دوافع وآفاق التقارب المصري التركي
شهدت الأيام الأخيرة سيلًا من تصريحات كبار المسئولين الأتراك تتحدث عن بدء تقارب مصري تركي وتواصلات دبلوماسية لحل المشاكل العالقة بين البلدين، فيما لم يبد المسئولون المصريون تجاوبًا كبيرا، وتحدث وزير الخارجية المصري عن أن مصر تنظر للأفعال وليس الأقوال، بينما انتقد الإعلام المصري التابع للنظام تركيا وتحدث عن شروط لابد لأنقرة من تنفيذها لحدوث تقارب.
ويلاحظ أن تلك المستجدات تأتي في ظل حدوث متغيرات دولية تتمثل في وصول إدارة أمريكية جديدة للحكم، وسعيها لإعادة رسم خريطة التحالفات بشكل يتخلص من الإرث السلبي لعهد ترامب على المصالح والتحالفات الأمريكية. وفي ضوء ذلك، أستعرضُ في هذا المقال دوافع التقارب بين مصر وتركيا دوليا وإقليميا ومحليًّا، وآفاق عملية التقارب.
أولًا: دور التغيرات الدولية والإقليمية
في ظل تولي إدارة بايدن للحكم في واشنطن، ورغبتها في الوصول لاتفاق جديد مع إيران فيما يخص الملف النووي بالتوازي مع رغبة إسرائيل والسعودية في تحجيم النفوذ الإيراني بالشرق الأوسط، أصبح من المهم إبعاد إيران عن الدول المقربة منها، وبالأخص قطر وتركيا. ومن تسارع تفعيل مسار المصالحة الخليجية وفك الحصار عن قطر لحرمان طهران من إيرادات مرور الطيران القطري بأجوائها، كما بدأت تلوح مؤشرات انفتاح خليجي إسرائيلي مع تركيا، بالتزامن مع تزايد الحديث عن قرب دخول الطائرات المسيرة التركية إلى ساحة الحرب باليمن ضد الحوثيين، وهو ما سيؤدي إلى حدوث توتر عميق بين تركيا وإيران. وفي الإطار الأوسع تُطرح مقاربة الاستعانة بتركيا لتقليم التمدد الإيراني في المنطقة، بما يساهم في إجبار إيران على الإذعان للمطالب الغربية والإسرائيلية، ودمج تركيا ضمن مشروع مواجهة النفوذ الإيراني، وهو ما يحظى برضا سعودي إسرائيلي.
كذلك في ظل تمركز مرتزقة فاغنر في ليبيا، وتحولهم إلى طرف فاعل في المشهد الليبي بما يسمح بتواجد روسي دائم يهدد أوروبا من الجنوب والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، تدعم الإدارة الأمريكية عملية تسوية سياسية في ليبيا تتضمن إخراج الروس من المشهد، وهو ما يستلزم إجراء تفاهمات مصرية تركية برعاية أمريكية وأوروبية لدعم الحكومة الليبية الجديدة، وإيجاد حل سياسي للأزمة الليبية يراعي شواغل الدولتين.
عملية إجبار إيران على الرضوخ للمطالب الأمريكية، وإخراج الروس من ليبيا، تتطلب تهدئة التوتر في ملف شرق المتوسط، الذي يهدد بحدوث صراع بين دول حليفة أو صديقة لواشنطن مثل فرنسا واليونان وتركيا ومصر. وهو ما يستلزم حدوث تفاهمات مصرية تركية. أي أن العوامل السابقة تتعاضد لتوفير مناخ دولي وإقليمي يعزز عملية التقارب المصري التركي.
ثانيًا: الدوافع المصرية للتقارب
في ظل قرب بدء أثيوبيا للملء الثاني لسد النهضة في يوليو 2021، وتزايد التوتر بين مصر وأثيوبيا، وإجراء مصر لتدريبات عسكرية مشتركة غير مسبوقة مع السودان على الأراضي السودانية، تحرص القاهرة على عدم فتح عدة جبهات في نفس الوقت، وبالتالي فإن حدوث تفاهمات مع تركيا بخصوص ليبيا وشرق المتوسط سيساهم في تفرغ مصر للتعامل مع ملف سد النهضة في ظل التعنت الأثيوبي.
كما أن علاقة السيسي بإدارة بايدن يشوبها الفتور، فبايدن لم يتصل بالسيسي حتى الآن، فيما اتصل وزير الخارجية الأميركي الجديد بنظيره المصري وتطرق معه لملف حقوق الإنسان الذي يمثل معضلة للسيسي مع إدارة بايدن، فانصياع السيسي للطلبات الأمريكية بتحسين الحالة الحقوقية يهز من صورته كنظام قوي يحكم قبضته على الأمور، ويفتح هوامشًا للمعارضين يمكن أن يوسعوها مستقبلا مما يشكل خطرًا عليه. وهنا يأتي دور إسرائيل التي يراهن السيسي على قدرتها على التأثير في الموقف الأميركي. حيث زار وزير البترول طارق الملا الكيان الصهيوني في فبراير 2021 في زيارة هي الأولى لوزير مصري إلى إسرائيل بخلاف وزير الخارجية منذ أكثر من 15 عامًا. وعقب ذلك زار مصر في مارس وفد أمني اقتصادي إسرائيلي رفيع المستوى، وهو ما يساهم في تعزيز العلاقات بين البلدين وتخفيف الضغوط الأمريكية المتوقعة في ملف حقوق الإنسان. وبالمقابل فمن مصلحة إسرائيل حدوث تقارب مصري تركي ضمن جهود جذب تركيا بعيدا عن المربع الإيراني.
وفيما يخص الأزمة الليبية، ففي ظل وجود تركيا كطرف فاعل في الملف الليبي، وفشل مشروع الإمارات ومصر في المراهنة على قدرة حفتر على السيطرة منفردا على ليبيا، أصبح الوصول إلى تفاهمات مع تركيا تراعي الشواغل المصرية، وتضمن عدم تحول ليبيا إلى دولة تحكمها عناصر إسلامية التوجه من الأمور الحاضرة على الأجندة المصرية.
أما ملف المعارضة المصرية بتركيا، فهو يمثل أولوية لدى نظام السيسي، وبالأخص في ظل تخوفه من اندلاع تظاهرات شعبية في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية. فالقنوات الفضائية المعارضة تمثل صداعًا للنظام، وتساهم في تحريض الشعب ضده، وبالتالي يمثل مطلب إغلاقها أولوية لدى النظام المصري، وستمثل تلك الخطوة في حال نجاحها مكسبًا كبيرًا للسيسي يعزز من شعوره بالأمن والاستقرار داخليًّا.
ثالثًا: الدوافع التركية للتقارب
توجد عدة دوافع داخلية وخارجية تدفع تركيا لإحداث تقارب مع مصر، ففي ظل وجود تصريحات سابقة لبايدن عن نيته دعم المعارضة التركية لتغيير الرئيس أردوغان، يساهم تعزيز العلاقات التركية مع إسرائيل ومصر ودول الخليج، وتخفيف التوتر في شرق المتوسط، والتوافق مع الرؤية الأمريكية لحل الأزمة في ليبيا وإخراج الروس منها، والمساهمة في تحجيم النفوذ الإيراني، في امتصاص التوتر مع إدارة بايدن، وفتح صفحة جديدة في العلاقات التركية الأمريكية. وكذلك تغرد تركيا بمفردها في مواجهة تحالف يتحرك ضدها في ملف ثروات شرق المتوسط يتكون من مصر واليونان وقبرص وفرنسا بدعم إسرائيلي وإماراتي. وبالتالي فإن حدوث تفاهمات مع مصر أمرٌ يساهم في إضعاف جبهة التحالف المعادي، ويتيح فرصة لعقد اتفاقية تقاسم حدود بحرية بين مصر وتركيا تسمح لتركيا باستثمار الثروات الكامنة في المنطقة دون الدخول في نزاعات إقليمية يمكن تفاديها.
وعلى المستوى الداخلي توجد العديد من الأصوات بحزب العدالة والتنمية تنادي بأهمية وجود علاقات جيدة مع النظام المصري باعتبار مصر دولة ذات ثقل في المنطقة، كما أنه مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في عام 2023، وعزم الرئيس التركي تغيير الدستور، ووجود العديد من الملفات الخارجية الملتهبة، يحرص الرئيس أردوغان على تهدئة التوترات الخارجية من أجل التفرغ لترتيب الأوضاع الداخلية قبيل الانتخابات. ومن ثم بدأت تركيا مؤخرا في إرسال رسائلَ إيجابية تجاه إسرائيل والسعودية والإمارات ومصر بغرض حل المشاكل العالقة وتسكين الخلافات. ويُتوقع أن العلاقات الخارجية الجيدة مع تلك الدول ستنعكس إيجابًا على الاقتصاد التركي.
رابعًا: آفاق التقارب المصري التركي
بينما تنشد تركيا تحقيق تقارب مع مصر بإرادة ذاتية إلا أن النظام المصري لا يستطيع التحرك بالمقابل منفردا في ملف التقارب، حيث أقام نظام السيسي خلال السنوات الماضية تحالفًا استراتيجيا مع دولة الإمارات، فضلا عن تحالفه مع اليونان وفرنسا وقبرص، وبالتالي لابد أن يراعي شواغل تلك الدول قبل أن يخوض مسارا للتقارب مع تركيا. وسبق أن تعثرت محاولات سابقة للتقارب في ظل عدم تشجيع حلفاء السيسي له على المضي قدما فيها.
ويلاحظ على مستوى الداخل المصري وجود تضارب في المواقف بين وسائل الإعلام التابعة للأجهزة الأمنية، حيث تطرح شروطا تعجيزية لإحداث التقارب من قبيل انسحاب تركيا من ليبيا والشمال السوري، والاعتذار لمصر عن المواقف التركية المناوئة، وضرورة اتصال الرئيس التركي أردوغان بالسيسي لإبداء حسن النوايا، وهو ما يشير إلى أن الموقف المصري لم يُحسم بعد بشكل نهائي فيما يخص شكل وحدود التقارب.
ولابد من التنبه إلى أن مصر ليست دولة تستطيع فيها المؤسسات فرض سياسات معينة على الرئيس، إنما الرئيس هو الذي يفرض خياراته على المؤسسات، وهو ما يعضده إصرار السيسي على توقيع اتفاق مبادئ حول سد النهضة مع أثيوبيا رغم توصيات المخابرات العامة ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي بخلاف ذلك.
نرجح أن المكاسب المتحققة من التقارب بين الجانبين المصري والتركي، ستكون مكاسب تكتيكية مؤقتة، فعقيدة الدولة المصرية منذ عهد محمد علي تنظر إلى تركيا كعدو ومنافس، والسيسي يرى في تركيا خطرا على نظامه ولا يسعى لإيجاد علاقات استراتيجية مع تركيا، بقدر ما يسعى للتفرغ لملف سد النهضة وتأمين وضعه الداخلي، كما أنه غيرُ حريص على التخلي عن تحالفاته مع الإمارات واليونان وفرنسا، لكنه مستعدٌ لتفاهمات تعزز من مكاسبه، وبالأخص في ملف القنوات الفضائية المعارضة بالخارج، وليبيا وشرق المتوسط.
أقرأ أيضا: دهاليز الأمن المركزي .. النشأة و المكونات (1969-2011)
اضغط لتحميل الملف