بالرغم من كون نوفمبر شهرًا باردًا بحسب معايير الطقس، فإنَّه لم يكن كذلك في مساحة الاجتماع السياسيّ، الاقتصاد وأحوال الناس في مصر. فقد اكتظ بأجندة تشريعيّة – قانونيّة حسَّاسة جرت مناقشتها ومحاولة تمريرها من النظام السياسي وممثِّليه في البرلمان.
كما لم يخلُ الشهر من أنباء عن قرارات يراها المواطن أعباء جديدة، وتعتبرها الحكومة خطوات ضروريّة جريئة على طريق الإصلاح الاقتصادي.
إنَّ قوانين تمسّ الشأن اليومي للمواطن، وتتقاطع كليًّا مع مستقبله مثل قانون الإجراءات الجنائيّة الجديد، وتنظيم منح الجنسيّة للأجانب، وقانون العمل، كانت على مقدِّمة أعمال النظام ومندوبيه في باب التشريع وجرى قطع أشواط بيروقراطيَّة لتمريرها.
كذا، استمرّ الجنيه في منحاه التنازلي، البطيء حاليًّا، أمام الدولار الأمريكي، رغم مليارات الخارج التي هبطت على رأس الحكومة كمساعدات من الاتحاد الأوروبّي، أو كمقابل نقديٍّ عاجل لصفقات مشاريع بيع الرؤوس الإستراتيجيَّة الساحليَّة ومتوالية تفكيك أصول الدَّولة؛ وهو ما برّره رئيس الوزراء بالارتفاع العالمي للدولار بعد نتائج الانتخابات الأمريكيّة، لا كمؤشِّر على ضعف الجنيه.
خدمات جرى رفع قيمة بيعها -احتكاريًّا- للمواطن، سرًا دون إخطار، بأثر رجعيّ، مثل قيمة فواتير الغاز التي زادت منذ سبتمبر الماضي، بلا إعلان رسمي صريح، وأخرى يُخطَّط لزيادتها جذريًّا مثل رسوم باقات الموبايل والإنترنت.
مُستجَّدات إقليميَّة تقاطعت لحظيًّا في الجغرافيا المصريّة، على نحو مكثِّف لتعارض انحيازات النظام السياسي الحاكم مع قيم السّواد الأعظم من المصريين، مثل رسوِّ السفينة كاترين المشبوهة في أحد مرافئ المتوسِّط، وعبور القطع البحريّة الحربيّة الإسرائيليّة مشهديًّا من قناة السويس بلا قيود.
كلّ هذا كان في شهر واحد من تاريخ المصريين، فكيف تفاعلوا معه؟
استمرار النضال الفئوي عمّاليًّا
عطفًا على ما رصدناه في موجز أكتوبر من حراك عمّالي، بالقطاع الخاص وقطاع الأعمال العام، تراوح بين الاعتصامات الجزئيّة والتلويح بالإضرابات، كما في حالة شركة مصر للألومنيوم، أو في حالة عمال شركة السكر، لوحظ أيضًا حراك عماليٌ واضح في نوفمبر.
فقد تظاهر العمال في ساحة شركة سيديكو للأدوية، في الثالث من نوفمبر، اعتراضًا على ما قالوا إنَّه “حرمانهم من حقهم في زيادة ألف جنيه” وفقًا للوائح، واضطراب السلَّم الوظيفي للشركة بما لا يراعي الأقدميّة والجيل الثاني من المؤسسين.
وردًّا على ذلك، استخدمت إدارة الشركة ورقة الإجازة الإجباريّة لقطع الطريق على العمّال بشأن احتمال الإضراب عن العمل داخل الشركة، مع وعود خلال الإجازة -يوم واحد- باجتماعات تفاوضيّة مع الإدارة لبحث المطالب.
وبعدها بثلاثة أيّام، في أقصى الجنوب، تظاهر عمّال شركة كيما أسوان، احتجاجًا على تقليص الأرباح السنويّة للنصف، وسوء تعامل العضو المنتدب للشركة مع العمّال، وبالرغم من عودة العمل، فإنَّ الوضع متأزّم داخل الشركة بين الإدارة والعمّال.
ملفّات مفتوحة: كرّ وفرّ
في الرابع من نوفمبر، اندلعت اشتباكات في قرية جميمة بين بدو مطروح وبين قوّات الجيش، الّتي استخدمت الأعيرة الناريّة لمنع المحتجّين من المساس بمعدَّات البناء، والَّتي تعود كما يقول أبناء القرية، إلى رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، ممّا أدّى إلى إصابة شاب. وذلك على خلفية رفض الأهالي تنفيذ الجيش لعمل رفع مساحي لأراضيهم المخطط تسليمها لهشام طلعت مصطفى لإقامة مشروع ساوث ميد السياحي
وكمحاولةٍ لاحتواء الأزمة -جزئيًّا- لحين التفاوض على شروط مرضية للصفقة، نُقل المصاب للعلاج في أحد مستشفيات الجيش، وفي اليوم التالي، سحبت الشركة المنفذة للمشروع المعدّات، وهو ما اعتبره أهل القرية انتصارًا لحقوقهم المشروعة.
تعود جذور المشكلة إلى تخصيص وزير الدفاع السابق محمد زكي مساحة 5540 فدانًا بجهة غرب محطة الضبعة النووية لصالح الجيش، ثم منح تلك الأرض إلى مشروع “ساوث ميد” ضمن مشاريع مدينة رأس الحكمة الجديدة، بينما يملك الأهالي عقود موثقة بملكيتهم للأرض. يريد الأهالي التفاوض مع المستثمرين مباشرة على أسعار التعويض، وهو ما يرفضه الجيش الذي يصر على أن يكون وسيطًا، فيما يعرض مبالغ ضئيلة للتعويض تبلغ 3000 جنيه للمتر في المباني المسقوفة بالخشب، و7000 لمتر المباني الخرسانية، و1000 جنيه عن كل شجرة دون التعويض عن الأرض الزراعية ذاتها.
السيناريو ذاته بمطروح تقريبًا تكرّر في “الورّاق”، ففي محاولةٍ لخنق اقتصاد سكّان الجزيرة وكسر إرادتهم، تفرض قوّات الأمن قيودًا على إدخال مواد البناء إلى أهل المنطقة، لدرجة وصف أحد محاميِّ السكَّان تعامل السلطات مع سيّارات نقل مواد البناء كما لو كانت «مخدّرات» وهو ما أدّى في النهاية إلى تجدد الاشتباكات بحلول 19 نوفمبر.
آنذاك، اعتقلت قوّات الأمن عددًا من رجال الجزيرة، وفي غضون يومين من التفاوض بين الشرطة وبين كبار السكان من ممثلي الجزيرة، تم الإفراج عن 8 شباب قبل إحالتهم للنيابة والمسار القضائي، مقابل وقف الاشتباكات، ليبقى الوضع على ما هو عليه مشحونًا حتى إشعار آخر.
نزيف الأسفلت
للمرَّة الثالثة خلال شهرين، يتظاهر المصريّون على المستوى المحلّي؛ لا لتحسين ظروف المعيشة، وإنما من أجل البقاء بمعناه البيولوچي، والضغط على الدولة للاضطلاع بدورها في ضمان التوازن بين التقنية وبين السلامة العامة.
فبعد احتجاجات وثّقناها في ملف أكتوبر بخصوص تردّي شبكة الطرق وضعف الخدمات المروريّة في الجلالة وأطفيح، بما أدّى إلى إزهاق أرواح بريئة، فقد تظاهر سكان مدينة المطرية بمحافظة الدقهليّة للمطالبة بإصلاح طريق المطريّة – بورسعيد، عقب وفاة 13 شخصًا وإصابة أكثر من عشرين آخرين في حادث تصادم أوتوبيس يقل عمالًا بالمنطقة الاستثمارية في بورسعيد بسيارتين إحداهما نقل والأخرى أجرة، يوم الأربعاء 13 نوفمبر.
وفيما يبدو أنَّه محاولة للتصدّي الحازم لتلك الظاهرة، ألقت قوّات الأمن القبض على نحو 30 من السكان المشاركين في الاحتجاجات، أفرجت عن معظمهم لاحقًا، ولم يتبقّ إلا 5 أشخاص يبدو أنَّهم سيتحمّلون الكفل الأكبر من فاتورة الحادث. فقد أمرت نيابة شمال المنصورة الكليّة بحبسهم 4 أيّام، ثمّ قرّرت عن بعد محكمة دكرنس التجديد لهم 15 يومًا، مع منعهم من لقاء ممثليهم القانونيين.
حراك صحافيّ
لوحظ في نوفمبر إرهاصات حراك فئويّ صحافيّ لتحسين شروط العلاقة المهنيّة مع أصحاب المؤسسات الصحافيّة وملّاكها. حيث أضرب صحفيّو جريدة «العمّال» عن العمل لهذه الأسباب، كما دوَّن العاملون بموقع “صدى البلد” على الإنترنت عمّا يتعرّضون له من إجحافٍ شديد غير لائق في المؤسسة الثريّة، ولكنّهم سرعان ما حذفوها.
ويرجَّح أنَّ تلك الوقائع وأخرى مشابهة، أقل صدًى، ترتبط أولًا بمحاولة العاملين في هذا المضمار الاستفادة من انحيازات النقيب الحالي، خالد البلشي، التي تميل نحو الصحفيين، تزامنًا مع بحث سبل تحسين وضع العاملين في المواقع الإلكترونيَّة وضمّهم تحت مظلّة النقابة تدريجيًّا، وبدء مناقشة تعديل قانون العمل برلمانيًّا، وبوادر تفكيك إمبراطوريّة “الشركة المتحدة” وتعيين وجوه جديدة في قيادة المشهد الصحافي والإعلامي.
سياسيًّا: فلسطين والاقتراب الحذر
مطلع نوفمبر، احتج المصريّون في وسائل التواصل الاجتماعي على رسوِّ السفينة «كاترين»، المنبوذة عالميًّا لعلاقتها بتدفقات الأسلحة إلى الاحتلال، في ميناء الإسكندريّة، فنظَّموا وقفة احتجاجيّة، شارك فيها ما يمكن عده على أصابع اليد الواحدة، على سلم نقابة الصحافيين، وكان أبرزهم الناشط المفرج عنه حديثًا أحمد دومة.
وفي تجسيدٍ عملي لعمق اختناق المشهد السياسي في البلاد، رفضت السلطات منح أحد الأحزاب اليساريّة تصريحًا لمشاركة عدد محدود من الأفراد في وقفة احتجاجية ضد المجازر الصهيونية أمام السفارة الأمريكيّة.
ولم تجد السيدة ليلى سويف منفذًا للنضال دفاعًا عن حق نجلها، علاء عبد الفتاح، في الحريّة، إلّا الإضراب الجزئي المتواصل عن الطعام، ضمن حملة «تموت هي ليحيا هو» في مقامرة تقول سويف إنَّها تعرف أبعادها، لكنها اضطرّت إليها بعد استنفاد كل السبل الممكنة، وهي الطريق الَّتي قرر سجناء بدر 3 السياسيّون المضيَّ فيها أيضًا، رغم خطورتها على حياتهم؛ احتجاجًا على منع الزيارات وسوء المعاملة.
الاستنتاج
فيما يبدو، فقد بدأت حوادث الطرق تشكل شرارة دوريّة للاحتجاجات المحلّيّة. ويحفِّز ذلك الغضب الشعبي تصريحاتُ المسؤولين، وعلى رأسهم السيسي، عن ضخِّ تريليونات الجنيهات للارتقاء بقطاع النقل والمواصلات، إلى جانب تكرار شكاوى المواطنين من العيوب الفنيَّة في طرق ومسارات إقليميَّة بعينها قبل وقوع تلك الحوادث، إلى أن تصير تلك الشكاوى بمثابة النبوءة عقب كل فاجعة.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى بحث استقصائي مدعوم بالبيانات أعده الصحافي «يوسف عقيل» وقد خلص فيه، بالاعتماد على البيانات الرسمية السنوية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أنَّ عدد إصابات حوادث الطرق قد ارتفع من عام 2022 إلى عام 2023 بنسبة 27%.
عمّاليًّا، نلاحظ أيضًا بالنظر إلى تحليل معطيات وقائع احتجاج شهري أكتوبر ونوفمبر، أنَّ بعض الشركات الكبرى تميل إلى بخس العمَّال حقوقهم في حصتهم من الأرباح السنوية، بالرغم من تحقيق هذه المؤسسات أرباحًا صافية تقدَّر بمليارات الجنيهات، كما في واقعة شركة السكر الشهر الماضي.
وتلجأ المؤسسات تلك عادة إلى تراتبيَّة ثابتة في تعاملها مع الاحتجاجات العمّاليّة تبدأ بمنح العمّال إجازة غير مدفوعة، كنوع من التلويح بالاستغناء عنهم، أو بالعقاب والجزاءات على أيّام الاحتجاج، وحتَّى الاستعانة بالأمن الوطني، تحت ذريعة حماية الاقتصاد الوطني وعجلة الإنتاج.
فيما يمتلك العمّال عادة ورقة قوّة هي أثر استمرار الإضرابات على الكفاءة الفنيّة للمُعدَّات والأفران، كما في احتجاج عمّال شركة الألومنيوم أكتوبر الماضي، وهو ما تأكد في واقعة شركة حديد عز قبل ساعات من كتابة هذا الملف، حيث أدّى تعطل فرن تم شراؤه بأكثر من 4 مليارات جنيهات إلى خلل طويل في الإنتاج سيصل إلى أشهر.
أخيرًا وعلى المستوى السياسيّ، تجسِّد التطورات الأخيرة، لا سيما رفع أسماء العشرات من قوائم الإرهاب، حرفيًّا مقولة “المراوحة في المكان”، فقد سبق وأعلن النظام رفع حالة الطوارئ وتدشين الإستراتيجية الوطنيّة لحقوق الإنسان، ولكنّ ذلك لم يؤدِ إلى تغيير حقيقي في المشهد العام؛ وهو ما يرتبط بدوره بأشكال الاحتجاج المرصودة سياسيًّا، والتي يغلب عليها اليأس كما في الإضرابات عن الطعام.
اضغط لتحميل الملف