ملخص الأحداث
شهدت العاصمة الليبية طرابلس، مساء 12 مايو 2025، اشتباكاتٍ عنيفة بين “لواء 444” و”جهاز دعم الاستقرار”، أسفرت عن مقتل رئيس الجهاز “عبد الغني الككلي” التابع للمجلس الرئاسي، بعد أن تم استدراجه إلى معسكر تابع للواء 444.
وقعت المواجهات في منطقة أبو سليم جنوب طرابلس، واستُخدِمَت فيها أسلحة خفيفة ومتوسطة فيما دعت وزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية المواطنين إلى الالتزام بالبقاء في منازلهم حفاظًا على سلامتهم، في ظل الانفلات الأمني المتصاعد، كما تم تعليق الدراسة في عدة مناطق بالعاصمة لأسباب أمنية، كما اندلعت اشتباكات بين قوات الردع وقوات اللواء 444.
من جهة أخرى، بدأت تتوالى المواقف الرسمية وغير الرسمية حيال الحادث، حيث عبّر رئيس الحكومة “عبد الحميد الدبيبة” في تصريح له عن عزم الحكومة تفكيك الكيانات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة، مشيرًا إلى أنَّ ما جرى يمثل بداية لإنهاء نفوذ الجماعات غير النظامية وتعزيز هيبة الدولة ومركزيتها.
في 13 مايو، أصدرت كتائب ثوار مصراتة بيانًا شديد اللهجة، طالبت فيه بمحاسبة من وصفتهم بـ “المتورطين في عصابة غنيوة الككلي”، ووصفت الككلي بأنَّه “رأس شبكة إرهابية” سيطرت على طرابلس لعقد من الزمن، ودعت إلى تسليم المسؤولين عن التصعيد للعدالة، وفتح ملفات الانتهاكات ضد المدنيين ومحاسبة من وفر لهم الغطاء السياسي أو الأمني.
وفي 16 مايو، شهدت ساحة الشهداء في طرابلس خروج مظاهرات حاشدة ضد حكومة عبد الحميد الدبيبة، طالبت باستقالته بسبب العجز الأمني والانفلات المسلح. تخللت المظاهرات اشتباكات مع قوات الأمن أسفرت عن سقوط عدد من الجرحى، في أكبر موجة احتجاجات منذ عام 2021.
في اليوم التالي، أعلن مجلس النواب الليبي عن سحب الثقة رسميًّا من حكومة الدبيبة، واعتبر أنَّها لم تعد تحظى بشرعية قانونية أو سياسية. وأكد البرلمان أنَّه بصدد تسمية حكومة جديدة مؤقتة تتولى إدارة المرحلة الانتقالية. واستقال سبعة وزراء من حكومة الدبيبة، وأصدر المجلس الرئاسي بيانًا أعلن فيه أنَّ “ولاية حكومة الوحدة الوطنية قد انتهت”، داعيًا إلى تشكيل سلطة تنفيذية موحدة عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية عاجلة، وأكد استعداده لبدء مشاورات مع البعثة الأممية بشأن ترتيبات المرحلة المقبلة.
التحليل
منذ إسقاط نظام القذافي عام 2011، لم تنجح أي سلطة انتقالية في ليبيا في تفكيك اقتصاد العنف أو نزع الشرعية عن الجماعات المسلحة. بل على العكس، تم دمج هذه الجماعات ضمن مؤسسات الدولة بشكل وظيفي، فبات السلاح أداة تفاوض ومصدر شرعية. وحكومة عبد الحميد الدبيبة، كسابقاتها، اعتمدت على سياسة “الموازنة الميليشيوية” بدلًا من نزع السلاح، ما رسّخ فوضى مسلّحة مركّبة، ترتكز على الولاءات المناطقية والشبكات الريعية. ومقتل “الككلي” لا يمكن فصله عن هذا السياق: هو ليس فقط صراعًا بين فصيلين، بل انكشاف لمعادلة حكم تستند إلى توزيع السلاح بدل احتكاره.
فشلت حكومة الغرب في توحيد السلاح تحت مظلة عسكرية واحدة. في هذا السياق، أصبحت الكتائب المسلحة لاعبًا رئيسيًّا في المشهد السياسي بطرابلس. من بين هذه التشكيلات “اللواء 444 قتال” بقيادة محمود حمزة، و”جهاز دعم الاستقرار” بقيادة عبد الغني الككلي الشهير بغنيوة.
بدأ “غنيوة” نشاطه مستفيدًا من حالة الانفلات الأمني التي رافقت الثورة الليبية، حيث أسّس فصيلًا مسلحًا تمركز في حي أبو سليم جنوب طرابلس، ليصبح لاحقًا أحد أبرز الفاعلين المسلحين في العاصمة. ورغم أنَّ أصوله تعود إلى ككلة، فقد تمكّن من فرض نفوذه في طرابلس عبر سطوته الأمنية، ما دفع “فايز السراج”، رئيس حكومة الوفاق آنذاك، إلى إدماج مجموعته المسلحة تحت وصاية وزارة الداخلية عام 2016، في محاولة لتقنين وجوده. لاحقًا، وبدعم من حكومة “عبد الحميد الدبيبة”، تأسس جهاز دعم الاستقرار عام 2021، وتم تعيين “غنيوة” رئيسًا له، ليُمنح غطاءً رسميًّا واسع الصلاحيات، شمل حماية المقرات الرسمية، وتأمين الشخصيات العامة، ومكافحة الشغب، واعتقال المطلوبين أمنيًّا.
من ناحية أخرى، تأسست قوة 444 قتال في عام 2020 بعد فشل هجوم قوات “خليفة حفتر” على طرابلس، وتُعد واحدة من أبرز التشكيلات العسكرية التابعة لمنطقة طرابلس العسكرية. انبثقت هذه القوة عن مجموعة “20-20” بقيادة “محمود حمزة”، وهو قيادي سابق في قوة الردع الخاصة التي يرأسها “عبد الرؤوف كارة”، وقد حازت نفوذًا واسعًا في العاصمة خلال فترة قصيرة. ورغم ولاء القوتين الظاهري لحكومة طرابلس، فقد نشأ بينهما صراع خفي على النفوذ والسيطرة، سرعان ما تطوّر إلى مواجهات مسلّحة.
اندلع أول احتكاك مباشر في سبتمبر 2021 على خلفية اتهام اللواء 444 للجهاز باختطاف عناصره، في حين مثّل تصعيد أغسطس 2023 نقطة تحوّل، عندما تم توقيف قائد اللواء 444 “محمود حمزة” في مطار معيتيقة من قبل جهاز الردع، وسُلّم لاحقًا إلى جهاز دعم الاستقرار قبل أن يُفرج عنه بوساطة مجتمعية. هذا التوتر المزمن بلغ ذروته مجددًا.
اشتباك الأجهزة لا الأفراد
رغم التركيز الإعلامي على شخص “غنيوة”، فإنَّ ما جرى هو تصادم بين جهازين: “لواء 444″ و”جهاز دعم الاستقرار”. كلا الطرفين يدّعي تمثيل الشرعية، ويخضع اسميًّا لسلطة الدولة، لكنه يتصرّف ككيان مستقل ذي منطق خاص مما يعكس تنازعًا داخل الدولة، حيث تتصادم مراكز النفوذ شبه الرسمية حول السيطرة على الموارد، والتموضع ضمن المعادلة. ولذلك فإنَّ سقوط الككلي قد يكون لحظة تدشين لموجة إعادة اصطفاف بين هذه القوى، أكثر من كونه نهاية مرحلة.
وبشكلٍ عام، يبدو أنَّ الوضع في ليبيا يتجه نحو مزيد من التعقيد، فالمشهد لا تُسيطر عليه جهة واحدة، بل تحكمه شبكة متداخلة من أكثر المجموعات المسلحة، تتباين في تبعيتها، وتتضارب في مصالحها. وعلى الرغم من أنَّ بعض هذه الجهات تقع شكليًّا تحت مظلة الحكومة، فإنَّ الواقع يشير إلى أنَّ ولاءاتها الفعلية مشتتة، وتحكمها اعتبارات اقتصادية ومناطقية تتجاوز الانتماء الرسمي. هذا التعدد المسلح يؤدي بطبيعته إلى تفكك القرار الأمني، ويجعل كل صراع محلي مرشحًا للتحول إلى اشتباك واسع النطاق.
ما بعد غنيوة: فراغ أمني وتفكك داخلي
إنَّ غياب “غنيوة” عن المشهد يفتح الباب على سيناريوهات عديدة:
- انقسام داخل جهاز دعم الاستقرار بين أجنحة متنافسة، ما يؤدي إلى تفتيت هيكلي للجهاز.
- استعادة لواء 444 لمواقع نفوذ جديدة في طرابلس، مع إعادة تشكيل خريطة الميليشيات.
- دخول قوى ثالثة على الخط (مثل جهاز الردع أو كتائب الزاوية) لمحاولة ملء الفراغ.
كل هذه التحركات تجري في ظل غياب سلطة سياسية ذات شرعية قادرة على إدارة هذا التحول، ما يجعل طرابلس ساحة لتوازنات مؤقتة قابلة للانفجار.
كما إنَّ خروج المتظاهرين إلى ساحة الشهداء، وامتداد الاحتجاجات من طرابلس إلى مصراتة، يعبّر عن انتقال الغضب من حيز المطالب الأمنية إلى الاعتراض على منطق إدارة الدولة عبر الميليشيات. لكن في المقاربة السياقية، لا يمكن فصل هذه الاحتجاجات عن الأزمة الاقتصادية مع تراجع قيمة الدينار، وانسداد أفق المسار الانتخابي، وانهيار الثقة بالمؤسسات كما تجلى في استقالات الوزراء وسحب البرلمان الثقة. إنَّ ما يحدث قد يمهد لبداية تحول نوعي عبر انتقال فئات من الشارع الليبي من مطالب فئوية ومناطقية إلى مطالب تفكيك بنية النظام ما بعد 2011.
السيناريوهات الممكنة – بين انفجار شامل أو صفقة اضطرارية
تتشكل ليبيا الآن على حافة مفترق طرق:
- انهيار أمني شامل: في حال تعددت بؤر الاشتباك.
- صفقة أمنية مؤقتة: عبر وساطة إقليمية أو دولية تعيد ترتيب خريطة الميليشيات دون إصلاح جذري.
- تدخل خارجي مباشر: إذا خرج الوضع عن السيطرة، خاصة في ظل تحذيرات أوروبية من تكرار سيناريو الفوضى والهجرة.
- انتقال الأزمة من السلاح إلى الشرعية: وهو الاحتمال الأكثر ترجيحًا، عبر تصعيد في محاولة لتشكيل حكومة جديدة بصلاحيات أمنية استثنائية، تمهيدًا لمرحلة ما بعد الدبيبة، مع إبقاء المشهد الأمني في حالة كمون لا تسوية.
أخيرًا، إنَّ مقتل غنيوة وما تلاه من أحداث، ليس حدثًا أمنيًّا منفصلًا، بل لحظة تكثف فيها مأزق ليبيا: دولة بلا احتكار للعنف، وسلطة بلا شرعية، وشارع بلا أفق. المسألة تتجاوز شخص “غنيوة” إلى بنية سياسية تحكمها توازنات ميليشيوية لا مؤسساتية. وإنَّ الحل لا يبدأ بنزع السلاح فقط، بل بتفكيك منطق تقاسم الدولة بين الفصائل، والبدء في تأسيس شرعية سياسية جامعة تتجاوز معادلة القوة المفروضة بالسلاح.