عاد الحديث عن خط الغاز العربي في الأسابيع القليلة الماضية ليكون أحد أبرز الملفات حضورًا خلال التحركات الدبلوماسية الجارية في المنطقة، فالخط الذي بدأ العمل به أواخر التسعينات إثر اتفاق جمع مصر والأردن وسوريا ولبنان يقضي بإنشاء خط أنابيب ينقل الغاز المصري إلى حمص في سوريا مرورًا بالعقبة في الأردن ووصولًا إلى طرابلس شمالي لبنان، بطول 1200 كلم وبكلفة تصل إلى 1.2 مليار دولار وينقل حوالي 10.3 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا. عام 2003 بدأ تصدير الغاز المصري إلى الأردن، وفي العام 2005 انتهت المرحلة الثانية من المشروع من العقبة إلى الحدود السورية، بينما انتهت المرحلة الثالثة عام 2008 ليصل الخط إلى طرابلس شمال لبنان. وقد كان من المقرر أن يمتد خط الأنابيب ليصل إلى تركيا في مرحلة لاحقة ليتم تصديره منها إلى أوروبا، وقد اعتبر هذا المشروع الأول من نوعه حيث كان من المفترض أن يربط القارات الثلاثة أفريقيا وآسيا وأوروبا، غير أن اندلاع الثورة في سوريا أوقف العمل بالمشروع، بالإضافة إلى توقف ضخ الغاز من مصر إثر تعرض الخط لتفجيرات عقب الثورة المصرية.
تبعًا لما سبق فإن الحديث عن استئناف المشروع استدعى الحديث عن بنيته التحتية التي قيل إنها تحتاج لإعادة تأهيل وصيانة خاصة عقب الأضرار التي لحقت به إثر الاستهداف المتكرر في سوريا، وكان من المفترض أن تستغرق هذه العملية عدة أشهر قبل استكمال صيانته، إذ قيل في أروقة الإعلام النظام السوري عاجز عن تسديد تكلفة رصد الأضرار وصيانتها، قبل أن يصرح الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني السوري الدكتور نصري خوري خلال لقاء جمعه مع الرئيس اللبناني ميشال عون أن اللجنة الفنية المشتركة اللبنانية – السورية التي كشفت على خط الغاز بين لبنان وسوريا أعدت تقريرًا يشير إلى أن الخط بحاجة إلى إصلاحات بسيطة ليصبح جاهزًاللعمل، وأن الفرق الفنية السورية باشرت بذلك، ما يدل على اندفاع سوري لإتمام هذا المشروع.
وعلى الرغم من أن أزمة الاقتصاد اللبناني التي تشمل قطاع الكهرباء، أكبر من أن تنهيها ناقلات المحروقات الإيرانية، أو قوافل النفط العراقية، أو حتى خط الغاز العربي الذي ينتهي عند محطة دير عمار في طرابلس، وهي المحطة الوحيدة القادرة على توليد الكهرباء عبر الغاز، وطاقتها الإنتاجية لا تستطيع سد العجز ولا تغذية كافة المناطق اللبنانية إنما تؤمن حوالي أربع ساعات تغذية بالطاقة الكهربائية لبعضها.. إلا أن أطراف الصراع في لبنان والمنطقة جميعها تدرك أهمية هذه الأزمات الاقتصادية التي تشكل فرصة للاستثمار السياسي وتفتح آفاقًا كبيرة في المستقبل لمن يسبق إليها.
إن الحديث عن إحياء هذا المشروع عقب عشر سنوات من الحرب في سوريا بذريعة مساعدة لبنان المنهار اقتصاديًّا والذي يعاني من أزمة حادة في قطاع الكهرباء، لا يمكن تناوله بعيدًا عن الصراع الدائر في المنطقة بين المحورين الأمريكي- الخليجي من جهة والإيراني من جهة أخرى، إذ جاءت هذه الخطوة بإقرار أمريكي ردًّا على التقدم الذي أحرزته إيران ومحورها في لبنان إثر استقدام حزب الله لناقلات المحروقات الإيرانية إلى مرفأ بانياس في سوريا ثم إدخال حمولتها إلى لبنان عبر الحدود البرية مع سوريا، وهي وإن كانت لا تكفي لسد حاجة لبنان من العجز إلا أنها استطاعت تجاوز الهيمنة الأمريكية على البحار وكسرت قانون قيصر الأمريكي المفروض على النظام السوري. هذا الأمر دفع بالولايات المتحدة الأمريكية للتفكير بخطوة تقطع الطريق على حركة النقل البحري بين إيران وحزب الله فكانت إعادة طرح مشروع خط الغاز العربي.
تدرك أمريكا جيدًاً في ظل سياستها الجديدة بالانكفاء عن منطقة الشرق الأوسط والتركيز على كبح جماح القوة الصينية المتعاظمة، تدرك عزم إيران وحلفائها على استغلال هذه الفرصة وتحقيق أكبر قدر من المكتسبات، حيث تقف موقف المنتصر في اليمن والمسيطر في العراق ولبنان والمساهم في سوريا إلى جانب روسيا، ما يدفع الإدارة الأمريكية لترتيب المنطقة مع حلفائها قبل اكتمال انسحابها، لتعتمد عليهم في إدارة المنطقة، ما يفسر تصريحات التهدئة المتبادلة بين مصر وتركيا ودول الخليج، والتفاوض الجاري في بغداد بين السعودية وإيران، وحرص دول المنطقة على حفظ مصالحها الاستراتيجية وتسوية ما أمكن من خلافات وإعادة التموضع وفق ما تقتضيه المرحلة المقبلة. ويبدو أن الإقرار الأمريكي لمشروع خط الغاز والتغاضي عن قانون (قيصر) يأتي في سياق وضع حد لإيران وأذرعها وعرقلة تمددها في لبنان والمنطقة.
إن عبور خط الغاز من سوريا المعاقَبة أمريكيًّا والمقاطعة عربيًّا يعني إحداث خرق في قانون العقوبات الأمريكي (قيصر) -برضىً أمريكي- وتحضير الأجواء لإعادة إحياء النظام السوري عربيًّا عبر تبادل الزيارات الرسمية وإبداء رغبة في إعادة فتح السفارات في دمشق، خاصة وأن دولًا عربية كالإمارات على سبيل المثال شرعت في إعادة علاقاتها مع النظام السوري، ومن المتوقع أن تتبعها دول أخرى قد تكون السعودية أحدها، ويبدو أن الإدارة الأمريكية لا تمانع في إعادة إحياء هذا النظام في مقابل قطع الطريق أمام السفن الإيرانية.
روسيا المستثمر الأكبر في المنطقة وصاحبة النفوذ السياسي والعسكري المتصاعد، لا تمانع من تفعيل خط الغاز العربي، بل تجد لها مصلحة في ذلك فهي المسيطر الأكبر على مرافق الدولة السورية خاصة موانئها البحرية في بانياس واللاذقية، وهي التي تبحث منذ مدة ليست بالقصيرة عن دور فعال في السياسة اللبنانية والمشاريع الإنمائية فيه، وتضع عينها على مرفأ طرابلس شمال لبنان، والذي يشكل بالنسبة لها موقعًا ذا أهمية متزايدة. بالإضافة إلى أن التحالف الروسي- الإيراني في سوريا وتقاطع المصالح بينهما لا يعني موافقة الروس على توسع النفوذ الإيراني، بل تجد روسيا في إيران منافسًا يزاحمها في المنطقة. لذا فإن من شأن خط الغاز العربي في مراحله اللاحقة التي قد تفتح أبواب السوق الأوروبية أمامه أن يقطع الطريق على خط الغاز الإسلامي الذي تحاول إيران إنشاءه والذي يربط إيران بلبنان مرورًا بالعراق وسوريا وتبحث من خلاله على فرصة لتصدير الغاز الإيراني والالتفاف على قوانين العقوبات الأمريكية.
أما مصر فإنها تبحث منذ سنوات عن تسويق فائض الغاز لديها في الأسواق الخارجية، والذي قد يؤمن لها عوائد اقتصادية كبيرة، وترفع من رصيد السيسي داخليًّا، كما تبحث من خلال هذا الملف عن لعب دور إقليمي في المنطقة خاصة مع عودة نشاطها في المشهد اللبناني ودورها مؤخرًا في تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة.
والأردن هي الأخرى تطمح من خلال هذا المشروع لتحقيق عائدات اقتصادية كبيرة، وتحسين قطاع الطاقة لديها، وإثبات جدارتها أمام الإدارة الأمريكية، وفتح الطريق أمام إعادة حركة التبادل التجاري بينها وبين سوريا.
بينما النظام السوري الذي يعاني من تبعات عشر سنوات من الحرب ويمر بأزمة اقتصادية خانقة ويعيش عزلة عربية منذ اندلاع الثورة هو الأكثر استفادة من استئناف هذا المشروع، فمن خرق قانون العقوبات الأمريكي (قيصر)، إلى الخروج من العزلة العربية حيث شارك وزير الطاقة السوري في اجتماع بالعاصمة الأردنية عمان جمعه مع نظرائه اللبناني والمصري والأردني، وصولًا إلى المردود المادي الكبير الذي يتوقع أن يحصل عليه النظام السوري تحت عنوان إعادة تأهيل الأنابيب أو مقابل نقل الغاز عبر الأراضي السورية، كل تلك المكاسب تصب مجتمعة في صالح النظام السوري.
أما إيران وذراعها في لبنان (حزب الله) فإنهم يعيشون سباقًا مع المساعي الأمريكية لتشغيل خط الغاز العربي، حيث يسعى كل طرف للعب دور المنقذ للبنان وإثبات جدارته مقابل فشل الطرف الآخر عن تقديم الحلول اللازمة. يبدو أن إيران تعول على عدم الوصول إلى اتفاق نهائي بين الأطراف المجتمعة في العاصمة الأردنية عمان واستمرار العراقيل المعيقة له ، الأمر الذي يعطيها المبرر لاستمرار قدوم ناقلات المحروقات بحرًا والإمساك بزمام المشهد اللبناني أكثر فأكثر.
ولعل امتعاض أطراف لبنانية من مشروع خط الغاز بات أكثر وضوحًا عقب انفجار أحد الأنابيب في منطقة عكار شمال لبنان أرجعه المختصون لعمليات تخريب متعمد للخط، فبينما تقول مصادر إن الانفجار طال خط النفط العراقي القديم، تخرج بعض التصريحات لتؤكد أن الانفجار إنما طال خط الغاز العربي. ومن المتوقع أن يعيش لبنان كعادته سجالًا حادًّا وتشنجًا سياسيًّا بين طرفي النزاع، حول نقاط أثارت تساؤلات الجميع، كان من أبرزها التحقق من كون الغاز مصريًّا لا يخالطه غاز العدو الصهيوني، وكيفية تسديد ثمن الغاز لمصر، خاصة وأن الجميع في لبنان يدركون أن زمن الهبات انتهى في عالم ما بعد الكورونا، وأن الدول المانحة للبنان على مدى ثلاثين سنة مضت هي الآن منشغلة بالتخلص من خسائرها الاقتصادية التي تسببت بها جائحة كورونا. لذا يشكل هذا المشروع فرصة للحكومة الحالية لتلبية بعض ما ظنه اللبنانيون حقيقة عقب تشكيلها ولتهدئة الشارع وضبطه ما أمكن ريثما يحين موعد الانتخابات النيابية في آذار المقبل.
لقد بات من الواضح أن المنطقة تشهد الكثير من التفاهمات والتسويات على حساب آلام وأوجاع الشعوب المكلومة، ولم يعد من المستبعد أبدًا عودة النظام السوري إلى مقعده في جامعة الدول العربية واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينه وبين بقية الأنظمة، كما باتت قضية انفجار مرفأ بيروت والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها اللبنانيون ورقة تستخدم على طاولة المساومات الإقليمية والدولية، أما خيارات الحرب والسلم والتصعيد والتهدئة فجميعها تخضع لقرارات الدكتاتوريات الدموية والتي بدورها تخدم مصالح القوى الكبرى.
إن المجتمع الدولي الذي لم تحركه مظالم المعتقلين في السجون المصرية، ولا دماء الأبرياء في سوريا، ولا التجويع والإذلال الذي يعيشه الشعب اللبناني، حركته بضع سفن إيرانية.
إن الهالة الإعلامية المصطنعة لمشروع خط الغاز تخفي وراءها الكثير من المصالح السياسية للأنظمة لا لشعوبها التي يتم إيهامها بأن المشروع سينتشلها من أزماتها الاقتصادية والخدماتية، وعلى مر عقود لم تجد شعوب المنطقة من المشاريع التي أثيرت حولها الزوبعات الإعلامية المنفعة المرجوة منها، بل كان نصيبها المزيد من القهر والإذلال.
يبقى أن هذا التفاؤل الكبير باستئناف المشروع سابق لأوانه، إذ تعترضه العقبات التقنية والسياسية والأمنية التي تتضارب الأنباء حول حلحلتها من عدمه، ولعل الأسابيع القليلة القادمة تتكشف عن خطوات عملية في هذا الإطار.