.
لكن كل ذلك لا يعني انقلاب كفتي الميزان في لبنان بشكل كامل، فالحزب معتاد على التكيف مع المتغيرات وفق براغماتيته التي تخدم ثوابته، وأبرزها التمسك بالسلاح، والذي بدأت ملامحه تتكشف في تصريحات نعيم قاسم الأخيرة. كما أنَّ غياب الرؤية والمشروع لدى سنة لبنان حتى الآن يمنع من استثمار ناجح لهذه التحولات، بينما يُخشى من توظيفهم من قبل جهات خارجية.
ومن المبكر الآن الجزم بانعكاسات الواقع السوري الجديد على لبنان، خاصة وأنَّ القائد أحمد الشرع يحرص حتى الآن على تصريحات عامة ومحتملة. لكن الأكيد أنَّ حزب الله اليوم لم يعد ذاك الحزب المتنفذ كما بالأمس، الأمر الذي يفتح بابًا لتحالفات واصطفافات جديدة مع تغير الحسابات.