لم تأخذ ظاهرة من ظواهر الشبكات الاجتماعية زخمًا بحثيًّا وصحفيًّا كتلك التي أخذتها ظاهرة الترند بوصفها محركًا أساسيًّا فعالًا في الرأي العام، ومؤثرًا قويًّا في اتجاه حركته وتوجيه تياراته المختلفة. بدءًا بسؤال كيف يبدأ عمل “الترند” وليس انتهاءً بسؤال كيف ينتهي عمله يكون الحديث عن “الترند” باعتباره قوة دافعة من شأنها تعزيز حاجة الناس للتعبير عن آرائهم والتمترس خلف مواقف بعينها من خلال صفحاتهم وحساباتهم الشخصية على الشبكات الاجتماعية.
هذه الرغبة في الإفصاح عن الرأي وتبني المواقف والدفاع عنها وما ينتج عن ذلك من توجيه تيارات الرأي العام نحو مسارات بعينها، كان وما زال محل تساؤل بحثي لا يتوقف، كما أنه محل شك سياسي وصحفي لا يتوقف أيضًا!
والحقيقة أن التساؤل ضروري والشك مطلوب جدًّا إذا كنّا نتحدث عن منصات مفتوحة يدور الحديث فيها عن جميع القضايا، والتعميم هنا ليس مجازيًّا وإنما حرفيًّا تمامًا؛ فالقضايا الدينية والسياسية وحتى الاجتماعية الكبرى لها مكانها على تلك الصفحات، بتساوٍ يكاد يكون متطابقًا مع اختلافات أذواق المأكل والمشرب. يمكنك أن تجد حديثًا واسعًا حول أشد الإشكالات العقدية تركيبًا، ثُمّ أيام ويكون الحديث بالحماس والتباين والحدة نفسها عند الحديث عن طريقة عمل “الفتة المصرية”! ولا مشكلة في هذا مجملًا فهذه في النهاية طبيعة عمل الشبكات الاجتماعية كمعبّر عن سيل جريان الحياة اليومية بأفكارها الكبرى وتفاصيلها الصغيرة، لكنها لا تنفي مجددًا وجوب الترقب الدائم والمتابعة الحثيثة من بابها الثقافي والاجتماعي كآلية لفَهم تطورات أفكار المجتمع وأنماط تفاعلاته وطرائق تعبيره، وكذلك من بابها السياسي لفهم وتصنيف تيارات عمل “الترند” وآليات توظيفها المختلفة التي في بعض الأحيان لا تكون بريئة تمامًا من التوجيه السياسي غير المباشر.
إذًا، ثمة مسالك كثيرة نطرق منها أبواب “الترند” التي منها بطبيعة الحال ما يتعلّق بنا كمستخدمين يوميين للشبكات الاجتماعية وما يدفعنا شخصيًّا للمشاركة الفعّالة في النقاشات الشبكية على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما تلك النقاشات التي تأخذ طابعًا “أخلاقيًّا” أو ما يمكن التعبير عنه بـ “الغضب الأخلاقي/ Moral outrage” ويقصد به عادة الأفكار أو الأحداث التي تأخذ طابعًا عامًا يمسّ فئات متعددة من المجتمع بأكمله وتجري عليها قوانين المصلحة والمفسدة العامة، ويستلزم التعبير عن موقفنا فيها إلى قدر كبير من الحدّية والمفاصلة الواضحة التي قد تصل إلى حافة خطر التحريض أو تهدد مفاهيم العدالة وحرية الرأي وحتى السلام المجتمعي العام!
السؤال الذي نطرحه هنا من غمار المشاهدات الحيّة التي يمكن التقاطها يوميًّا لمثل هذه النقاشات: ما الدوافع التي يمكن الإشارة إليها ورصدها كعوامل تحفيز وتحريك للأفراد تدفعهم إلى تبني مواقفهم على منصات التواصل الاجتماعي والتعبير عنها كإفصاح أخلاقي عن الذات وإشارة واضحة إلى فضيلتها وأفضليتها في بعض الأحيان؟
نحن في مرآة الترند
في مقالة مطولة نشرها موقع “Decision Lab” بعنوان “Social Media and Moral Outrage” أرجعت هذه الرغبة في المشاركة في القضايا التي تتخذ طابعًا أخلاقيًّا إلى “الجذور التطورية” للبشر ورغبتهم الأصيلة بمشاركة قصصهم العاطفية وسيلة لبناء الروابط الاجتماعية ومدّ جسور التواصل الإنساني وموائمة وجهات نظرنا عن العالم. يعزز هذه الرغبة ما يمثله موقفنا/غضبنا الأخلاقي من إشارة إلى قيمنا وهُويتنا الاجتماعية ليس فقط للآخرين وإنما لأنفسنا كذلك، فهو هنا وسيلة فعالة للحفاظ على صورتنا العامة أو محاولة تحسينها في دوائر اجتماعية معينة.
فالفرد هنا ومن خلال منشور أو تغريدة يشاركها دوائر أصدقائه الممتدة يحاول تأكيد انتمائه إلى المجموعة التي تتبنى الموقف نفسه، حتى هذه النقطة لا أحد يمكنه أن يدّعي أننا أمام إشكال ما، فالأفراد يعبرون عن آرائهم التي تحفظ لهم مكانهم بين مجموعات انتمائهم، وهو حق محفوظ للجميع في حياتهم الواقعية والافتراضية على السواء.
لكنه وكما العادة، لا تجري الرياح بما تشتهي السفن، فإن هذا الحق الطبيعي والإنساني في ظل خوارزميات شبكة اجتماعية كالفيس بوك وبفعل حالة التحفز، أخذ التعبير عن الآراء الشخصية مسارات أكثر إشكالًا وتعقيدًا!
أول هذه المسارات وأهمها هو حالة “التضخيم” التي تمنحها الشبكات الاجتماعية للحدث، بحيث يشعر الفرد أن وجوده المعنوي والمادي مهدد ما لم يتمترس خلف موقفه بأكثر أدوات الدفاع حدّة وعنف.
يمكن ملاحظة ذلك بشدّة في حالة الجدل المستعرة التي أحدثها مقتل “فتاة المنصورة”. الحادثة المفجعة التي استيقظ عليها المجتمع المصري صبيحة العشرين من يونيو، حيث عمد شاب جامعي إلى ذبح زميلته في وضح النهار على مرأى ومسمع من المارة، الأمر الذي دفع الجميع في بادئ الأمر إلى استنكاره ورفضه كليةً، ليس لبشاعته وعدم إنسانيته فقط، وإنما للشعور العارم بالتهديد الشخصي أمام حدث مماثل يمكن أن يحدث إذا لم يفرض القانون سلطته العقابية. لكن اللافت هنا، أنه في ظل حالة الخوف والقلق، وعلى الرغم من أخلاقية المبدأ العام بوجوب القَصاص من القاتل، فإن هذه المطالبة لم تأخذ مسارها المتوازن الذي من المفترض أن يكون عادلًا بوجوب اكتمال إجراءات التقاضي للمتهم وألا تتعدى حالة الغضب والرغبة في القصاص الفاعل نفسه إلى أسرته وغيرها من التوازنات التي تضمن تحقيق مفهوم العدالة وعدم الانجرار إلى عنف ضمني يأخذ صورة من صور العقاب المشروع.
مكافآت صغيرة تصنع معارك كبيرة
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، وبما أننا ندور الآن في فلك ساحات الشبكات الاجتماعية، ما الدور الذي تلعبه هذه الشبكات في مثل هذه الاحتجاجات الغاضبة والتفاعلات السياسية والاجتماعية شديدة الحساسية؟
حسب دراسة حديثة نشرتها جامعة “ييل/ Yale” البريطانية فإن ديناميكية عمل “الإعجابات والمشاركات/ Like and Share” على الشبكات الاجتماعية تعزز وتحفز ما يُعرف بـ “الغضب الأخلاقي/ Moral Outrage” وأن هذه الإعجابات والمشاركات من شأنها التأثير على التفاعلات السياسية والاجتماعية على الشبكات الاجتماعية، فضلًا عن تهديدها لمفهوم العدالة حيث يكون الغضب الأخلاقي هنا “قوة” يمكن توظيفها في الخير كما يمكن استغلالها في الشر على حدٍ سواء!
في هذه الدراسة راقب الباحثون 12.7 مليون تغريدة من 7331 مستخدمًا؛ لتتبع ما إذا كان المستخدمون قد أصبحوا أكثر غضبًا بمرور الوقت. أظهرت النتائج أن المستخدمين الذين تلقوا مزيدًا من التعليقات على منشوراتهم التي تحمل غضبًا أخلاقيًّا ونزوعًا عاطفيًّا في التعبير من المرجح أن يستخدموا الأسلوب نفسه في المنشورات اللاحقة.
ما تحاول الدراسة قوله أن الشبكات الاجتماعية بيئة خصبة جدًّا لتجاوز مفاهيم العدالة والقفز عليها من خلال عروض المكافآت التي تدخرها للمحتوى العاطفي الغاضب، فضلًا عن نمط عمل الخوارزميات الذي يجعل كل مجموعة تعيش وكأنها في جزيرة منعزلة مهددة بالفناء، مما يعزز حالة الغضب والدفاع الهوياتي العاطفي في أغلب الأحيان.
لتوضيح هذا المقصد أكثر دعنا نتصور شخصًا دخل لتوه حسابه على فيس بوك مثلًا، هو الآن محاصر بفقاعة خوارزمية تنقل له ما يتوافق فقط مع وجهات نظره حتى يتشبع تمامًا بها، لا مجال ولا سبيل لرؤية زاوية أخرى للأمر، يشعر رويدًا رويدًا بحاجته إلى إعلان موقفه وإعلان انتمائه إلى هذه المجموعة التي يقف على أرضيتها نفسها، فيختار أكثر المواقف تعصبًا وأكثر الكلمات حدّة مما يزيد من فرص انتشار محتواه بالإعجاب والتعليق والمشاركة مع الآخرين، وهو ما أشارت إليه الدراسة بعنصر “المكافأة” الذي تقدمه الشبكات الاجتماعية. يؤدي نظام المكافآت هذا إلى ديمومة المحتوى العاطفي الغاضب، لكنه يقلّص فرص إيجاد مساحات خطاب مشتركة، عاقلة ومتوازنة لأنّ مثل هذا المحتوى الرزين لا يجد الفرصة نفسها للمكافأة والانتشار.
إجمالًا، لا يمكن الجزم بآلية واحدة يعمل بها “الترند” على الشبكات الاجتماعية، كما لا يمكن الادعاء بأنه يمكن حصر جميع الدوافع التي تحرك الأفراد نحو الغوص في طوفانه والتعبير عن آرائهم، لا سيما تلك الآراء التي تأخذ صِبغة أخلاقية وتتبع نهجًا غاضبًا متجاوزًا لمفهوم العدالة وحتى منطق الأشياء في بعض الأحيان، إلاّ أنه من الواضح أنّ الانكفاء السلبي على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي والاكتفاء بما تقدمه من معلومات والاستجابة السريعة لانفعالاتها النفسية والعاطفية، لا يساعدنا كزائرين يوميين لها في تكوين تصورات متوازنة، كما لا يساعد عامة على بناء خطاب عقلاني هادف يبني مساحات مشتركة بين أفراد المجتمع الواحد.
**الآراء الواردة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر منتدى العاصمة**