بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح ٢٣ سبتمبر سلسلة من حملات القصف الجوي المكثف على لبنان، طالت مناطق الجنوب والبقاع مخلفة بضعة آلاف من القتلى والمصابين. وجاء هذا التصعيد عقب أسبوع دموي شهده لبنان إثر عمليتي تفجيرات أجهزة البايجر واللاسلكي واغتيال قادة قوة الرضوان، والتي أعقبها رد من حزب الله بصواريخ “فادي ١” و”فادي ٢” متوسطة المدى طال محيط حيفا للمرة الأولى منذ بدء “جبهة الإسناد” في ٨ أكتوبر ٢٠٢٣. وفي ٢٠ سبتمبر، اغتال الاحتلال القيادة العليا لقوة الرضوان في الضاحية الجنوبية، ثم توجت هذه الهجمات في يوم ٢٧ سبتمبر باغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله ومعه مجموعة من أبرز قادة الحزب، في ضاحية بيروت الجنوبية أيضًا.
المزاج الشعبي تجاه الحرب
عاش لبنان حروبًا متعاقبة مع الاحتلال الإسرائيلي، وشاركت شرائح متنوعة من معظم الانتماءات الحزبية والطائفية في مقاومة الاحتلال، بدءًا من عملية الليطاني عام ١٩٧٨ فاجتياح العام ١٩٨٢، ثم حرب إبريل عام ١٩٩٦ مرورًا بتحرير الجنوب عام ٢٠٠ ووصولًا إلى حرب يوليو ٢٠٠٦.
ولهذه الحروب أثرها البالغ في ذاكرة اللبنانيين ووعيهم الحاضر، الأمر الذي جعل بعضهم منذ ٨ أكتوبر ٢٠٢٣ يقف مؤيدًا لجبهة الإسناد التي أعلنها حزب الله. لذلك، يرى الأعم الأغلب من اللبنانيين -ما خلا المارونية السياسية ومن يدور في فلكها- أنَّ حرب حزب الله اليوم حرب عادلة يجب تأييدها ودعمها، ووضع الخلافات الجوهرية مع الحزب جانبًا كما صرح بذلك الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
كما أنَّ طرف الحرب المعتدي هو “إسرائيل”، والجميع مدركون أنَّ أي موقف يصب في صالح إسرائيل سيبقى وصمة عار في صفحة صاحبه لا يمحوها الزمن. ولذا، فإنَّ لا أحد في لبنان يستطيع المقامرة بحاضره ومستقبله لخلافه مع الحزب.
النزوح الكبير
وفي مشهد يعيد للذاكرة مجريات حرب يوليو ٢٠٠٦، نزح آلاف اللبنانيين من جنوب لبنان والبقاع نحو بيروت والشمال، إثر تهديدات الاحتلال الإسرائيلي باستهداف بيوت المدنيين بحجة وجود صواريخ لحزب الله فيها.
ورغم انقسام المناطق اللبنانية وفق التوزع الديمغرافي والانتماءات الحزبية المختلفة، فإنَّ أجواء التكافل الشعبي والتضامن الوطني طغت على الانقسامات الداخلية، كما عبر عن ذلك خصم حزب الله رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عبر تغريدة على منصة (X). فقد استقبل اللبنانيون النازحين في المساجد والكنائس والمدارس، وسارعت بعض اللجان الأهلية المحلية لتوفير منازل مجانية لهم، كما انتشرت على الطرقات المشلولة بازدحام السيارات فرق لتوزيع الماء والطعام، من صيدا جنوبًا إلى طرابلس شمالًا.
لكن هذا لا يلغي وجود فئات حزبية تغلب عليها نزعتها الطائفية أو السياسية فتدفعها للتشفي بالنازحين أو منعهم من استئجار المنازل، كما صدر من بعض مناصري حزب القوات اللبنانية في منطقة عين الرمانة ببيروت مثلًا، فالانقسام الداخلي في لبنان أعمق من أن ترممه الحرب في أول أيامها. أضف أنَّ أثر تدخل حزب الله في سوريا لا يمكن مسحه من ذاكرة عامة الناس بين ليلة وضحاها، ما يعني أنَّ بعض الإشكالات الفردية لا بُدَّ وأن تقع على غرار ما حصل مع أحد النازحين في طرابلس حين أجبر على نزع صورة مقاتل من حزب الله من على زجاج سيارته.
خاصرة رخوة
رغم جماليات مشهد التضامن الوطني الحالي، فإنَّ لجوء الجزء الأكبر من مناصري حزب الله إلى مناطق بعض معارضيه قد يوفر فرصة للمتمسكين بشعار المواجهة الداخلية مع الحزب، عبر إنعاش العناوين الطائفية التي تجد رواجًا عند فئة لا بأس بها من المتحمسين الذين يسهل توظيفهم.
فقد كثرت منذ بدء التصعيد الأخير القصص المختلقة عن عناصر من حزب الله سيطروا على بعض الفنادق ومنعوا أحدًا من الاقتراب منها، رغم أنَّ الجمعيات الإغاثية والمتطوعون يتدفقون إلى هذه الفنادق دون أي تضييق عليهم. وسرت شائعات عن مخطط للحزب يهدف لاحتلال مدن وبلدات شمال لبنان وإحلال أهالي الجنوب محلهم، رغم أنَّ أهالي الجنوب خرجوا من بيوتهم لا يلوون على شيء ودون أن يحملوا معهم أي متاع.
وأمام هذه المخاطر، تقع المسؤولية على عاتق الأجهزة الأمنية اللبنانية التي سارعت لمواكبة حركة النزوح منعًا لأي احتكاك من هذا القبيل. كما تقع في الدرجة الثانية على أعيان ووجهاء المناطق المستضيفة للوافدين، بموازنة الخطاب العام وضبط المناصرين والأتباع والأخذ على يد مرتكبي التجاوزات. ثم المسؤولية أيضًا على أعيان ووجهاء النازحين أنفسهم بالمثل، عبر منع أي استفزاز أو الانجرار لأي احتكاك يراد من خلاله افتعال أزمة ما.
قد تُستغرب مثل هذه المخاوف في ظل حرب كهذه، بيد أنَّ المدرك لواقع الانقسامات اللبنانية الحادة يعلم سهولة استغلال هذه الثغرات، أو حتى سهولة وقوع تجاوزات وتطورها بشكل عفوي غير مدبر يدفع بالجميع نحو الهاوية.
كيف ستنعكس الحرب على المشهد الداخلي؟
من المبكر الحديث عن تحولات جذرية في المشهد الداخلي في لبنان أو تغير مؤثر في موازين القوى السياسية، فرغم تلقي حزب الله ضربات موجعة للغاية طالت منظومته القيادية وصولًا إلى رأس الهرم، إلا أنه لا زال حاضرًا في الميدان ويحتفظ بجزء لا بأس به من أسلحته المؤثرة، ولا يمكن بعد الحديث عن اختلال في موازين القوى يرجح كفة خصوم الحزب في المشهد السياسي اللبناني.
لقد أظهر الحزب حتى الآن تماسك بنيته الميدانية معتمدًا حتى اللحظة سياسة التصعيد التدريجي في السلاح المستخدم والمدى المستهدف، فقد استهدف تل أبيب صباح ٢٥ سبتمبر بصاروخ باليستي أرض- أرض، ثم في ٢٩ سبتمبر بصاروخ مماثل، في رسالة لإسرائيل بأن مقاتليه لا زالوا في الميدان وأنه قادر على مواصلة المواجهة.
بل إنَّ مجرد محافظة الحزب على قدراته وتماسك بنيته وبقاء انتشاره جنوب نهر الليطاني كفيل بتعزيز سرديته ودوره في الداخل، تمامًا كما حصل بعد حرب يوليو ٢٠٠٦ رغم الدمار الذي طال بيروت وجنوب لبنان.
لقد راكم حزب الله قوته وخبراته على مدى أكثر من ٤٠ عامًا، وليست هذه الحرب الأولى التي يخوضها. لذا، فإنَّ ما استطاعت المقاومة الفلسطينية فعله في غزة المحاصرة الخالية من التضاريس المساعدة يستطيع الحزب فعل أضعافه مع أرض تقاتل معه بتضاريسها وعمق جغرافي ممتد إلى الداخل السوري ومقدرات مادية وعسكرية لم تتوفر لفصائل المقاومة في غزة.
هل يرضخ الحزب لمطالب نتنياهو؟
تطالب حكومة الاحتلال الإسرائيلي بسحب عناصر حزب الله وسلاحه شمال نهر الليطاني امتثالًا للقرار الأممي ١٧٠١، لكن القراءة المعمقة لتاريخ الحزب ودعايته وسرديته ومصالحه تجعل من هذا المطلب محالًا. لقد جرب جيش الاحتلال إقامة حزام أمني في الجنوب عقب اجتياح عام ١٩٨٢، فتحوّل الحزام إلى منطقة استنزاف للاحتلال ساهمت واقعيًّا في تعزيز صورة حزب الله النمطية كحزب مقاوم وعززت شعبيته في الداخل، ثم آلت إلى الانسحاب إلى داخل فلسطين المحتلة عام ٢٠٠٠.
كما أنَّ سردية الحزب تقوم على مبدأ المقاومة بالسلاح لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة (مزارع شبعا وتلال كفر شوبا) وصولًا إلى تحرير فلسطين، ولذا فالانسحاب من جنوب الليطاني يلغي هذه السردية ويوجه ضربة قاضية لدعاية الحزب ومشروعه. وأمام هذه المعادلة الصعبة، تبدو فرص المبادرة اللبنانية الدولية التي أطلقها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ضئيلة للغاية، ما يعني أنَّ الأيام القليلة القادمة تحمل في طياتها المزيد من التصعيد.
إرهاصات اجتياح بري
أكثر الاحتلال الإسرائيلي وإعلامه في الآونة الأخيرة من الحديث حول اجتياح بري محتمل للبنان، وقد أجرى جيش الاحتلال عدة مناورات تحاكي عملية برية على جبهته الشمالية، كما استدعى لواءي احتياط في مؤشر عملي واضح على إمكانية حصول هذا الاجتياح في المرحلة المقبلة. ورغم التحذيرات الدولية من هذا السيناريو، ترى الولايات المتحدة أنَّ ما يفعله الاحتلال في لبنان ما هو إلا “عمليات دفاعية ضد حزب الله” وفق تعبير البنتاغون.
لكن من جهة أخرى، فإنَّ جيش الاحتلال أرهقته حرب غزة التي لم تنته بعد، كما أنَّ تجاربه البرية مع مقاتلي حزب الله غير مشجعة بالنسبة له، فضلًا عن أنَّ القصف الشديد والمتواصل لم يوقف صواريخ الحزب التي ما زالت تستهدف المستوطنات وعمق فلسطين المحتلة حتى اليوم.
ختامًا، فجدير بالذكر أنَّ الحروب عادة ما تكون حبلى بالمفاجآت، وأنَّها كثيرًا ما سارت عكس ما اشتهته سفن الأطراف التي خططت لها. كما أنَّه لا توجد حروب نظيفة تجنب الأبرياء ويلاتها، وما غزة والحرب المستمرة عليها عنا ببعيد. وأمام المقصلة الإسرائيلية الساعية لتوسيع المشروع الصهيوني في المنطقة، فإنَّ الحرب التي حاول حزب الله تجنب توسيعها منذ ٨ أكتوبر تبدو اليوم قاب قوسين أو أدنى.