“يجب على الحكومة اللبنانية أن تعلن التزامها بالقرارات الدولية ١٥٥٩ و١٧٠١، وتتعهد بتطبيقهما”
هذا ما صرح به رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في أكتوبر الماضي، معيدًا بذلك الحديث عن سلاح مخيمات اللجوء الفلسطينية إلى الواجهة حيث يقضي القرار ١٥٥٩ بنزع سلاح التنظيمات والفصائل في لبنان، وهو ما يشمل الفصائل الفلسطينية في المخيمات.
وفي المقابل ما زالت المخيمات تشيع أبناءها الذين يسقطون في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، ففي ٢١ أكتوبر الماضي شيَّع مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان المقاوم في سرايا القدس إلياس حوراني، إلى جانب ثلاثة آخرين نعتهم السرايا في مخيم الرشيدية قُتلوا في معارك مع الاحتلال الإسرائيلي جنوب لبنان. وفي ٢٦ أكتوبر، نعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قائدها الميداني سليمان الأحمد الذي قُتل في الجنوب كذلك.
ثقل ديموغرافي وازن
على إثر النكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨، وبفعل المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين حينها، لجأ قرابة ١٣٠ ألف فلسطيني إلى لبنان معظمهم من بلدات وقرى الجليل. وتوزع اللاجئون على 12 مخيمًا رسميًّا في مختلف المناطق اللبنانية، خمس منها في جنوب لبنان أبرزها مخيم عين الحلوة في صيدا والرشيدية قرب صور. لكن هذا العدد تضاعف فيما بعد، حيث بلغ ٤٨٩ ألفًا في عام ٢٠٢٣ وَفقًا لإحصاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
تظهر هذه الإحصائيات أعداد الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا، لكن العدد الفعلي يبدو أكبر خاصة مع تعمد السلطات اللبنانية إخفاء الإحصائيات الفعلية تبعًا لاستحقاقات الداخل اللبناني. فطبيعة النظام اللبناني القائمة على التوازن الطائفي تعتبر اللاجئين الفلسطينيين عامل قلق خاصة بالنسبة للمسيحيين، فيما يراهم المسلمون وخاصة السنة فرصة للحفاظ على توازن القوى في المشهد اللبناني المعقد.
ذاكرة كُتبت بالدم
منذ عام ١٩٦٨، لعبت الفصائل الفلسطينية دورًا محوريًّا في المشهد اللبناني، حيث استطاعت بسلاحها وعملها الفدائي ضد الاحتلال الإسرائيلي، انطلاقًا من جنوب لبنان، أن تحظى بتأييد الغالبية الساحقة من مسلمي لبنان وتوازن كفتهم في الداخل مع كفة الأحزاب المسيحية. ولأنَّ أحزاب اليمين المسيحي -تحديدًا حزب الكتائب اللبنانية حينها- رأت في المخيمات عامل قوة للمسلمين ينزلها عن درجة “الفئة الأولى” المهيمنة في لبنان، فقد أشعلت عام ١٩٧٥ الحرب الأهلية إثر حادثة عين الرمانة ببيروت بعد استهدافها باصًا يقل لاجئين فلسطينيين فقتلت من فيه.
خاضت المخيمات الفلسطينية إلى جانب حلفائها من السنة والشيعة والدروز حربًا طاحنة مع أحزاب اليمين المسيحي التي اجتمعت تحت عنوان “القوات اللبنانية”، شكلت المخيمات فيها “جيش سنة لبنان” في ظل انعدام تسليح السنة في مقابل الترسانة الضخمة لدى الأطراف الأخرى.
لكن أسوأ صفحات هذه المرحلة بالنسبة للفلسطينيين كانت مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، حين ارتكبت “القوات اللبنانية” مع الجيش الإسرائيلي مجزرة بحق لاجئي مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت، قتل فيها قرابة ٤٥٠٠ لاجئ جلهم من النساء والأطفال، وَفقًا للكاتب الأمريكي رالف تشونمان.
ماذا بعد اتفاق الطائف؟
بوساطة سورية- سعودية، أنهى اتفاق الطائف عام ١٩٨٩ الحرب الأهلية في لبنان، وقضى بحل “جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية”. لكن في ظل احتلال إسرائيل لجنوب لبنان حينها، فإنَّ هذا البند لم يطبق على سلاح المخيمات الفلسطينية وحزب الله. وعقب تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠، ظل هذا البند معلقًا بفعل النزاع السياسي بين حزب الله ومعارضيه حول مفهوم المقاومة والاستراتيجية الدفاعية للبنان.
في عام ٢٠٠٤، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم ١٥٥٩ الذي دعا مجددًا إلى “حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم سلاحها إلى الدولة”. لكن في ظل تصاعد الأوضاع في فلسطين والمنطقة عقب انتفاضة الأقصى واحتلال الولايات المتحدة للعراق، فقد عارض حزب الله والفصائل الفلسطينية القرار، حيث صرح القيادي في حركة حماس أسامة حمدان أنَّ “القرار ١٥٥٩ محاولة لإضعاف كل عناصر القوة في المقاومة ضد إسرائيل في المنطقة.”
ومع احتدام حرب إسرائيل على لبنان عام ٢٠٠٦، اعتمد مجلس الأمن القرار ١٧٠١ الذي أوقف إطلاق النار بين الاحتلال من جهة، وحزب الله وحلفائه من الفصائل اللبنانية والفلسطينية من جهة أخرى. كما دعا القرار لتنفيذ القرار ١٥٥٩، ما أعاد قضية سلاح المخيمات إلى الواجهة مجددًا.
إشكالية التنفيذ في الواقع اللبناني
تنبع إشكالية تنفيذ القرارات القاضية بنزع سلاح المخيمات الفلسطينية في لبنان من واقع المشهد السياسي المعقد فيه، والذي تفرض فيه الحسابات الطائفية نفسها قبل أي اعتبار.
من جهتها، تُجمع أحزاب اليمين المسيحي رغم الخلافات السياسية بينها على ضرورة حل قضية المخيمات الفلسطينية ونزع سلاحها، فقد عمقت الحرب الأهلية النظرة السلبية لدى المسيحيين تجاه المخيمات وهاجس القلق المتجدد من التغيير الديموغرافي لصالح المسلمين.
ففي حرب مخيم نهر البارد شمال لبنان، والتي انجر إليها كل من الجيش اللبناني وتنظيم “فتح الإسلام”، أيدت قوى ١٤ آذار وفي طليعتها حزبا “القوات” و”الكتائب” خيار الحسم العسكري ودعت لمعالجة موضوع سلاح المخيمات بالكامل. ورغم خلافه مع قوى ١٤ آذار وتحالفه السياسي مع حزب الله، فقد أيد زعيم التيار الوطني الحر حينها ميشال عون الحسم العسكري كذلك.
أما حزب الله وقوى العمل الإسلامي السنية من جهة أخرى فقد اتفقوا على معارضة الحسم العسكري، فأعلن الحزب على لسان أمينه العام حسن نصر الله أنَّ مخيم نهر البارد “خط أحمر”، وقدمت القوى الإسلامية السنية وساطات عدة لكنها باءت بالفشل.
قلق وخوف مبرر
رغم إجماعها على رفض خيار التوطين في لبنان وتجنبها منذ اتفاق الطائف التدخل في الشأن الداخلي، تتمسك فصائل المخيمات الفلسطينية بسلاحها تبعًا لعدة عوامل:
- ما زال هاجس التهجير القسري حاضرًا في أذهان الفلسطينيين، خاصة في ظل استمرار دعوات حسم ملف اللجوء الفلسطيني والحرب الإسرائيلية المستمرة لفرض التطبيع على المنطقة.
- تحتفظ مختلف الأحزاب اللبنانية بسلاحها في ظل مشهد سياسي طائفي شديد التأزم، ما يشكل عامل قلق مستمر للفلسطينيين في حال نشوب أي مواجهة داخلية على غرار الحرب الأهلية.
- تواطؤ المجتمع الدولي مع الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، ما يؤكد للاجئين أنَّ أحدًا لن يحميهم فيما لو قرر الاحتلال الإسرائيلي التوغل في العمق اللبناني.
معركة لا بُدَّ منها
وأمام هذه المعطيات، يُنظر لدعوات اليمين المسيحي في لبنان على أنَّها استكمال لما بدأته في العام ١٩٧٥، وانسجام مع مشروع فرض التطبيع على المنطقة، الذي يبدأ في الضفة الغربية وغزة ولا ينتهي عند حدود لبنان.
يرى حزب الله كما فصائل المخيمات الفلسطينية أنَّ فرض الولايات المتحدة لتنفيذ القرار ١٥٥٩، بفعل قوة النيران الإسرائيلية، يستهدف وجود كليهما. ولذا، يعطي الحزب دورًا متزايدًا لمختلف الفصائل الفلسطينية في معارك جنوب لبنان، خاصة من نقاط الإسناد الناري.
وبدورها، ترى الفصائل الفلسطينية وجوب مشاركتها في معارك الجنوب، إلى جانب حزب الله والجماعة الإسلامية، في ظل الخطر الوجودي الذي يهدد خمسة مخيمات للاجئين هي الأكبر في لبنان، ومطالبة الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء قرى وبلدات جنوب لبنان والتوجه شمال نهر الأولي!
لقد فرضت حرب إسرائيل على غزة ولبنان انخراط الفصائل الفلسطينية في معركة لا بُدَّ منها، لإفشال مخطط الانتقام والهيمنة الإسرائيلي. ورغم صعوبة المعركة والدعم الدولي الذي يحظى به الاحتلال، فإنَّ حرب الاستنزاف في جبال ووديان الجنوب ستحد من سقف طموحات نتنياهو، طالت المعركة أم قصرت.